المنشور

خلل التواصل في وسائل التواصل

منذ أنّ تمّ اختراع الكتابة وهي تثيرُ إشكاليّة التواصل، وقد عرضها أفلاطون عبر قصّة تمثّل الأسطورة عن الإله “تحوت” الذي قدّم اختراع الكتابة للفرعون المصري، كانت الإشكاليّة هي أنه سيتمّ نزع السياق والهدف من المحتوى فيضيع الكلام، أي من قالهُ ولماذا ولِمن ولأجل أيّة غاية؟ ولأجل هذا قد يردّد نفس الكلام شخصٌ أحمق في موضعٍ آخر يظنُّ أنّه يقولُ شيئًا حكيمًا.
هذا الخللُ في التلقّي سيجعل من النص متعدد التأويل، ولكنّه أيضًا سيخلق إشكالية في التواصل، خصوصًا مع النقاشات التي تجري في وسائل التواصل. ولأننا لن نستطيع الاستغناء عن هذهِ النقاشات أو عن الكتابة من أجل التواصل، يبدو أن المهمّة التي علينا أن نستمرّ في ترقيعها دومًا. هي بحثُ هذهِ الإشكاليات وتلافيها المرّة تلو الأخرى.
وما يثيرُ الاهتمام لدى أي موضوعٍ يُطرح للنقاش العامّ في وسائل التواصل، هو التكراريّة في الالتباس الذي يحدثُ بين المتحاورين. (كلٌ يغني على ليلاه) بما يمنع من تبلور أيّ رأي عامّ يؤدي إلى تحقيق تقدّم اجتماعي.
ومن المسائل التي تزيدُ من هذا الالتباس، الإدعاءُ بأن الحقائق تأتي من الذات بما ينفي وجود حقائق موضوعيّة، أي أنّ الحقائق نسبيّة دائمًا بناءً على الشخص الذي يرى.
ومثال ذلك: الزعم لدى بعض النسويّات في وسائل التواصل بأنّ الرجل لا يمكن لهُ أن يفهم المرأة باعتبارها كائنًا مختلفًا، ألا يقابلها في أنها هي أيضَا لا يمكن أنْ تفهم الرجل. وبالتالي؛ فإن أي حديث عن “الذكورية” لا معنى له، انطلاقًا من عدم قدرة المرأة على فهم هذهِ الذكورية!.. هذا منطق خاطئ، لأنه بالمقابل، لن يفهم الرجلُ رجلاً آخر من وضعٍ اجتماعيّ وثقافي ومادي مختلف. وبمتوالية لا تنتهي، هكذا لن يفهمَ أيّ أحدٍ أحدًا آخر. وتنتفي بذلك أيّة حواريّة ممكنة.
أزعم العكس؛ إذ يمكن لبعض الرجال أن يفهم النساء والعكس صحيح، بأكثر مما يمكن لنفس النوع الجنسي أن يفهم في كثير من الأحيان. المسألة لا علاقة لها بالنوع الجنسي بقدر ما لها علاقة بقابلية الشخض للفهم، والتعاطف، والتقمص، مع قليل من الذكاء. من الخطأ أن يحتكر الرجل خطاب المرأة، وليس خطئًا أن يكون مساهمًا. بل إنه يجب أن تكون غاية الخطاب النسوي في إقامة هذا الحوار الذي يهدف إلى إحراز تقدّم مجتمعي، وليس عبر احتكار التمثيل الذي قد يخفي غاياتٍ سلطويّة.
فالزعم بأن الرجل لا يمكن أن يفهم المرأة يناقض ذاته منطقيّا، فكيف عرفنا ذلك؟ هذا يستلزم أن تعرف المرأةُ الرجل، حتى تستطيع أن تقرّر أنه لا يستطيع أن يعرف. وللتوضيح سأعرضه بتسلسل أبطأ:
1) لا يمكن للرجل فهم المرأة، لأنهما من جنس مختلف.
