المنشور

الشفافية فى ملف التقاعد والمتقاعدين

نتحدث عن أهمية الشفافية، خاصة عندما تتصل بهيئة تدير أموالاً عامة، وتتعاظم الأهمية حين تكون هذه الأموال تخصّ شريحة عريضة من المتقاعدين، وحقوقهم، وأمنهم الاجتماعي.
كثير من الأمور المتعلقة بهذا الملف مثارة منذ سنوات وحتى الآن، وكل الذى أثير وما زال يثار حتى الان يطرح تساؤلات، منها ما يثير العجب، ومنها ما يثير القلق، والمقلق يفرض أن نفتح أعيننا وعقولنا على “المطلوب” والذى نحن أحوج ما نكون اليه، والمطلوب حقاً وفعلاً هو الشفافية، التي تعني في أبسط تحليل العلنية والوضوح وعدم التمويه فى كل ما يرتبط بالقول والفعل، تعنى أيضاً أن هناك من يتحمل المسؤولية، ويتحمل تبعاتها فى المنهجية والسلوك والغايات، وغياب الشفافية يفتح الباب لكثير من المآخذ، والعجز والأخطاء والشكوك والمراوحات المستمرة.
فى هذا الخصوص فاجئنا ولم يفاجئنا رئيس لجنة التحقيق البرلمانية الأخيرة فى ملف صناديق التقاعد ابراهيم النفيعي بما صرح به أخيراً (اخبار الخليج – 13 ديسمبر 2020)، فاجئنا وهو عضو فى المجلس المعني بالرقابة والتحقيق والمساءلة حين أعلن بأن مجلس ادارة هيئة التأمين الاجتماعي اتخذ قراراً بعدم نشر ما يتمّ مناقشته فى اجتماعات المجلس من توصيات وقرارات فى الصحف، مؤكداً أن محاضر اجتماعات مجلس إدارة الهيئة التى حصلت عليها لجنة التحقيق البرلمانية كشف ذلك، وعليه تساءل النفيعي، ونحن معه نتساءل عن أسباب حجب المعلومات واتباع السرية من قبل هيئة عامة، تدير أموال صناديق التقاعد تخصّ الآف المشتركين الذين من أبسط حقوقهم معرفة كل شئ عن سياسات الهيئة واستثماراتها، وكيف توجه وعلى أي أساس او اعتبارات تدار ومن يديرها، والقطاعات التى تستثمر فيها، ونسب الأرباح والخسائر والعوائد فى كل منها، وفاعلية الخطط لاستدامة الصناديق التقاعدية ومواجهة العجز الاكتواري، عن خطط الهيئة فى تنميتها، وأوجه النجاح والإخفاق، وإلى أي مدى هى بمنأى عن أي سوء فى الادارة والاستثمار، ومدى كفاءة أعضاء مجلس إدارة الهيئة وجهازها الإدارى في تولى مهام ومسؤوليات جهاز هام وخطير يعنى اولاً وأخيراً بالأمن الاجتماعي؟
إن رئيس لجنة التحقيق البرلمانية فى ملف صناديق التقاعد بمعظم ما كشف عنه من أرقام وحقائق والتى قيل بأنها صادمة، منها على سبيل المثال أنه تمّ صرف معاشات تقاعدية لأشخاص متوفين صرفت لهم مبالغ تجاوزت 76 ألف دينار، وما قاله غيض من فيض، فاجئنا ولم يفاجئنا، كما ذكرنا، لأن هناك أكثر من لجنة تحقيق برلمانية تشكلت فى أكثر من فصل تشريعي سابق، منذ عام 2004 وحتى الآن تتشكل لجان تحقيق وكل لجنة تنتهى إلى نتائج مذهلة وصادمة، وتخرج بخلاصات تتكرر فى كل مهمة تحقيق، وفى كل مرة، وفى مناسبات عديدة نجد السؤال يطرح نفسه مجدداً: أين الشفافية ..؟!
