المنشور

في رحاب الذكرى 110 لولادة عبد الرحمن المعاودة سيرة التنوير والمسرح والشعر

“وكثيرا ما يأتي اسم المعاودة في أية محاولة للتأريخ للبدايات التعليمية والنوادي الثقافية في البحرين في النصف الأول من القرن العشرين، إلا أننا لا نكاد نظفر باهتمام موسع ومركز خاص بتجربة المعاودة الشعرية أو التعليمية بالقدر الذي يتناسب مع ما أثار في حياته من ضجيج” كمال الذيب – كتاب (مساءلات في الثقافة البحرينية 2015)
لماذا نستذكر الشاعر عبد الرحمن المعاودة في الذكرى العاشرة بعد المائة منذ ولادته في عام 1911؟. ثمة دين على الحركة الأدبية و الثقافية بل على حركة التحديث في البحرين عامة أن تؤديه لهذا الشاعر البحريني الذي يمثل جيل التأسيس للشعر البحريني المعاصروالتعليم والتنوير.
لما احتفلت أسرة الأدباء والبحرين عامة في عام 2008 بمئوية الشاعر الرائد الآخر إبراهيم العريض الذي ولد في عام 1908، كان ينقص هذا الاحتفال أن نستكمله بمئوية شاعر رائد آخر هو عبد الرحمن المعاودة. ويمثل كلا الشاعرين رائدين مهمين ملهمين لتجربة الشعر الحديث. فإن كان العريض قد أسس في تجربة الشعر البحريني المعاصر لبنية الإيقاع الجديد (الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة)، ففي تأسيس بنية المضمون الوطني والتنويري والواقعي المعبر عن آمال وآلام الناس يعود فضل الريادة إلى المعاودة.
لكن مجريات العام الموافق لمئويته أي 2011 لم تتح لنا القيام بذلك أسوة بما قمنا به لرفيقه الشاعر العريض. وظل هذا الدين علينا نسعى إلى الوفاء به ما أمكن، وها نحن وقد بدأ العام 2021 حيث يبلغ الشاعر في سماواته العلى السنة العاشرة بعد المائة من ولادته عام 1911، فهي فرصة لنعرّف أجيال الشعر الحديث خاصة الجيل الأكثر جدة في العمر والتجربة بهذا الشاعر.
أولا: السيرة الشخصية الذاتية: ولد الشاعر البحريني الكبيرعبدالرحمن المعاودة في المحرق في العام 1911، وكان هجريا يصادف الأول من شوال أي عيد الفطر في ذلك اليوم.
بعد أن تعلم في المطوع شأن كل فتيان تلك الأيام في السابعة من عمره، التحق بمدرسة الهداية الخليفية في عام 1921 حيث سيكون عمره قد بلغ العاشرة. وكانت المدرسة يومها في مبنى مؤقت يعود إلى أحد الأهالي. (مجلة كلمات – العدد الثالث – أسرة الأدباء والكتاب)
في عام 1928 أرسل في بعثة طلابية إلى الجامعة الأميركية في بيروت مع مجموعة من الطلبة لدراسة ما يعتبر المرحلة الثانوية هناك من بينهم أحمد العمران الذي سيصبح مديرا للمعارف (بمثابة وزارة التربية) لاحقا، لكنه أعيد بقرار من السلطات البريطانية عقابا على مواقفه الوطنية ولأنه شارك في إضراب قام به الطلبة البحرينيون في بيروت تنديدا بقرار السلطات البريطانية استبعاد عدد من الأساتذة البحرينيين والوافدين من العرب من السلك التعليمي وترحيلهم بسبب مواقفهم القومية وهذا يعني أن وقف مواصلته الدراسة في بيروت كان في 1930. كما جاء الإضراب احتجاجا على تعيين السلطات البريطانية شخصية من الموالين لها اسمه فائق أدهم مشرفا على المناهج المدرسية في البحرين، وكان هذا قد وضع سقفا للتعليم بألا يتجاوز الابتدائية لاستمرار الجهل في أوساط البحرينيين.
ولا ننسى هنا التذكير بأن الشاعر نفسه قد تأثر أثناء تعليمه في الهداية الخليفية بمجموعة من الأساتذة ذوي النزعة القومية أمثال عثمان الحوراني، عبد العزيز العتيقي، محمد الفراتي، عبد الرحمن اليماني. (عبد الله المدني – جريدة الأيام – 25 ديسمبر 2015).
ثانيا: المعاودة والتعليم: بعد عودته من بيروت عمل المعاودة مدرساً في مدرسة الحدّ الابتدائية ولكنه كأي مثقف طليعي وشاعر متمرد في ذاته ثم أضافت إليه بيروت وهجا من ضوءها، تجاوز دوره كمجرد مدرس إلى محاولة إصلاح المنهج الدراسي في من خلال وظيفته وخاصة في مادة التاريخ الإسلامي التي كان يستثمرها لبث الروح الوطنية والدينية الصحيحة. لم يكن المعاودة مدرسا بل كان معلما والفرق بين المسميين ليس فرقا في اللغة بل في جوهر ما يقوم به من يمسك بهذه المهمة.
