المنشور

تجربتي مع الوباء

جسر نحو الذات اسمه “كورونا”

ثمة قاعدة عجيبة يعمل الدِّماغ وفقها، إذ يتعامل مع الرّفض بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع الألم. حين يُمارَس علينا نوعٌ من الظلم، أو الإهانة، أو الإعتداء – لفظيا كان أو جسديا – يطلق دماغنا مُسَكّنا كيميائيا للتخفيف من معاناتنا. حين تزداد كمية المعاناة تلك، يحدث ارتباك في أفكارنا بسبب تلك المواد التي تعجز بكمياتها الطبيعية على مداواتنا، فنلجأ في الغالب إلى مواد أخرى نمررها إلى أجسادنا لنشعر بالخدر الذي يشعرنا بالسعادة. نلجأ للمهدّئات، والمسكّنات، والمخدرات في بعض الأحيان لتخطي الألم الذي يكتسح داخلنا.
لكن كل الآلام مقدور عليها إلاّ ألم الرّفض، في كلا الحالتين وأنت مرفوض أو رافض، يجعلك هذا الشعور متعبا، متألما وفي حاجة لفهم نفسك وفهم من حولك، وإعادة النظر في كل علاقاتك.
لا مسكّن يخفف وجعك القابع في أعماقك جرّاء الرّفض. مسكنك الوحيد يفرزه دماغك، وهو يعمل بسرعته القصوى ليرتب الأمور أمام بصيرتك بشكل مفهوم لتفهم ما يحدث لك.
مثل مريض كورونا يواجه مصيره وحده، في اللحظة التي ترتفع فيها حرارته، وتبدأ أوجاعه الجسدية، تنْفضٌّ جموع الأصدقاء والأحبة من حوله. وتنبلج اللحظة المخيفة على فردانيته في هذا العالم. مثل البصمة التي لا مثيل لها، تتوضح له أمور كثيرة.
عند بداية ظهور كوفيد 19 لم نهتم كثيرا به، رغم أن الكتاب في العالم أجمع وجدوا مادة دسمة للتعبير عن أفكارهم حول الوباء . بعض الكتاب غادرونا بعد إصابتهم وبعضهم شفي منه بأعجوبة، ولكن وتقريبا بعد سنة من تعايشنا معه لم أفكّر لحظة أنني سأكون بين المصابين به.
قضيت ليلة في المستشفى أعاني من حمى لا وصف لها، خانني جسدي فجأة ولم يعد يلبي أبسطَ أوامر رأسي، مثل إحضار كوب ماء من المطبخ، أو الدخول للحمام. تهاويت وكأن ما كان يشدُّ جسدي تفكك فجأة ولم يعد صالحا. ورغم هذا تناولت ما يمكن تناوله من مخففات الحرارة والوجع وأتممت قراءة رواية واسيني الأعرج الأخيرة ليليات رمادة، الكتابة في زمن كورونا، وحاورته في ندوة عبر زوم ليلة الثالث عشر من نوفمبر. قلّة من أصدقائي غضبوا مني لأني أكابر في وقت لا يحتاج لمكابرة بل لراحة جسدية كاملة. ولكنها طبيعتي أعتقد، فحين أقطع وعدا مع شخص ألتزم، بدا لي الإعتذار في آخر لحظة طعن في “كلمتي” …
هل أنا مجنونة؟ إلى نهاية الندوة كنت أحاول أن أبدو طبيعية، وأظنُّ أني بذلت جهدا خارقا لمقاومة الأوجاع التي اتخذت من كل جسدي مرتعا لها، الفيروس كان يحتفل بضحية جديدة، وبانتصاراته وهو يستحوذ على مساحات أكبر لبسط سلطته.
تبادر إلى ذهني خلال ليلة آرقة لم أذق مثل مرارتها سابقا أن كل ما قرأته في كتاب واسيني عن الكتابة في زمن كورونا لا علاقة له بالواقع الذي أعيشه، إنّ الكتابة في زمن كورونا من باب الفرجة، تختلف تماما عن الكتابة في زمنها وهي تخترقنا وتنهش كل خليه في أجسادنا، وتعيد شريط حياتنا أمامنا مثل المُقدم على دخول عالم الأرواح، وترك عالم الأجساد الملموسة خلفه.
اختلفت الآلام التي لا مسكّن لها غير الهروب للذات. أنا وحيدة تماما في مواجهة مصيري. حتى وأنا أحاول تسجيل حضوري عبر مواقع التواصل الإجتماعي يكتسحني شعور مرعب لا وصف له يشبه في الحقيقة لحظة المخاض التي تصفها النساء عند الولادة، وهن معلّقات بين الحياة والموت. أفتح بعض الكتب التي تشاركني فراشي، أقرأ ما يمكن قراءته، ثم أغلقها وأحضنها، في انتظار أن تستعيد عيناي قدرتهما على رؤية ما هو مكتوب جيدا. أردد بصوت خفيض كم أنا متعبة، أريد عناقا كعناق أمي، تهذي الكتب في حضني فأسمعها تردد هي الأخرى أنها تريد عناق أمها.