2) إذًا لا يمكن للمرأة أن تفهم الرجل لأنه من جنس مختلف.
3) وعلى هذا يترتّب: لا يمكن للمرأة أن تزعم بأن الرجل لا يفهم المرأة، وذلك لأنّها لا يمكن أن تفهم إن كان الرجل قادرًا على ذلك أم لا، لأنهما من جنسٍ مختلف.
فمن الطبيعي أن تختلف وجهات النظر، ولهذا وُجِد “الحوار”. فالخطأ ليس في من يتحدّث إذًا، رجلاً كان أو امرأة، وإنما في ما يزعمه او تزعمه. علينا أن نفرّق بين مسألة فرديّة: لا يمكن لأيّ كان “رجلاً أو امرأة”.أن يتحدث عن أحد نيابةً عنه وعن تجربته الخاصّة، أو أن يقرّر عنه. وبين مسألة اجتماعيّة: أي وضع اجتماعي/ نفسي يفرزه التمييز والتنميط. ولهذا يعتبر “الفهم” هو العتبة الأولى لإيجاد ما هو عادل ونزيه ومُحب. سوى ذلك، فهو ليس سوى فضفضة تتضارب فيها الآراء الذاتيّة التي جميعها صحيح ومتناقض في الآن ذاته.
الخللُ الآخر، هو إلى من يتمُّ توجيه الخطاب، حيث يمكن إضاعة أي فكرة في النقاش العام كان يمكن للمجتمع أن يتقدّم من خلالها، وذلك بسبب الخلط بين ما هو فرديّ وما هو مجتمعي.
مثال: خبر يتمُّ نشره في وسائل التواصل “طفلٌ يصاب بالكورونا، وذلك لالتقاطه قفازًا من الشارع”. يهدف الخبر إلى توضيح مشكلة اجتماعيّة وهي القاء القفازات المستعملة في الشارع. لكنّ نصف الردود على هذا الخبر تحاول أن تبحث في سبب إهمال العائلة في رعاية الطفل. ربما يتطوّر البعض للتنظير حول التربيّة، آخرون سيبحثون عن من هي هذهِ العائلة، وكيف حدث هذا الأمر بالضبط.
وقد تبدو مداخلاتهم وجيهة للوهلةِ الأولى، فالجميع سيتفق على أن كلّ عائلة يجب أن تراقب أبنائها. لكنّها مع ذلك خاطئة، لأنّ مدخلها خاطئ ويهدف إلى تضييع النقاش العامّ عن مشكلة اجتماعيّة. إذ أنّ هذا النقاش لم يبلور رأيًا عامًا حول مشكلة محدّدة وواضحة، وهي رمي القفازات، وتكون نتيجة هذا النقاش هي: على كل عائلة أن تراقب أطفالها. فهذا هو حل مشكلة رمي القفازات!.
قسَ على ذلك، عندما يتمُّ تداول مسألةٍ فرديّة، على أنها شأنٌ اجتماعيّ، مثل مسائل الحريّات الشخصيّة والإيمان الداخلي والنوايا، على أنّها شأنٌ اجتماعي.
وفيما يتعلّق بالموضوع الذي شاع في الأونة الأخيرة على وسائل التواصل، وهو ازدياد نسبة التحرّش الجنسي في بعض المجتمعات العربيّة. إنّ جزءًا كبيرًا من خلل التواصل هو في عدم التمييز بين الخطاب العامّ والخاص. أي متى يتمّ توجيه الخطاب للمجتمع، ومتى يتمُّ توجيهه للأفراد.
ولتوضيح الفكرة هنا، سنستبدل موضوع “التحرّش” ونقيسه بموضوع متخيّل هو “السرقة” ، ليس بسبب تشابهه مع موضوع التحرّش السابق، كما في العبارة الشائعة أن “المال السايب يعلّم على السرقة” للتدليل على أنّ زي المرأة قد يكون سببًا في ازدياد نسبة التحرّش، سيكون مثال السرقة هنا، لأنني لا أظنّه سيثير حساسيّة، وبالتالي يمكن استيعاب الفكرة ببرود أكثر.
