المنشور

التنوير في الأدب البحريني (1- 2)

حين الحديث عن التنوير يعني الذهاب إلى منطق العقل؛ فالتنوير أو ما أطلق عليه عقلنة الواقع، يأخذنا مباشرة إلى الحركات الثقافية والفكرية والفلسفية التي عاشتها أوروبا خلال القرن الثامن عشر وبخاصة بعد هيمنة الكنسية آنذاك على مقدرات المجتمع والواقع والإنسان، وفي مقابل ذلك الدعوة إلى تحرر المرء من الوصاية التي تؤكد عليه مباشرة أن يطيع وإن فكر أو عارض أو تساءل، ولكن أي مفهوم أو مصلح أو مبدأ أو فكرة ما يريد أصحاب الفكر المستنير والمتطلع تطبيقها على أرض الواقع، لابد، قبل التنفيذ مراجعة إمكانية التطبيق نفسه من خلال نسج علاقة وطيدة بين الفكرة وأصحابها في إطار القناعة التامة، وكذلك أخذ الفكرة من جانب تصورها على أرض الواقع، ومدى إدراكها من المؤمنين بها، وأفراد المجتمع، بالإضافة إلى تلك الوسائل وآليات العمل والتنفيذ التي لا تشكل خطرًا أو ردة فعل مجتمعي.
وبعيدًا عن تلك الأبعاد التاريخية لعصر التنوير، وحركته داخل المجتمع الأوروبي عامة والفرنسي بشكل خاص، فإن جل الأمكنة الغربية المتواجدة فيها العقول المستنيرة آنذاك كانت تحتضن الأفكار المعنية بتغيير حياة الناس، وتحويل المجتمع المنغلق إلى مجتمع منفتح، مجتمع يسهم في تحديث أدواته من أجل الارتقاء بالإنسان ومجتمعه، لهذا كانت الصالونات الأدبية والثقافية والمقاهي المنتشرة، فضلاً عن عدد من المطبوعات التي تحمل سمات الدعوة إلى التغيير والتفكير، كل هذه كانت تؤدي الدور المنوط بها من أجل المساهمة بشكل أو بآخر في تنوير أفراد المجتمع، بمعنى آخر جاء التنوير كرد فعل في الدول الأوروبية على ممارسات رجال الكنيسة آنذاك باسم الدين المسيحي، وأدخلوا دولهم وشعوبهم في عصور مظلمة، بدءًا من القرن السادس عشر حتى حدوث التغيير في القرن الثامن عشر.
ومن هنا فالتنوير لم يأت صدفة أو من فراغ، وأن حالة التطور الاجتماعي والثقافي لم حدث مباشرة وتكون على أرض الواقع، بل ظلت هذه الرؤى، وعاش أصحابها طبيعة المجتمعات، ومكوناتها وتكوينها في سياق الأضداد والثنائيات، ففي الوقت الذي نعيش الليل والنهار، فإننا نعيش الثابت والمتحول، نعيش في المكان بوصفه ثابتًا، ونعيش في الزمان بوصفه متغيرًا ومتحركًا، وفي ظل هذه الثنائيات المتعددة يبني المجتمع نفسه، ويقود أفراده على اختلاف حقولهم وتوجهاتهم وتطلعاتهم وأفكارهم ومخزونهم المعرفي مجموعة من الأفكار التي تسهم في صنع حياة أفضل تتسم بالتحديث، وتؤمن بالمتغيرات والتحوّلات، لهذا لا يمكن للأدب والثقافة أن تقدما رؤية تجاه التنوير والتطوير إلا في سياق هذه الأضداد وتلك الثنائيات، أي كيف يمكن لنا الإشارة إلى أن هذا تطوير، وذاك تنوير إلا إذا لاحظنا ولامسنا ما في المجتمع من تراجع وتخلف وانغلاق، أو على الأقل بعض التباينان.
ولا شك أن التأثير الغربي وقع على أرض العالم العربي من خلال الأفكار التي نادى بها فلاسفة التنوير ورجالات الفكر والتربويين والعلماء والأدباء والنقاد وغيرهم في أوروبا، أمثال٬ فولتيو، جان جاك روسو، هيوم، فرنسيس بيكون، إسحاق أنيوتن، اسبينوزا، أما من حاول القيام بفعل التنوير عربيًا، فهم أولئك الذين زاروا البلاد الغربية عامة، وفرنسًا تحديدًا، أو الذين تأثروا بالآخر الغربي عبر التواصل غير المباشر من خلال المطبوعات والإصدارات، أو من خلال التواجد الأجنبي على الأرض العربية، ومن هؤلاء ذكرًا لا حصرًا: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، عبدالرحمن الكواكبي، خير الدين التونسي، رفاعة الطهطاوي، رشيد رضا، قاسم أمين، فرج أنطوان، الطاهر حداد، شبلي شميل، إسماعيل مظهر، سلامة موسى، الزهاوي، محمود أحمد السيد، طه حسين، سعد زغلول، معروف الرصافي، وغيرهم الكثير.
