المنشور

حراً وبعيداً كطير عابر.. عباس كيارستمي

“حينما تأخذ شجرة مثمرة من مكانها، وتزرعها في مكان آخر.. فهي ببساطة لن تثمر”
عباس كيارستمي

أينما بحثت عن المخرج الإيراني عباس كيارستمي (1940-2006) رائد الواقعية الجديدة في إيران، ستظهر الجملة السابقة، استشهاداً بثباته في العمل داخل إيران، رغم كل المحظورات التي صاحبت ثورة 1979، ودور الرقابة التضييقي على العمل بالفن، والتحكم بمضامينه، ولكنه أيضاً أعطى الهوية الإيرانية التي وضعها مهرجويي في فيلم “البقرة”، عبر التصوير في أماكن حقيقية، ومع ممثلين غير محترفين من أبناء منطقة التصوير، والذين سيبدون – بلا شك – أكثر اتساقاً مع سواهم، ومع الكثير من التفاصيل المحلية.
سيعبر المنتج الفني عن نفسه، وعن مكانه وبيئته، وهذا ما سرى على المخرجين الذين أتوا على فترات بعده، وتنوعت أساليب إخراجهم، لكن الروح كانت في مجملها مشتركة، تتقاسم ثيمات: الحجاب بمفهومه وشكله وترميزاته الدينية والسياسية/ واقعية القضايا المطروحة/ تصوير المناظر الطبيعية بدون الحاجة للديكورات المبنية/ اختيار نماذج إنسانية معروفة للمتفرج يسهل فهم سيكولوجيتها ودوافعها.
وهذا ينطبق – في مجمله – على معظم الأفلام الإيرانية منذ السبعينات وحتى الفترة الحالية. لكن لون المخرج عباس كيارستمي كان مميزاً، بحكم أنه الأكثر خبرة من بعد تجربة “بقرة” مهرجويي، وحتى الأسماء التي ظهرت لاحقاً في حقل الإخراج السينمائي؛ مثل مجيد مجيدي، ومحسن مخملباف، وجعفر بناهي، وغيرهم. كان كيارستمي يأخذ دور المعلم؛ كتابة، ومساعدة، أو توجيهاً، خصوصاً أن الخط العام المرتبط بالنضال للحريات كان مشتركاً بين هذه الأسماء، وسيكون من الصعوبة التمييز بين نتاجهم، لأن الحدود لا تعدو بصمة فنية لكل منهم. لكن لنقل إنهم، مع المحاذير المذكورة، اكتشفوا في أنفسهم زوايا فنية مبتكرة، مثل قطعة القماش الصغيرة التي تطلب من خياط ماهر تشكيلها وتحويلها إلى شكل جديد حسب المتاح منها.
وبمعزل عن الثيمات المشتركة، والتي يمكن أن تكون عامة بالنسبة لأساليب السينما الإيرانية، سنحاول إلقاء الضوء على بعض الملامح التي اختص بها كيارستمي، ويمكن تمييز أسلوبه من منظوري الشكل والمضمون معاً، حيث تبدو ملامح جلية وواضحة في أعماله المنتقاة بعناية لا شك، منها إدماج الأطفال في أفلامه: والتي يشير كثير من النقاد والباحثين، وحتى المشاهدين النابهين، إلى تركيز كيارستمي على الطفولة، التي كانت -بالمناسبة- ثيمة مشتركة بين بعض المخرجين المميزين، مثل فيلم “البالون الأبيض” الذي كتبه كيارستمي وأخرجه جعفر بناهي، و”سائق الدراجة” لمحسن مخملباف ومجيد مجيدي، و”أطفال الجنة”.
