المنشور

أشياء لا تشترى

الثقافة بوصفها سياسة

هناك من يعزف على لحن التطبيع الثقافي وأهمية التواصل مع المثقفين والمفكرين والفنانين الإسرائيليين من أجل التعرف على الآخر وخلق جسور تواصل بعيدا عن الجانب السياسي والعسكري تؤدي إلى تحقيق السلام، متجاهلاً جرائم العدو الإسرائيلي الغاصب لأراضي فلسطين والموغل في جرائمهِ اليومية في حق الشعب الفلسطيني المناضل والمدافع عن أرضهِ ومقدساتهِ وعزتهِ وكرامته.

مسلسل التطبيع الثقافي مع الإسرائيليين ليس بالجديد، من أشهرهم في هذا السياق، الكاتب المسرحي المصري علي سالم الذي انطلق بسيارته في 7 إبريل 1994 من العريش إلى رفح وصولاً إلى فلسطين المحتلة (إسرائيل). ونشر مقالًا فى مجلة “الشباب المصرية” بعنوان “السلام الآن” قال فيه إن الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين يشكل لحظة نادرة فى التاريخ، إنها لحظة اعتراف الأنا بالآخر، أى أنا موجود وأنت أيضا موجود، الحياة من حقي ومن حقك الحياة. وقد قوبلت زيارته ردود فعل متباينة في صفوف المثقفين المصريين تجاه مسألة التطبيع الثقافي مع إسرائيل واستنكار واسع ومقاطعة له في مصر وأغلب الأقطار العربية.

يطرح بعض المثقفين العرب الأسئلة التالية: “لماذا لا يمكن أن نحارب إسرائيل ونسالم، في الوقت نفسه، الفن والأدب اللذين يُنتجهما كبار الأدباء والفنانين اليهود، خارج إسرائيل وداخلها؟

ألا يمكن أن نكون في حرب مع بريطانيا، مثلا، وأن نكون في الوقت نفسه، في سلام مع شكسبير؟ ألا يمكن أن نعادي ألمانيا، أو فرنسا، أو إيطاليا، ونظل في الوقت نفسه أصدقاء لبتهوفن وغوتة، لديكارت وروسو، لدانتي وليوناردو دافنشي؟ نعرف جميعا أن الإسلام حارب في بداياته اليهود، دون أن يقاطع الفكر اليهودي أو الثقافة اليهودية، وحارب الروم، في ما بعد، والفرس، دون أن يقاطع الثقافة البيزنطية أو اليونانية أو الفارسية”.

هذه الأسئلة تُنسب إلى الشاعر والمفكر السوري أدونيس، كما يذكر د. جوزف لبر ، الأستاذ في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية. لكن الأخير لم يحدد مصدر اقتباسه لنص أدونيس. وبالمناسبة هذه الأسئلة تم طرحها على طلاب الماجستير في قسم اللغة العربية وآدابها للعام الدراسي 2019-2020 *

يحضرني قول كافكا : “الأدب يعني أن تهجر معسكر القتلة”، فكيف يسمح بعض المثقفين العرب لأنفسهم بالتواصل عبر الندوات والمؤتمرات والأنشطة الثقافية المختلفة مع الفنانين والأدباء المنتمين للكيان الصهيوني؟ أليس جميعهم إلا ما ندر يدعم دولتهِ إسرائيل وسياساتها المؤكدة على قتل الفلسطينيين وسلب حقوقهم ومعاداة العرب. ثم كيف يتم الدمج والمماثلة بين اليهود والصهيونية، فاليهودية دين سماوي، لكن الصهيونية فكرة عنصرية استيطانية قائمة على انتزاع أرض من شعبها وطرده منها.

