المنشور

تقارير ديوان الرقابة.. بين الحكومة والنواب

لا أستطيع أن أزعم أنني قرأت كافة التفاصيل الواردة في التقرير الأخير لديوان الرقابية المالية والإدارية (2019-2020)، والذي يحوي بين دفتيه ما مجموعه 322 صفحة، تُوّثق ما عوّدنا عليه الديوان منذ تقريره الأول وحتى الآن من حرفية ومهنية لا يرقى لهما الشك، ولو أن التقرير الآخير ربما يكون على جانب كبير من الوضوح والتسلسل في طرح جوهر الملاحظات بدلا من الاسترسال في التفاصيل التي ربما اضاعت الكثير من المضامين المهمة في التقارير السابقة، وذلك ما يحسب للتوجهات المعلنة كما جاء في مقدمة التقرير لمباشرة ومتابعة أعماله ضمن استرتيجية ومنهجية عمل جديدتين.
ومن المهم هنا التأكيد على أن الديوان يسترشد، بحسب ما جاء في المقدمة، بالمفهوم العالمي للقيمة المضافة المتبع لدى مختلف الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة، وذلك بحسب معايير “الانتوساي” (إن القيمة المضافة والهدف الأسمى لمختلف اجهزة الرقابة والمحاسبة هو إحداث الفارق في حياة المواطنين، وذلك من خلال تحسين أداء الجهات الحكومية وتعزيز عوامل الثقة والشفافية)، وهذا بطبيعة الحال هو جلّ ما نطمح إليه كمواطنين وجهات أهلية في الحفاظ على موارد الدولة وماليتها وممتلكاتها.
لن أدخل في الكثير من تفاصيل التقرير الذي نحن بصدد مناقشة حيثياته، والأرقام والميزانيات، فهي كثيرة ومتكررة بكل أسف على مدى قرابة العقدين، لكنني سأكتفي بطرح السؤال الجوهري الذي يطرحه رجل الشارع العادي ويتم تداوله في المجالس والمنتديات كاستجابة تلقائية لما يحدثه الإصدار السنوي لتقارير الديوان وهو.. ماذا بعد؟! وما الذي سيفعله مجلس النواب باعتباره جهة رقابية وتشريعية تجاه ما يطرحه التقرير…؟!
تلك التساؤلات مشروعة تماماً، ومن المهم التركيز عليها وعدم تجاهلها سواء من السلطة التشريعية او من الحكومة ذاتها، باعتبار الأخيرة تحديداً مسؤولة مسؤولية مباشرة عن سرعة تصحيح جملة الأوضاع المعوجة والمخالفات والتجاوزات المالية والإدارية، التزاما منها على ما دأبت على طرحه باستمرار، من أن الحفاظ على المال العام وحماية ممتلكات الدولة والشفافية حيالها أولوية قصوى أمام السلطة التنفيذية!
نحن أمام تقرير جديد في سلسلة تقارير تعمدّ الدولة مباشرة بعد تقديم نسخ منه لجلالة الملك والسلطتين التنفيذية والتشريعية لتشكيل – لجنة – لتدارس ما جاء في تلك التقارير، ثم سرعان ما تنتهي تلك الإحتفالية دون أن نسمع جديداً عن الإجراءات المتخذة عملياً، لتصحيح الأوضاع، أو تقديم المتجاوزين والمتلاعبين مالياً وإداريا، ومهما كان موقعهم وحجمهم للمساءلة، فالدستور الذي نحترمه ونقسم على احترامه يؤكد أن للأموال العام حرمة يجب الحفاظ عليها (..).
في التقرير الأخير هناك وجوه متكررة من التلاعب والتسيّب مالياً وإداريا، ما يكفي لتغييرات جذرية وجوهرية في هياكل وزارات وجهات حكومية عديدة، على الرغم من أن التقرير الأخير يقول في مقدمته إن نسبة ما تمّ انجازه من تنفيذ لتوصيات التقرير السابق قد بلغت 80% ، وهي نسبة جيدة جدا بطبيعة الحال، لكننا حتماً لا نفهم إصرار وزارات وجهات عديدة، عاماً بعد آخر، على تكرار ذات التجاوزات والمخالفات للوائح المالية والإدارية دون أن يرفّ للمسؤولين فيها جفن، ودون وجود اجراءات إدارية رادعة.
هناك مخالفات في تحصيل عشرات الملايين من أموال الدولة، وهناك توظيف خارج القانون، وعلى حساب الكفاءة والكم لأجانب على الرغم من توجهات الدولة المعلنة بإحلال البحرينيين، وهناك تجاوز مستمر لقانون المناقصات، وتحايل والتفاف لعدد كبير من الجهات على لوائح إرساء العقود والمناقصات، وهناك تجديد لعقود خارجية وداخلية لموردين دون الرجوع لمجلس المناقصات (وهذا احتيال واضح ومتكرر ويحدث عن عمد وتقصّد لوزارات يتزايد عددها عاما بعد آخر)، وهناك تجاوزات متكررة للمادة (32) من قانون الميزانية والتي لا تسمح لأية وزارة أو جهة حكومية ب زيادة مصروفاتها المعتمدة إلا بقانون!
وهناك تجاوز متعمد لضوابط عمل الساعات الإضافية في جهات حكومية عديدة، وهذا يفهم منه التنفيع على حساب حرمة المال العام، وهناك وزارات تدفع نقداً ايجارات السكن لموظفيها الأجانب في وقت توفر لهم سكن خاص في مبان تؤجر بالملايين…الخ
وأمام هذا المشهد تبقى اسئلتنا تبحث عن اجابات عاجلة، ونحن نجهد من أجل تحقيق التوازن المالي المطلوب، ولكي نكون أكثر إقناعاً أمام المواطن البسيط، الذي بات يلهث لضمان مكتسباته المهددة فعلياً، في وقت يطالب مشروع الميزانية المعروض للمناقشة على السلطة التشريعية بزيادة “الإيرادات غير النفطية”، أي الضرائب تحديداً، وأي ضرائب؟!
أليس مطلوباً أن تقوم السلطة التشريعية بدور أكبر خلال الفترة القادمة لتحقيق المساءلة عن تلك التجاوزات والتعدي على المال العام توفيراً لمئات الملايين المضيعة التي نحن في أمس الحاجة اليها؟! أليس مطلوباً أن ترينا الحكومة بقيادتها الجديدة الشابة خطوات أكثر حسماً، لحماية المال العام وممتلكات الدولة، والتفكير بأساليب مبتكرة لضبط موارد الدولة ومحاسبة المتجاوزين علنا وبما يسمح به القانون، حتى نحقق الغاية من وجود تقارير سنوية للرقابة وسلطة تشريعية ورقابية ينتظر منا الكثير في زمن صعب وظروف قاسية كالتي نعيش؟!