أما كيارستمي، فجاء فيلمه “أين منزل صديقي؟”(1) 1987م، المستمدة قصته من قصيدة لسهراب سبهري، حول سعي الطفل/ البطل لإرجاع دفتر الواجبات المدرسية لزميله في الصف الدراسي، خشية عليه من عقاب وطرد المعلم له. تدور أحداث الفيلم حول رحلة البحث عن بيت الصديق في القرية المجاورة، بكل ما تحمل من تفاصيل، وعدم استماع الكبار له في إلحاحه حول الذهاب إلى بيت صديقه، والتجاهل التام والمتكرر من أكثر من شخص، والتهديد بالعقاب، ولكن كل لك لم يكبح رغبته في البحث عن صديقه في القرية المجاورة، لشعوره المرهف جداً لما قد يحصل له.
ورغم أن رحلته كانت بلا طائل، لكنه توصل في النهاية إلى حل مُرضٍ يسعد المتلقي، بعد أن عاش رحلة بسيطة في ظاهرها، ومليئة بالأفكار التي تدفع للتأمل أكثر، الذي يعد واحداً من أهم أسباب كيارستمي لصناعة الأفلام، رغم أن اهتمامه بالطفولة جاء بمحض الصدفة، عبر دعوة وجهت له لتأسيس فرع للسينما بمؤسسة جديدة، فلم يشعر بنفسه إلا مندمجاً في أفلام تخص الطفل والطفولة(2).
ولا عجب أن فاز هذا الفيلم بجوائز كثيرة، محلية ودولية، مثل مهرجان الفجر بطهران، ومهرجان لوكارنو بسويسرا، وجائزة سينما الفن والتجربة في كان، ومهرجانين في أمستردام وروما(3)، وهذا على أن بساطة الطرح مؤثرة لدى الآخرين، وسيشعر كل من يشاهد الفيلم بقربه من الحكاية، ومن البيئة التي منحت هذه الحكاية أيضاً.
لا يتأتى سحر الأفلام التي أبهرت العالم، وحصدت جوائز عالمية، ولفتت الأنظار إلى هذا المخرج القادم من جنوب غرب آسيا، من بلد لفت الأنظار إليه عبر حضارة تفيض بفنون شتى، وثورة قننت حرية التفكير والعرض، إلا بما يتناسب ومقايسسها. كان كيارستمي خريج الفنون الجميلة، الذي عمل لبعض الوقت في شرطة المرور؛ مصمماً للدعاية، قبل أن يتجه للإخراج السينمائي في وقت لاحق، وهو أيضاً لا يخفي تأثره الكبير بشعر الهايكو الياباني(4) الذي يعطي بجمل بسيطة ذات ألفاظ غير معقدة، تعبيراً عميقاً عن الحالات، فاستفاد من هذه التقنية في أفلامه؛ عبر تعميق المعنى بالصورة وباللفظ في ترسيخ المعاني وتأويلها على أكثر من اتجاه. فصوره ناطقة على الدوام، وهذا ما ميّز جمال الصورة التي ترمي إلى استعارات رمزية وإنسانية مفهومة عند المتلقي، لارتباطها بمفردات عنده ومن بيئته، وأيضاً تحوي نقداً ثقافياً، عبر الكشف عن النسق المضمر في المعنى؛ مثل ومضة تأخذ ثوانٍ أو دقائق في منظر واحد لا يتغير، الكاميرا لا تصور سواه: امرأة وحيدة تنتظر في السيارة، ويستغرق الأمر دقائق، بينما تعابير وجهها الطبيعية تماماً تعبر عن قلق مستمر (فيلم عشرة)(5)/ طفل ينظر بأسى إلى والدته التي تتنقل في أرجاء البيت لإنجاز غسيل الملابس اليدوي؛ من الفرك، للنشر، ولا تسمع شكواه، بينما تلوك كلاماً مكرراً ومتواصلاً دون توقف (فيلم أين بيت صديقي؟).

