المنشور

بعد كارثة بيروت .. هل من حلول؟

يعيش لبنان منذ عقود في تقلبات سياسية وظروف أمنية شديدة الحساسية، مغايرة لما يحدث في المنطقة العربية، ولذلك بسبب “الخلطة” السياسية الممثلة لمكون السلطة الحاكمة، حيث يتم اختيار الرئيس من طائفة، ورئيس الوزراء من طائفة أخرى، ورئيس مجلس النواب من طائفة ثالثة، كما أن التدخلات الخارجية لها تأثير كبير على مجريات الأمور داخل لبنان.
ولا تزال تداعيات تفجير بيروت تسيطر على العالم وتحتل صدارة المشهد السياسي والاقتصادي بسبب فداحة الكارثة وحجمها المروع، كما زاد الانفجار من أوجاع بلد يعاني منذ أشهر، تداعيات أزمة اقتصادية قاسية، واستقطاباً سياسياً حاداً، في مشهد تتداخل فيه أطراف إقليمية ودولية.
توالت الاستقالات في صفوف السياسيين اللبنانيين في اطار التداعيات السياسية للانفجار المدمر والأزمة الاقتصادية المستمرة منذ أشهر وانسداد افق الإصلاح، حيث أعلن وزراء الإعلام والبيئة والعدل والمالية استقالتهم، في حين ارتفع عدد النواب المستقيلين إلى 8 نواب بعد مرور 5 أيام من الفاجعة، تبعتهم استقالة حكومة حسان دياب بكاملها.
وفي معرض الإشارة إلى هذا الموضوع، كتب جمال نصار: “لقد وصف دياب منظومة الفساد في استقالته بأنها متجذرة في كل مفاصل الدولة، وهي أكبر من الدولة وقال: “فسادهم في “الطبقة السياسية”، أنتج هذه المصيبة المخبأة منذ 7 سنوات، والمطلوب هو تغييرهم لأنهم مأساة الشعب اللبناني الحقيقية، وهم لم يقرؤوا ثورة اللبنانيين في 17 أكتوبر 2019، ولم يفهموا أنها كانت ضدهم، ووصف الطبقة السياسية بأنها الأخطر على لبنان، وأنها تعيش على الفتن وتتاجر بدماء الناس. وقال: “بيننا وبين التغيير جدار سميك جداً وشائك تحميه طبقة تقاوم بكل الأساليب من أجل الحفاظ على مكاسبها ومواقعها وقدرتها على التحكم بالدولة”.
وجاء اعلان استقالة الحكومة وسط تظاهرات كبيرة شهدها محيط مجلس النواب في وسط بيروت، حيث يطالب المحتجون باستقالة مجلس النواب بعد الحكومة، ورفع المتظاهرون شعارات تعتبر أن استقالة الحكومة لا تعني شيئاً أمام هول مأساة الانفجار الضخم وطالبو بإزاحة ما يصفونها بالطبقة الحاكمة الفاسدة.
فهل تساهم استقالة الحكومة في الوصول إلى نتائج ملموسة لمعرفة المتسبب الحقيقي في هذه الجريمة البشعة، وترضى الشارع اللبناني، أم انها تهرب من المسؤولية التي أعلن عنها دياب سابقاً، بتصريحه بان الحكومة ستبقى لشهرين لكي تعطي القوى والأحزاب السياسة الفرصة لحل جذور المشكلة السياسية في لبنان؟
هل يمكن أن تشمل التحقيقات الجارية كبار المسؤولين ورؤساء الحكومات السابقين، أم أنها ستقتصر فقط على الموظفين، كبارهم وصغارهم؟، وخصوصاً بعد أن كشفت مستندات سرية، حسب تقرير لوكالة رويترز، اكدّ أن الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس حكومته المستقيل حسان ثابت تلقيا تحذيراً قبل وقوع كارثة انفجار بيروت بأسبوعين فقط من حدوثها.