وبدوره كان النائب فلاح هاشم عضو لجنة التحقيق المذكورة وصاحب الاهتمام الاستثنائي بملف التقاعد والمتقاعدين وقضايا العمل والعمال قد أثار العديد من التساؤلات والملاحظات، ومنها كمثال ما يتصل بالفروقات الشاسعة بين الأرقام التى زودتها هيئة التأمين الاجتماعي للجنة التحقيق وبين الأرقام المدققة فى الحسابات الختامية، وهى تساؤلات وملاحظات تفرض ذات السؤال: اين الشفافية ..؟، ليس ذلك بل الأدهى والباعث على حيرة شديدة هو ردّ الهيئة فى شأن ذلك السؤال تحديداً والذى لمحت فيه الى انها “تحتفظ بحق اتخاذ كافة الإجراءات القانونية ضد من يسئ دون وجه حق الى نزاهة الهيئة والعاملين فيها”، وهى بذلك تنسى او تتناسى أحقية النائب فى السؤال والتحقق والمساءلة، أحقية مكفولة بحصانة، وكان الأجدى والأنفع ان تنفتح الهييئة وتشرح حقائق المعلومات والأرقام التى استفزتها وقالت بأنها مغلوطة، ما دامت هذه الأرقام والمعلومات عصيّة على الاستيعاب أو الفهم، والخلاصة نأتى إلى نفس السؤال: أين الشفافية فى مجريات عمل هيئة عامة، نؤكد هيئة عامة، تدير أموالاً عامة.
كل الملاحظات والمآخذ، وكل المطالبات، كل أوجه الخلل فى ادارة واستثمار التقاعد والمتقاعدين، وكل ما خلصت اليه كل لجنة من لجان التحقيق البرلمانية، وكل ما سجله ديوان الرقابة المالية والإدارية فى تقاريره، وكل ما أثير فى الصحف وفى المجالس فى شأن هذا الملف منذ سنوات طويلة، وحتى الآن لم تُحرك ما يفترض أن يتحرك وظلّت الهواجس والظنون والمآرب والشكوك تلازم كل ما يخصّ أمر التقاعد ومصلحة المتقاعدين، وأصبح هذا الملف مرهقاً بالتساؤلات القلقة والتوقعات شديدة الضراوة ضد المتقاعدين ومدخراتهم المستقبلية بشكل أزعج الجميع، كان يمكن التخفيف من وطأتها وحدتها ووجعها لو كان هناك حضور حقيقي وجدي وفاعل للشفافية.
أموال التقاعد أموال عامة، هى فى أي مكان فى العالم تعتبر من أهم مصادر الاستثمار، من يديرونها ملتزمون بعدم التهاون فى الإلتزام بكل مبادئ ومقتضيات الشفافية والمحاسبة وكل المبادئ الدولية، يمكن فى هذا السياق أن نستحضر كمثال أو مقارنة – لا بأس أن نفعل ذلك رغم أننا سئمنا المقارنات – بصندوق التقاعد النرويجي الذى احتل المركز الأول عالمياً فى حجم الأصول، وتنوعت استثماراته بين حوالى 9000 شركة حول العالم لضمان عدم المخاطرة، ومنها حصة فى شركة المنيوم البحرين، أهم ما يعنينا فى أمر هذا الصندوق هو التزام القائمين على أموره التزاماً صارماً بسياسة شفافة جداً فى كل مجريات عمل الصندوق، التزام جعله لا يقدم على أي خطوة استثمارية دون جرعة كافية من الشفافية مع كل ما يضمن الإشراف والرقابة فى أي شركة يريد أن يستثمر فيها أو يحصل على حصة منها، وعلى أساس هذه الشفافية لم نجد هناك من ينغص على المتقاعدين بالمسّ من حقوقهم أو امتيازاتهم التقاعدية، أو يهددهم بعجز اكتواري، الى آخر المعزوفة التى تعودنا سماعها.
إلى جانب ذلك هناك صناديق أخرى ملتزمة بالشفافية بكل تجلياتها، تصدر تقارير فصلية عن كل مجريات عملها، وتقاريرها متاحة للجمهور بمنتهى الشفافية، وخاضعة للرقابة والمتابعة والمساءلة والمحاسبة وكل ما يبعث الإطمئنان فى حسن مسارات عملها وتأخذ على محمل الجد كل ما يمس نزاهتها.
أموال التقاعد يكفى القول انها أمانة عامة بحاجة إلى مزيد من الشفافية .. وهذا موضوع يستحق الطرح العلنى والنقاش المستفيض من كل الجوانب مع التأكيد بأن اموال التقاعد ليست كأي أموال أخرى، لذا لا ينبغي الوقوع فى فخ التهوين من شأن كل ما يخصّ هذا الملف.