لا أفهم شيئا هل هي تأثيرات الحمى التي تضربني منذ خمسة أيام بلياليها؟ أم أن الكتب فعلا لها أمهات وآباء؟ لا يهدأ رأسي في تفكيك محطات كثيرة من حياتي، بما فيها علاقاتي كلها التي بدأت بحضن أمي وها هي تنتهي باحتضان كومة من الكلمات المكتوبة على الورق.
تذكّرت كم كنت أتمنى أمنيات مستحيلة أحيانا لأحظى بحضن أمي، أو حضن أبي رحمه الله، كأن أستطيع السفر عبر الزمن وأعود لطفولتي التي كان فيها أبي يقينا من كل أخطار العالم. ويحمينا من كل شرور الدنيا، فيما كانت يد أمي كافية لخفض الحمى حين تصيبنا. بين الحضنين لا فرق، سوى في نوعية الطمأنينة التي ننعم بها وكأنّها ستدوم إلى الأبد.
ثم يا لمرارة ما يحدث، كلما تقدّم بنا العمر، كلما تكاثرت علاقاتنا، وكلّما حاصرنا الخوف أكثر ، ونحن مجبرون على التّعامل مع أصناف سيئة من البشر، وأقصد تحديدا تلك الأصناف التي تحب أن تأخذ، وتنهش في أرواحنا حتى تصيبنا بالسّقم الروحي، وهي دوما تعرف كيف تطرق أبواب قلوبنا، وكيف تدخل وتلوِّث النقاء الذي خصّصناه دوما للأنقياء مثلنا، فتعبث بكل الجسور العاطفية التي بنيناها للحفاظ على متانة عقولنا وصحتنا النفسية.
وأنا شبه نائمة، وما عدت ملك نفسي بل ملك هذا الفيروس، تراءت لي الجسور التي شيّدتها بثقة وحب بعين مختلفة، وأدركت كم عين المريض ثاقبة، وكم بصيرته خارقة، وكم هو في عزّ صحته عاجز عن رؤية من حوله جيدا. وأتذكّر مقولة أمي حين تصف المرض بالرحمة من رب العالمين، تراها كانت تقصد هذا التّبصُّر العميق الذي يلامسنا بحكمة إلهية لا تفسير لها حين تهدأ أجسادنا وتنطلق أدمغتنا في رحلة استكشافية غريبة نحو الذات وتقييمها؟
منذ بداية جائحة كورونا ونحن ندرك أنها تجعلنا ننحسر نحو ذواتنا، وأنّ ما تعلمناه لم يكن كافيا لنفهمها. نحن غرباء عن أنفسنا بسبب ضجيج الآخرين …
ها أنا أقف اليوم على معطيات جديدة لم أكن أؤمن بها سابقا، وها أنا أستعيد ما تفكّك مني وضاع في زحام العلاقات اليومية. نعم، إنّ أول ما نعيد فيه نظر عند كل هزّة مرضية بحجم “كوفيد 19” هو هذه الجسور التي كنا نعمّرها دون وعي، حتى صنعت أقسى السجون لنا.
إن الذي يضيع منّا فعلا في تجربة المرض هو تدوين اللحظة بكل زخمها، إذ تصبح الكتابة مهمّة صعبة لإيجاد الكلمات الصحيحة للتعبير عن كمية الحرية التي نفقدها حين تسيِّجنا قضبان علاقات متعبة في حياتنا.
كم أنا سعيدة لأعرف اليوم أن من لا يحترمني لا مكان له في قائمة اهتماماتي، ولا أدنى محاولة للتشبث به، يجعلني المرض أكثر ثقة بيقيني أن أتركه يسقط وفق خياراته. كم أشعر بخفتي على مدى أسبوع وقد اختفى أولئك الذين لا يفوتون فرصة لإشعاري بالذنب تجاه شيء ما، وأولئك الذين لا يتغيّرون في نقمتهم على الحياة، وعلى أنفسهم، ويستمرون في حمل السوط وجلد كل ما تقع عليه أعينهم.
على ما يبدو أن عتبة الموت والحكمة واحدة، ولا بأس من مغامرة في العمر بهذا الحجم لإعادة ترتيب أثاث قلوبنا وعقولنا معا.
خلال أطول أسبوع في حياتي، عشت مئة عام وأكثر، وأدركت أن ما نعرفه نقطة من بحر التجربة الإنسانية، وأن ما يجب كتابته هو أولا تجاربنا السيئة كون الإنسان يكرر أخطاءه دائما، ولا معلِّم أفضل من سرد قصّة إعمار جسورنا العاطفية ومدى تحكمها في نجاحاتنا وإخفاقاتنا.