لقد واجه المجتمع اللبناني أزمات كثيرة في تاريخه، ومرّ بحروب أهلية عدة واجتياحات إسرائيلية ووصاية سورية، وتعرض لضغوطات مختلفة، وأعلنت البنوك افلاسها في الستينات والثمانينيات من القرن الماضي، وعانى من انهيار سعر صرف الليرة وموجات التضخم المنفلت بين عامي 1982 – 1992، وعانى ايضاً من تراكم العجز المالي والمديونية الباهظة، ويواجه هذا المجتمع أزمات أخرى تضاف إلى أزماته، ويشعر الناس بالقلق، ويعبرون عن التشاؤم وفقدان الثقة بإمكانية تجاوزها كما تجاوزوا الأزمات السابقة، ما يطرح سؤالاً مهماً: هل الأزمة الراهنة هي الأكبر والأصعب؟ هل هي الأسوأ؟ وهل هناك مخرج منها؟
مع العلم أن اللبنانيين يشككون في وعود الحكومة بتحقيق شفاف ومحاسبة المسؤولين، ويرون أن التحقيق محاولة من نخبة سياسية متهمة بالفساد والإهمال وسوء الإدارة لتفادي تحملها أي مسؤولية عن الكارثة، ومن ثم لابد من إدراك أن كلمة “اصلاح” في الوضع اللبناني هي كلمة فارغة من المضمون، ولن تتمكن من حلّ الأزمة، فالإصلاحات الاقتصادية التي تحدث برعاية صندوق النقد الدولي، تعني خفض العجز في الموازنة الحكومية، والدين الخارجي على حساب خفض الدعم الحكومي للمواطنين، وتعويم الليرة اللبنانية!
أي أن ذلك بطبيعة الحال سوف يحسن مؤشرات الوضع المالي والتجاري، لكن ذلك يتطلب ألا يأكل اللبنانيون لعدد من السنوات لمواجهة صعوبة الإصلاحات، لقد خرج الناس في لبنان إلى الشوارع بعد انهيار الليرة اللبنانية، وخفض الاستيراد، وارتفاع أسعار جميع السلع، مع اعلان الحكومة عن عجزها لسداد الديون.
وهنا نصل إلى الأزمة على المستوى السياسي، فلبنان نسق سياسي فريد من نوعه فهو خليط من طوائف عديدة، ولا يمكن إجراء أي تغيير في ظل النخبة السياسية الحالية المتحكمة في السلطة، والغارقة في المحاصصة الطائفية، فحتى لو جرت انتخابات رئاسية ونيابية جديدة فسوف تفرز نفس التكتلات والأشكال التي لم تتغير منذ عشرات السنين، ومن ثم لابد من تغيير قوانين الانتخابات حتى تفرز نخبة سياسية جديدة، تكون قادرة على التدبير المأمول، وإبعاد كل أشكال الطائفية الحزبية عن المشهد السياسي.
الأمر الثاني شديد الارتباط بهذه المسألة وهو عدم السماح للتدخل الخارجي في الشأن الداخلي للبنان، لفرض شروط معينة وتشكيلة سياسية محددة، فالشعب اللبناني قادر بإرادته واختياراته الحرة أن ينقذ لبنان من هذا المستنقع السياسي، لأن أغلب النخب السياسية اللبنانية الحالية ليس بإمكانها تقديم أي بدائل وحلول لتوقف تدهور الوضع الراهن وانهيار الاقتصاد، وما يجري الآن في لبنان من احتجاجات هو تظاهرات الأغلبية الصامتة من الشعب، وليس بوسع النظام السياسي منحها أي متنفس للضغط الذي تعاني منه بتقديم بدائل سياسية.
ومن ثم وجب على اللبنانيين حلّ مشاكلهم بأنفسهم وعدم التعويل على الخارج، واختيار قيادة مناسبة لهذه المرحلة، تستطيع أن تنتشل لبنان من هذا الوحل السياسي الذي أفقر لبنان وكبّلها بالضغوط الخارجية والديون المتراكمة وترشيد الاستهلاك وخفض النفقات، وأي حكومة بالتشكيلة السياسية الحالية التي تتسم بالطائفية لن تستطيع القيام بالمطلوب بل ستزيد المشهد السياسي تعقيداً والاقتصادي تأزيماً.