وعلى الرغم من النقد وعدم الرضا، والتباين الصارخ من قبل عدد من فئات المجتمع العربي، فإن الساحة العربية ولادة بالمفكرين المؤمنين بالتنوير وتحديث المجتمع، لهذا لحق بركب التنوير مجموعة طليعية من المفكرين والكتاب المتميزين المنادين بقراءة تاريخ الأمة العربية والإسلامية، وتاريخنا الحضاري والفكري والثقافي والأدبي، أمثال: محمد أركون، وصادق جلال العظم، ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، وجورج طرابيشي، ومحمد عابد الجابري، عبدالله العروي وسواهم، ولكن في خضم هذا التباين، والتأكيد على تطوير المجتمع بما يتوافق والتحوّلات الفكرية والفلسفية والثقافية، هل لنا أن نتساءل: ما التنوير؟
هل هو ما كان يؤكد عليه كانت بأن التنوير يتمثل في محاولة خروج الإنسان من بوتقة القصور والاعتماد على الآخر في التفكير بدلاً عنه، ذلك الآخر الذي يرسم له مسيرة حياته، ونهجه في الحياة؟ وكأن هذا التنوير هو رفع الوصاية على الإنسان، وأن يوظف عقله للتخلص من عجزه في التكفير، وهنا أشار الدكتور سليمان الشطي في كتابه (إضاءة وتنوير – 28) بأن صاحب المحل التجاري يقول: لا تفكروا بل ادفعوا، ويقول رجل الدين: لا تفكروا بل آمنوا، يقول صاحب القرار: فكروا ما شئتم وفيما شئتم، ولكن أطيعوا.
وإذا كان التنوير ضد الوصاية، فهذا يعني لابد من تحرر الإنسان من الوصاية نفسها، والتفكير في التخلص من العجز الذي يمنعه من توظيف قدراته لفهم الواقع والحياة والإنسان والكون، ولكي يحقق هذا التحرر عليه أن يوظف العقل بوصفه الطريق المنطقي والمنهج العلمي لفهم ما كان ويكون في دائرة التاريخ والحضارة، وفي طبيعة الأنماط الاجتماعية، والمستويات الاقتصادية، والتطلعات السياسية، والقراءة الفاحصة لمكونات المجتمع وأفراده في المجالات التي تشكل عقول الناس، وهذا ما أكده تودوروف في كتابه (روح الأنــوار – 13) أنه ” لابد أن تكون استقلالية المعرفة في مقدمة ما سيفتك من استقلاليات، وتنطلق استقلالية المعرفة من مبدأ مفاده أن ليس لأية سلطة مهما كانت راسخة ومحترمة أن تبقى في مأمـن من النقـد، وأن ليس للمعرفـة سـوى مصدرين هما العقل والتجربة “، أي في كيفية فهم النص الديني، والنص الأدبي والنص الفلسفي وغير ذلك، وهذا يتطلب من مؤمني الفكر التنويري أن يحاربوا الجهل والخرافات والخزعبـلات والأوهـام، وكل شيء طارد للمعرفة، ومقاومة فخ التطرف والجهل والتعصب، الأمر الذي يؤكد ما ينادي به التنوير من حاجتنا إلى الحرية الفردية المسئولة، وقبول الآخر مهما كان دينة أو جنسه أو طائفته أو مذهبه أو ملته أو قوميته .. إلخ.
وحتى نقترب من النص الأدبي البحريني وعلاقته بالتنوير، نتساءل: هل التنوير هو عقلنة العلم؟ أم هو الاهتمام بالإنسان وعلاقته بالمجتمع؟ أم هو بناء مجتمع سليم وإنساني؟ أم هو الحرية؟ أم هو كل هذا؟ وهنا أيضًا يتساءل حليم بركات في كتابه (غربة الكاتب العربي – 66): ” كيف نفهم العلاقة بين الكاتب والكتابة كتعبير عن الذات، وبين الذات والواقع المختلف في أبعاده؟ أليست الكتابة عملية خلق وإنتاج في آن واحد؟ “، وهنا حين نحاول المقاربة بين النص الأدبي البحريني والحالة التنويرية، فلدينا النص الشعري، النص السردي، والنص المسرحي، والدراما التلفزيونية والأفلام السينمائية، فضلاً عن الدراسات الثقافية والنقدية، وكذلك دور الصحافة، وأن التنوير لا شك جاءنا من مناطق عربية شمالية كما هو واضح تأثرًا بالمنجز الأدبي العربي.