السؤال الذي لم تتضح إجابته في فيلم (طعم الكرز)(6) هو: لماذا أراد البطل (بديعي) الانتحار؟ لماذا لم تركز كاميرا كيارستمي على القبر الواقعي الذي حفره البطل لنفسه في كل مرة كان يدعو شخصاً مختاراً لمهمة إتمام الدفن بعد انتحاره؟ ثم هذا البطل نفسه المقدم على الموت برغبته، لم يقلق من دعوة حارس المنشأة لمشاركته طبق البيض، لأنه “يضره”؟! في الوقت الذي أخفى فيه الفيلم القبر، مكتفياً بملامح وجه “بديعي” الشارحة: لن تقتلني، ستردم التراب عليَّ بعد انتحاري، وتأخذ النقود الموجودة في السيارة في هذا التوقيت، وحسب! ثم هل سيلاحظ المتلقي تركيز البطل الشديد أثناء حديثه مع حارس المنشأة، في الشاحنة التي تسكب الرمل في الحفرة، وابتلاع ريقه كلما تكرر الأمر، كأنما كان يفكر بما سيحصل له حسب خطته؟

ولاشك أن تناول قضايا يدخل فيما يسمى “المسكوت عنه” في بلد مثل إيران، يطبق تعاليم الدين بالإجبار، ويفعّل التحديثات الخاصة التي تتناسب وسلطة رجال الدين، وتقع المسائل الخاصة بالأنثى في مركز دائرة الاهتمام، بل تكاد تكون أولوية، كونها مرتبطة بكل القضايا الحساسة المرتبطة بقوانين الطلاق الجائرة/ الشوفينية الذكورية/ الرياء الاجتماعي، ويستعرض أيضاً ما هو “مقدس وما هو مدنس في المجتمع الإيراني المعاصر”(7)، ويتجلى ذلك بشكل مباشر في فيلم “عشرة”، عبر عشر مشاهد حوارية منفصلة/ متصلة بين شخصين داخل السيارة، أحاديث متفرقة بين الحب/ الزواج/ العاطفة/ الدين/ الجنس/ الدعارة/ الإجهاض/ المخدرات/ الفساد، ضمن النظام القضائي(8). ولابد لمن يتعرض للقضايا الحساسة جداً أن يعي طريقة العرض المناسبة لمكاشفة المتفرج بالحقائق. كيارستمي لم يختلق قصصاً حتى يضمن تعاطفاً، بل نبش عن أكثر القضايا المؤرقة، وطرحها بشكل سردي مؤثر، لكنه يحافظ على خط الحياد طول الوقت، ليضمن للمشاهد أن يكون رأيه الخاص فيما يرى.

وحتى النماذج التي اختلقها واختارها بطل “طعم الكرز”، لم يكن انتقاؤها عبثاً. إيران مليئة بالإيرانيين؛ فلِمَ عليه اختيار كردي وأفغاني وتركي، من داخل البلد، ليقوموا بمهمة دفنه؟ لِمَ حدّد طبيعة أعمال أول اثنين بجندي وطالب علوم دينية؟ هل لأنهما يقومان -بحكم المهنة- بعقلية حسابية بسيطة وممنهجة تتلقى دائماً دون إبداء رأي شخصي، ولو حدث ذلك؛ إما سيهمل أو يعاقب على جرأته؟؟ هل اختار كيارستمي الشخص الثالث، الذي كان عامل تحنيط بالمتحف الطبيعي، والذي أبدى رفضه لأداء المهمة المطلوبة، ولكن ليس بالشكل القاطع كما الآخرين، ولكنه لم يتهرب مثلهم أيضاً، بل خاطب “بديعي” بلهجة العارف الذي يجب أن يعرف حكاية “طعم الكرز”، دون أن يعرف أيضاً أسباب إصراره على الانتحار، أو يصر على إيجاد حل شخصي له؟! يضع مفهومه الكامل للحالة ويمضي؛ لا منع ولا تأييد.