فلنتخيّل أنّك تحيا في مدينة ازدادت فيها معدّلات السرقة، وحين يشكو الناس من هذا الأمر يخرج المسؤولون والمؤثرون إعلاميًّا ورجال الدين وغيرهم. بدلاً من أن يبحثوا الأمر مجتمعيًّا، أي كيف نمنع السرقة، بالقانون، ورقابة الشرطة، وبحث أسباب السرقة اجتماعيًّا ونفسيًّا وطبقيًّا إلى آخره، ليبحثوا الأمر فرديًّا، أي ينصحون أفراد المجتمع بشراء الأقفال وبناء أسوار عالية مكهربة ووضع كاميرات أمنيّة، وربما استئجار حرّاس شخصيين.
تخيّل، هل سنشعر حينها بالاطمئنان، أم هل ستنخفض معدّلات السرقة؟. هنا يخرج المجتمع من محاولة وقف السرقات إلى محاولة التكيّف معها كما لو أنّها ظاهرة طبيعيّة متأصّلة في النفس البشرية، وهذا غير صحيح، لأنّ “المجتمع السايب هو الذي يعلّم السرقة، وليس المال السايب”. يمكنك أن تلاحظ أن “المال السايب” في بعض البيئات الاجتماعيّة الأليفة لم يكن يعلّم السرقة، بل كان يعلّم تحمّل المسؤوليّة. يمكن لبائعٍ أن يتركَ دكّانه وهو على ثقةٍ من أنّ جيرانه يحفظون بضاعته.
في الخطابِ الموجّه للفرد: عليكَ حماية نفسك. وهي غالبًا تستعمل بين الأفراد الذين يعرفون بعضهم بشكلٍ شخصيّ، كأن أنصح صديقًا تعرّض دكانه للسرقة، بضرورة وضع كاميرا أمنيّة في المرّة القادمة. أمّا الخطاب الموجّه للمجتمع، فهو يهدف إلى بناء نظامٍ جديد من العلاقاتِ يتيحُ تقليل تلك المشكلة إجمالًا.
استبدل مثال السرقة بالتحرّش. نساءٌ في وسائل التواصل يشتكين من ازدياد نسبة التحرّش. فكيف يواجه المجتمع هذا الأمر؟. هل يتمُّ بحثه فرديًا أم مجتمعيًّا؟ وبأي طريقة يمكن إحداث تغيير في تقليل السرقات/ التحرّشات أو خفضها في المجتمع، هل هي عندما يهتمُّ كل فرد بحماية نفسه؟. وذلك كما يقترحُ البعض بأن البنت عليها أن ترتدي زيًا معيّناً، أو تقوم بتصرفاتٍ معيّنة، وتتجنّب المرور في أماكن أو الخروج في أوقات معينة. وهلمّ جرّا.. في خطابٍ يتمُّ فيه التركيز على المجني عليه بدلاً من وضع الجاني في دائرة البحث والمسائلة. بما يؤدي بطريقةٍ ما، إلى تبرير التحرّش، دون وعيّ من منتج هذا الخطاب الفردي نفسه الذي لن نشكّ في أنه لم يكن يبتغي هذهِ الغايّة.
فمن الخطأ اعتبارُ أنّ المجتمع هو مجموع أفراده، بل هو نظامٌ من العلاقات والقيم التي تجعل من مجتمعٍ ما سويًّا، وآخر مجتمعًا مريضَا.
فللمجتمع دورٌ في الضبط الاجتماعيّ، ليس عبر مؤسساته فقط، بل أيضَا عبر قيمه وأعرافه. التي تجعل من المتواجدين في المكان العامّ يمارسون ضبطًا اجتماعيًّا. أي لماذا يتهاونون في ضبطِ سلوكيّاتٍ معيّنة، ويتشدّدون في أخرى.