المنشور

لمّ استعجلت الرحيل يا أبا سلام؟

حزين لدرجة المرارة، لأن رجلاً مثل “أبو سلام” ليس من طباعه أن لا يقول كلمة قبل الرحيل، فالعاشق الولهان لا يترك معشوقته البحرين دون وداع، وليست من عادات “أبو الفعايل” ولا من طباعه أن يذهب دون مقدمات ولا أن يغيب دونما أعذار ولا أن يمتحن عشاق فنه ومحبيه بهذه الطريقة، ولكن وقد فعلها فإنه قد خيب ظننا هذه المرة، وأخذ منا أجمل ما كنا بانتظاره منه من أعمال منتظرة يقوم بها. لا معنى لكل ذلك فالقدر هو القدرولو أن قدر الفنان أن ينطفئ واقفاً كالشمعة، وقدر سلمان أن يكون كذلك لولا صحته التي خانته بغير سابق إنذار.

خبر وفاتك يا أبا سلام وقع علينا كالصاعقة، ذهول ممزوج بعدم التصديق، حزن وكآبة ودموع وقلب مفجوع، كيف لك أن تترجل وترحل بهذه السرعة غير الاعتيادية، وأنت الذي لا تتسرع أبدًا في إطلاق أعمالك الفنية، فالتأني كان شعارك وانتقاء الكلمات بروّية كان هدفك وعملك الفني يمر باختبارات ليصل إلي قرارك ولكن هل من معنى لهذه السرعة في رحيلك أمر يصيب محبيك ومعجبيك بالذهول والفزع والوجوم وعدم التصديق.

شيء ما يتآكل في داخلنا بهذه الفواجع المباغتة، فقد ادخلتنا يا أبا سلام في حالة ذهول وكأن الزمن يمر بسرعة مذهلة عندما نتذكر الأيام الجميلة، أيام كنا طلاباً في الجامعة، وها نحن اليوم نتجرع سم رحيلك . كنت أحاول إقناع نفسي والامل يراودني من أن الخبر المتداول غير صحيح، ولكن الحقيقة كانت أقوى، فضجيج المسجات يتوالى.

عندها تركت لخيالاتي أن تستيقظ لاقول كيف لانسان مثل سلمان زيمان الممتلئ بالحياة أن يرحل وبهذه السرعة. تذكرت أخر التفاصيل، آخر الكلمات، آخر اللقاءات وكأنما شريط الذاكرة عاد يعمل وبنشاط، فالناس الطيبون لا يرحلون عن الذاكرة ويظل طيفهم مغروساً وإن غابوا للحظات. لم تكن لدي إجابات مقنعة سوى استرجاع اللحظات الحلوة التي عشناها معًا في الأعظمية ببغداد، حتى توالت تلك الذكريات وصار من المستحيل تعدادها، عندها أفقت ولست أدري كم مرّ من الزمان على تلك الإفاقة.

عرفت سلمان منذ أن كنا طلابا في جامعة بغداد، كان صديقا لكل الطلبة محبوبا من الكل يعزف ويلحن ويغني ويزرع الفرح في نفوس من حوله ويجعلهم مبللين بالغبطة والسرور. وأشعر بأن هذا اليوم هو أكثر الأيام كآبة وحزنًا فليس من السهل أن يرحل عنك صديق بهذه الطريقة غير المتوقعة وأي صديق؟!، صديق في حجم وروعة سلمان زيمان، فرحيل كهذا يترك فينا لوعة وحزنًا وألمًا وحرمانًا من إنسان مدهش في أخلاقه، في تواضعه، في حسه الوطني، في تعاطيه مع الناس، في فنه الراقي المعبر عن هموم الناس وآلامهم ، في وعيه المبكر وخياراته الفكرية.

أستعيد تلك الذكريات من خلال الصور التي في حوزتي أرى سلمان بطلته البهية وهو حامل للقيثارة والطلبة والطالبات متحلقين من حوله، وهو يعزف ويغني للوطن. كم هو زمن جميل قضيناه بصحبة هذا الانسان الرائع صاحب القلب الواسع، عندها كنا نحلم بالوطن وبالحب،فلولا الحلم لانقرضنا، فرغم صعوبة العيش بعيدا عن الأوطان كانت طلّة سلمان زيمان تزيل عنا الهموم وأوجاع الغربة وفراق الأحبة، فقد كان كالبلسم على محيا كل طالب وطالبة، وظلت الصداقات واللقاءات مستمرة حتى وإن تفرّقنا كل في طريق.

ثمة أشياء في الحياة من موت أو خوف أو حزن يصعب علينا أن نتآلف معها ولكن الموت أعمى ولا يترك أحدًا ويأخذ منا أعزّ الأحباب والأصدقاء والرفاق والزملاء، هكذا هي الحياة على الرغم من جمالها، إلا أن المنغصات والآلام والأوجاع تظلّ لصيقة بالإنسان، ولا رادّ لها فليس كل ما نتمناه ندركه للأسف، فلا فرح من غير حزن ولا ألم من غير أمل.

الخميس الحزين سيبقي في ذاكرة محبيك يا أبا سلام يوما للوعة والفراق والفقدان والالم المضاعف هو إن محبيك وأصدقاؤك ورفاقك في ظل هذا المرض الخبيث الذي يجتاح العالم لم يترك فرصة لنا لإلقاء النظرة الأخيرة على روحك الطاهرة النقية، فسلام اليك وعليك وإلى قلبك النقي المملوء نورا وبهاءً فإنك مازلت في القلب وفي الذاكرة ولن ننساك ما حيينا فأنت باق في القلب والوجدان وفِي حنايا الروح فأنت الحبيب وأنت المحب لكل جميل، ولن أقول وداعاً بل أنت باقً وإن رحلت جسداً.

أنا عاجز عن التقاط ما يليق بك من كلمات وأنت الذي تنساب كلمات أغانيك الجميلة باريحية طارقة أجراس الامل للوطن، للحبيبة، لمن قدموا التضحيات من أبناؤه، فأغنياتك عن الجبهة والعويناتي ومجيد مرهون والشملان باقية في الذاكرة وأختيارك لكلمات الشعراء المعروفين من بحرينيين وعرب كسميح القاسم ومحمود درويش يطرق أسماعنا باستمرار.

مازلت في القلب يا أبا سلام وستظل حاضرًا بيننا بفنك الراقي، وبإرثك في كل ما قدمته مع فرقة أجراس، وبما أسست له من مداميك فنية غاصت في وجدان محبيك ومعجبيك، فالفن الراقي لا يموت وإن غاب صاحبه.