المنشور

الليندي حاضر لم يمت

دروس انتفاضة تشيلي التشرينية

لم يكن مفروشاً بالورود الانتصار الذي حققه شعب تشيلي بقيادة قواه الوطنية والديمقراطية في استفتاء اكتوبر/ تشرين الأول الذي أسفر عن تصويت الغالبية العظمى (بنسبة 78 % من الناخبين)، لصالح إلغاء الدستور الموروث من عهد الدكتاتور الراحل أوغستو بينوشيه ولصالح دستور عقدي جديد، فهذا الانتصار جاء نهاية طريق طويل مغمس بالدم لنضالات 47عاماً ( 1973 – 2000 ) خاضها الشعب التشيلي بجسارة وقدم خلالها تضحيات هائلة تتوجت بانتفاضته التشرينية في اكتوبر / تشرين الأول من العام الماضي 2019 والتي اُطلق عليها أحد التقارير الإخبارية لقناة فرانس 24 “الثورة المفقؤة ” لكثرة ضحاياها من الجنسين التي فقأت أعينهم بتصويب متعمد من قوات الشرطة.

لا أحد من الشعب الأميركي يجهل ماذا يعني تاريخ 11 سبتمبر/ أيلول عام 2000 ؛ لكن قلة منهم من يعرف ماذا يعني تاريخ 11 سبتمبر / أيلول من عام 1973 لشعب تشيلي باعتباره اليوم الذي ارتكب فيه الدكتاتور المدحور أوغستو بينوشيه خلال انقلابه العسكري على الرئيس المنتخب سلفادور أليندي مذابح شنيعة بحق خيرة أبناء شعب تشيلي البررة بتخطيط ودعم من وكالة المخابرات الأميركية (CIA).

وفي الانتفاضة التشرينية، ورغم مرور 30 عاماً من سقوط النظام الفاشي منذ1990 فإن ميراثه القمعي كان حاضراً بقوة لما يتبدد بعد؛ متمثلاً فيما أرتكبته قوات الشرطة بحق المنتفضين السلميين من جرائم لا تقل فظاعةً عما أرتكبه أسلافها في عهد الدكتاتور المدحور، فنحو ألف وخمسمائة شاب وشابة جرى اعتقالهم خلال تلك الانتفاضة، وأكثر من 30 سقطوا شهداء، فيما فُقأت أعين المئات، وبضمنهم مراسلون ومصورون صحفيون ذكوراً وإناثاً.

ومثلما كان الإرث الوحشي القذر لعهد بينوشيه في قمع الانتفاضة حاضراً كانت الرموز الوطنية من ضحايا انقلابه حاضرة لم تغب من ذاكرة الشعب، فقد كان الثوار المنتفضون يتجمعون في ذكرى مقتل الليندي بالقرب من قصر الرئاسة وهم يهتفون “الليندي حاضراً خالداً لم يمت”. كما تجمعوا أمام الملعب الذي عُذّب فيه حتى الموت فنان تشيلي الوطني الكبير فيكتور جارا، والذي سُمي في 2003 بإسمه، وكانت الحركة النسائية المطالبة بالمساواة وملاحقة رجال الشرطة المغتصبين حاضرة خلال الانتفاضة متحدية فقء العيون والملاحقة.

على أن انقلاب بينوشيه ترك ندوباً ودروساً عظيمة لا في تشيلي وحدها؛ بل على صعيد الحركة اليسارية العالمية، ففي الوقت التي تقطع حركات يسارية بعدم جدوى النضال السلمي في ظل الأنظمة الاستبدادية بغض النظر عن مدى توافر الشروط الملموسة لاعتماد النضال المسلح، وكانت قيادة الثورة الكوبية في الغالب مع هذا التوجه؛ وليس خالياً من الدلالة في هذا الصدد البندقية التي أهداها جيفارا إلى الرئيس الليندي والتي دافع بها خلال قصف قصر الرئاسة، وقيل بأنه استخدمها في إطلاق النار على نفسه كي لا يقع أسيراً في أيدي الإنقلابيين.

و بموازاة ذلك جرت في أعقاب انقلاب تشيلي وانتكاسة التجربة الاشتراكية القصيرة (1970 – 1973) حوارات فكرية بين مدارس اليسار والفكر الاشتراكي العالمي على صفحات الدوريات والمجلات النظرية، وفي اللقاءات والندوات العلمية حول جدوى النضال السلمي للوصول إلى السلطة وبناء الاشتراكية في البلدان التي تتبنى أحزابها وقواها هذه الطريق في ظل أنظمة لا تتورع طغمة عسكرية فيها عن الدوس على الدستور واُسس النظام الديمقراطي فيها دون حصانات مكينة رادعة تصد بقوة عسكرياً وشعبياً ودولياً مثل هذه الانقلابات على السلطة المنتخبة، وهذا لا يتحقق إلا في ظل سلطة برجوازية قطع نظامها السياسي شوطاً كبيراً من التطور والممارسة الديمقراطيتين على غرار الأنظمة الديمقراطية الغربية بحيث تكون ذات قدرة على شل أيدي العسكر في مطلق الأحوال عن الانقضاض على السلطة دون تفويض دستوري صريح .

ولعل هذه المهمة هي على رأس أولويات المجلس التأسيسي المنتخب لسنّ دستور ديمقراطي عصري جديد يسمح بتطهير ما تبقى من مواريث وأدران أجهزة القمع في الشرطة وأجهزة السلطة التنفيذية عامة، ويؤسس لسلطتين قضائية وتشريعية مستقلتين.