ولا تروق لمزاج عباس كيارستمي النهايات التقليدية، الذي يميل إلى جعلها نهاية مفتوحة، تفتح باب التأويل، يختلف على تفسيرها اثنان من المشاهدين، اللذان شاهدا الفيلم معاً. هو لا يحب المشاهد الكسول الذي تلقمه القصة ذات الترتيب التقليدي؛ من الحدث، للذروة، للنهاية، لذا يحتفظ بمسافة أمان مناسبة بين أبطاله ومتفرجيه، بحيث لا يجعل المتفرج ملتصقاً بعاطفة مع البطل. وأياً كانت القضية، فإنه ينهيها بشكل قريب للعقلانية والاتزان.

والنموذج الأمثل الذي يمكن الإشارة إليه في هذا الشأن، هو “بديعي” في طعم الكرز؛ البطل الذي يرغب في الانتحار، بدون بيان أسباب على الإطلاق تدعو للتعاطف معه، حتى في حديثه مع الأشخاص الذين اختارهم للقيام بمهمة دفنه/ردمه، لم تُجدِ نصائحهم أو مواساتهم له أي ردة فعل إيجابية، ليعيش المتفرج القلقَ طوال وقت العرض، فهذا هو ديدنه الذي يصرح به: “أفضل النظر إلى الجانب السلبي، والذي يجعلني قلقاً ومتوتراً. لذا فإني أنظر حولي، وأنتقي الأشياء التي تبدو لي هي الأفضل، أجمعها وأركبها كما لو أنها رزمة”(9). حزمة القلق هذه انتهت بإظلام طويل نسبياً، حذّره زملاؤه من مدتها لئلّا يغادر المشاهدون قاعات السينما قبل تتر النهاية. هنا عوّل كيارستمي على الجمهور أن تصلهم المعاني المختلفة التي أرادها، ولكي يخرج كل منهم بوجهة نظر حول النهاية الغامضة: هل حقق البطل رغبته في الخلاص، أم جبُن عن الإقدام عليها؟ وبغض النظر عن التأويلات المتعددة التي قد تفسر إزاء هذه النهاية، فإن ما حدث في التتر -لاحقاً- قد أبعد أي شعور بالأسى على البطل، الذي ظهر في كواليس التصوير يشعل سيجارته، ويدعو المخرج لواحدة! وهي بلا شك لإسقاط التعاطف، ونفي حالة الوهم التي تتلبس المشاهد وهو يتابع قصة الرجل الذي “مثّل” دوره وخرج منه.

انتهى خط الحياة عند كيارستمي في 2006م، لكن لم ينتهِ الدور الكبير الذي منحه للسينما الإيرانية على مدار حياته. لا تُذكر السينما هناك إلا واسمه مقرون باسمها، كنوع من الفضل الذي ينسب إليه عن استحقاق أكيد. لم يكتفِ بالانشغال في أعماله وحسب؛ بل الكتابة، والتوجيه، والمشاركة في ما يدعى إليه، لإيمانه أن الجميع هناك في جبهة واحدة، دون أن ينتسب إلى حزب، أو هجوم ثوري، أو التفكير بإطاحة أحد. فالسياسة عنده هي الانتماء للمشكلات الإنسانية المشتركة، والتعبيرعنها بما يوقظ الحدث والذاكرة والضمير، وهذا جل ما تمناه في رسالته الفنية.

1. https://www.youtube.com/watch?v=t7oY6ZgbjEo
2. عباس كيارستمي، سينما مطرزة بالبراءة، ترجمة وإعداد أمين صالح، كتاب البحرين الثقافية 30،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 2011، ص 167
3. السينما الإيرانية: تاريخ وتحديات، مرجع سبق ذكره، ص 191
4. عباس كيارستمي، مرجع سبق ذكره،ص 149
5. نفس المرجع السابق،ص 34
6. https://www.youtube.com/watch?v=BBNArD7-dpw&list=PLBA65D885F11C48D6
7. https://www.youtube.com/watch?v=yvSpZQIrMfM
8. عباس كيارستمي، مرجع سبق ذكره،ص 94
9. عباس كيارستمي،مرجع سبق ذكره ص 92
10. نفس المرجع السابق، ص 148