ومن قرأ شعر الشعراء إبراهيم العريض والشاعر عبدالرحمن المعاودة والشاعر أحمد محمد الخليفة وغيرهم من تلك الأجيال التي هيأت الأرضية الشعرية لشعراء البحرين المعاصرين فيما بعد، عرف ولاحظ عمليات التأثر في بناء النص والمرجعيات التي كان يتكئون عليها، أي كان تأثرهم بالنص العربي القديم ومرحلة الإحياء واضحًا، ولكن بعد هذا التأثر نهج الشعراء أنفسهم مناهج وطرقًا يرون من خلالها سبل التنوير المجتمعي في المجتمع، أي بات لكل واحد من الشعراء منهجه وطريقة كتابة شعره ورؤيته للعالم والحياة، ثم جاء بعدهم شعراء آخرون اهتموا أيضًا بالقراءة والاطلاع والبحث والتقصي، فانتجوا نصوصًا إبداعية باتت تضاهي النصوص العربية الأخرى، ويفوق بعضها أيضًا.
وبالمثل كان للنص السردي بدءًا بالقصة القصيرة وصولاً إلى الرواية، إذ كان التأثير واضحًا في النصوص الأولى التي نشرت في الصحافة البحرينية والخليجية آنذاك منذ الأربعينيات، إذ نجد كتابات الشمال العربي المشرقي عامة والتأثير بالكتابات المصرية تحديدًا في النص القصصي البحريني، ولكن بمرور الوقت، لم يقف هذا الجيل عند مرحلة التأثير بقدر ما حاول هو والأجيال التي جاءت بعده، وتحديدًا في السبعينيات للخروج من محيط التأثر العربي إلى التأثر بالمنجز العالمي، والأخص المنجز الأدبي الروسي وأمريكا اللاتينية، فضلاً عن القراءات الأخرى في الآداب العالمية أيضًا، فبرزت نصوص إبداعية سردية قصصية ثم روائية كما ظهرت في مقابلها نصوص شعرية، لنجد في هذا النتاج البعد التنويري، إن كان في شكله المباشر أو الخفي، وفي إطار المبادئ المنادي بها التنوير نفسه، ويؤكد ذلك ما نقله تودوروف في (روح الأنوار – 100) عن (فيكو) الفيلسوف الإيطالي وأحد مؤسسي فلسفة التاريخ، ” أن المعرفة بواسطة الاطلاع على الأسطورة والشعر أنسب في بعض المواضيع من تلك التي تعتمد على العقل المجرد “، أي علينا ألا نلغي من حساباتنا دور العلوم الإنسانية عامة، والأدبية بشكل خاص، فلربما قراءة رواية تكشف لك طريقًا مهمًا في مسيرة التنوير، والوعي بالمجتمع كما هي رواية الأم لمكسيم غوركي.
ولكن ربما يقول البعض أن هذا ليس تنويرًا بقدر ما هو نشر فكر إيديولوجي معين كان يؤمن به هذا الكاتب أو ذاك، وهذا صحيح إلى حد كبير؛ لأن المفهوم العام لفعل التنوير عند عدد من المثقفين والكتاب حتى وقت قريب يكمن في توعية المجتمع بقضاياه المختلفة من خلال الفكر المؤدلج، وهنا نتساءل، أي تنوير نرمي إليه نحن الكتاب والمثقفين والمبدعين؟ هل ما يتوافق وما نحمله من فكر ووعي في محيط إيماني بإيديولوجية معينة، أم الأمر مختلف تمامًا، حيث التنوير لا يرتبط بالفكر المؤدلج، وإنما بالأفكار العامة المعنية بالعدالة الاجتماعية، والحرية، واحترام حقوق الآخرين، وفيما يتعلق بالتعليم وحضور المرأة والجندر وغيرها من تلك السياقات التي تنادي بها العديد من المنظمات الدولية ذات التوجهات الحقوقية في العالم.
من هذه التباينات في الرؤى تجاه مفهوم التنوير، نحد الكثير من التيارات الفكرية ذات الصيغ المختلفة، الفلسفية أو الفكرية أو الثقافية أو الأدبية أو الدينية، وغيرها، ترى نفسها وما تحمله من فكر ووعي يرتبط بنهجها الفكري هو المشروع الذي ينير المجتمع ويسهم في تحديثه وتطوره، وهنا يقول حليم بركات أيضًا – ص132: إن الثقافة العربية ” ليست شيئًا واحدًا، ولم تكن في مختلف عصورها إجماعًا وخارج التناقضات والمواجهات والصراع، وقد أسهم عدد من المفكرين في تحليل المواجهات والمعارك بين القديم والجديد، بين الإبداع والتقليد، بين أدب الحياة، وأدب الكتب، وأدب الذاكرة، وأدب المعاناة الوجودية، وثقافة اليقين وثقافة الشك، وثقافة العقل، وثقافة القلب، وأدب الوصف، وأدب الكشف، وبين الثابت والمتحول … “، وهذا يفرض علينا وضع جل الأفكار الداعية إلى التنوير ودراستها ونقدها لمعرفة مدى صلاحيتها في بناء المجتمع والإنسان والحياة، وبخاصة إذا آمنا أنه ينبغي على التنويريين حماية الإنسان، وتعليمه لكي يستخدم عقله من أجل التحرر من كل المعتقدات التي تفرض عليه الوصاية من جهة، وانغلاق التفكير من جهة أخرى.