أما القول بإمكانية أن نكون في حالة حرب مع بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا، ونكون في حالة سلام وتواصل مع شكسبير، غوتة، ديكارت، فلا يمكن المقارنة هنا بين حركة الدول الاستعمارية التي قامت في سياق تاريخي محدد له شكله وعوامله ونتائجه، والتي أثمرت تضحيات ونضالات شعوبنا في دحره ونيل الاستقلال، وبين الكيان الصهيوني الذي هو مولود حرام نتج عن سياسات دول أوربية كبرى تحالفت مع الحركة الصهيونية في إقامة وطن قومي لليهود على أراضي فلسطين. لذلك لا يمكن المماثلة بين الشعب البريطاني أو الشعب الفرنسي اللذان لهما بعد تاريخي وثقافي وحضاري، وبين “شعب” مختلق لا يتجاوز وجوده السبعين عاما، تكوّن من عصابات مارست القتل والتنكيل بشعب فلسطين الذي وجوده يعود إلى آلاف السنين. من جانب آخر إذا وجد مثقف أو فنان أو كاتب إسرائيلي يعارض احتلال دولته لفلسطين ويدافع عن حق الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من ظلم وقمع وقتل، عندها لا مانع من نشر تصريحاته وكتاباته والتأكيد على صحتها.

أما الحديث عن الدولة الإسلامية (ومحاربتها لليهود وعدم مقاطعتها للفكر أو الثقافة اليهودية) ففي ذلك خلط فاضح للهدف الخطير من هذا الطرح. لأن المقارنة هنا باطلة بين يهود شبة الجزيرة العربية، ومنهم يهود المدينة الذين اعتبرهم الرسول(ص) والمسلمين مواطنين داخل الدولة الإسلامية كما نصت على ذلك صحيفة المدينة، ولكن بعد غدرهم بالمسلمين وتحالفهم مع قريش تمّ طرد يهود بني النضير وبني القينقاع ويهود خيبر من المدينة والجزيرة العربية. بينما يهود دولة إسرائيل ينتمون إلى كيان غاصب ومحتل لبلد آخر ومعادي للأمة العربية بالكامل. فأي حديث يصح هنا عن تواصل ثقافي وفكري كما يروج له مجموعة من الكتاب العرب المشبوهين في عملهم والمطعون في شخصياتهم.

كذلك في الحديث عن حرب المسلمين مع الفرس والروم، وعدم حصول المقاطعة الثقافية مع هاتين الإمبراطوريتين، من يطرح مثل هذه الفكرة هو لا يرى أو يغض النظر عن قانون تاريخي في الصراع والحروب بين الدول أو الإمبراطوريات الكبرى في مختلف العصور، وهو بديهية التواصل السياسي والاقتصادي والثقافي بمختلف الأساليب فيما بينها، سواء في أوقات الحرب أو السلم. بينما دولة الكيان الصهيوني ليست أمة ولا حضارة ليتم التواصل معها ثقافيا، بل يفرض وجودها بالضرورة حالة حرب دائمة لا تنتهي إلا بزوالها.

وقد نجح القادة العرب عام 1967 في قمة الخرطوم بتسجيل ثلاثة لاءات نظيفة في سجل البطولة والرجولة (لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض) مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه، وأنتجت فكرة أن كل من يفكر أو يسعى للخروج عن (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) فهو باعتراف الجميع (خائن)، وقد لاقت هذه اللاءات إعجاب واستحسان الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، فصفقت لها لأنها منسجمة مع مزاجها تجاه عدوها الأول والأبدي.

واستمر هذا المزاج حتى وصل بنا قطار التاريخ إلى محطة (كامب ديفيد) حيث اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر التي سعت إلى تغيير المزاج العربي من (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) إلى فكرة أن إسرائيل جارة وصديقة ويجب أن نعيش معها بسلام وأمان حتى نقي الأجيال اللاحقة من حرارة الحروب. وقد عبر عن الرفض وعدم الصلح الشاعر أمل دنقل فى قصيدته “لا تصالح”؟: لا تصالح/ ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هل ترى ؟/ هي أشياء لا تشترى.

لا يمكن فصل الثقافة عن السياسة، الفعل الثقافي كالذي يطالبنا به هذا البعض، هو في جوهره فعل سياسي غايته تسويغ نهج سياسي بعينه، كي يبدو مقبولاً ومستساغاً، وبهذا فإن هذا النوع من “الثقافة” المزعومة قد يكون أشدّ خطورة من الفعل السياسي المباشر.