يقول المعاودة: “التعليم كان وقتها بسيطا. والطلاب وقتها شعلة من الحماسة والوطنية. وأذكر من زملاء الدراسة عبد العزيز الشملان وحمد بن عبد الله الخليفة وكمال المهزع وأحمد العمران وراشد الزياني وغيرهم. بعد ذلك وفي بيروت، تفتح عقلي على عوالم جديدة وتشبع عقلي بالأفكار التنويرية ولذلك عند عودتي إلى البحرين، بدأ الصدام مع الجمود والتقليد فعملتُ مدرسا في مدرسة ابتدائية مدة شهر واحد وثرتُ على الوضع وخرجت. كان التعليم يقوم على الحفظ والتكرار ورفضتُ أن أساهم في تدريس التجهيل”. (كتاب مساءلات في الثقافة البحرينية – كمال الذيب).
ولنلاحظ هنا هذا الجمع بين (التدريس / التجهيل) في عبارة واحدة في ذكاء لغوي يكشف عن فهم يكاد يكون بالسليقة لدى الشاعر لدسائس اللغة ومراوغاتها وكأننا في رواية 1984 وجورج أورويل يقول (السلام يعني الحرب والمعرفة تعني الجهل).
يقول المعاودة: “رفعتُ تقريرا إلى مدير المعارف بتطوير التعليم والمنهج وتأكيد العروبة والتنوير والتقدم والوطنية وكان مدير التعليم عميلا للانجليز واسمه فائق أدهم.” (كتاب مساءلات في الثقافة البحرينية – كمال الذيب).
ولا نعرف في الحقيقة هنا لماذا يستخدم المعاودة مسمى مدير المعارف لفائق أدهم، أم هو نقل غير دقيق من الذي أجرى اللقاء، لأنه بحسب مصادر آخرى كان هذا مسئولا عن المناهج وقتها، أما المدير فهو شخص آخر.
استمرت محاولات المعاودة في إصلاح التعليم غير أنه اصطدم بفائق أدهم فرفع أمره إلى السلطات التي ناشدت المعاودة الكف عن محاولاته تلك ففضل الاستقالة من عمله الذي لم يكد يكمل فيه شهرا واحدا مفضلا عدم القبول بأية وظيفة حكومية.
قام المعاودة في عام 1935 وبعد أن ظل بلا عمل لفترة طويلة قام بافتتاح مدرسة أهلية وجعل مقرها في أحد بيوت أهالي المحرق وأطلق المعاودة على المدرسة إسم مدرسة الإصلاح الأهلية في إشارة واضحة منه أنه يواجه المنهج الذي يريده الانجليز بمنهج إصلاحي يريده هو.. (مجلة كلمات – العدد الثالث – أسرة الأدباء والكتاب – 1984).
ولنلاحظ هنا ظاهرة استخدام البيوت لإنشاء المدارس والمؤسسات من تعليمية و أدبية وفنية و ثقافية وتجمعات وأندية شبابية في تلك الفترة ولاحقا بما فيها حتى بعض المؤسسات الثقافية القائمة اليوم من جمعيات ومسارح أنشئت في تلك الفترة في ظاهرة تنبهنا إلى أن المؤسسة الأهلية تقوم أساسا على الولع الإنساني بالخلق ويكون مكانها أشبه بالافتراضي إذا صح التعبير فهي مؤسسة قائمة في قلوب مؤسسيها وحضن أي مكان مؤقت ريثما تسمح الأيام بوجود مقر.
لم يكن المكان يوما عائقا أمام صناعة التاريخ إذا ما توفر لتلك الصناعة من يملك أهم رصيد في هذا الطريق وهو الشغف. في الحقيقة ستكون جدلية الإنسان والمكان وتحرره من عبء المكان ليكون صانعا تاريخه هي جدلية حياة وموت المعاودة نفسه كما سيعلق قاسم حداد على وفاته.
ومع ذلك وإمعانا في إيصال رسالته حتى إلى خصومه كان المعاودة لا يستنكف من دعوة خصومه بما فيهم المعتمد الانجليزي لحضور المسرحيات التي يعرضها في مدرسته و بالطبع لم يكن يستجيب إلى دعوته. ويقول المعاودة لم يكن المعتمد يتدخل لكنه كان بادي الامتعاض مما أقوم به. (عبد الله المدني – جريدة الأيام – 25 ديسمبر 2015)ٍ
ويقول عبد الحميد المحادين: كانت مدرسة الإصلاح التي أسسها المعاودة تقبل التلاميذ من مختلف الأعمار وكانت المدرسة تعلمهم لمدة ست سنوات وتمنحهم ما يعادل الشهادة الابتدائية، مقابل روبيتين من أبناء الأغنياء، وروبية واحدة من أبناء الأسر متوسطة الدخل، ولا شيء من أبناء الفقراء حيث يدرسون بالمجان، بل ويحصلون على كسوة العيد. (مجلة بناوراما الخليج – يونيو 1994).
كان عدد طلاب مدرسته يتراوح ما بين أربعين وخمسين طالبا، يرتفع إلى مائتي طالب في فصل الصيف بسبب إغلاق المدارس الرسمية أبوابها ورغبة الناس مع ذلك في مواصلة التعليم والتقوية في العطلة. (عبد الله المدني – الأيام – 25 ديسمبر 2015)
وإذن فلا نكاد نجد في كل هذه السيرة ما يشي برفض الناس أو نفورهم من التعليم، بل العكس هو الصحيح، لدينا شعب متطلع إلى التعلم، يركض لنهل ما يستطيع من منابعه في العام المدرسي وفي العطلة أيضا في سباق مع الزمن لاستدراك ما فاته من العلم، و هو ما يجعل التأريخ للتنوير يجب أن يكون بالضرورة أفقيا لا عموديا. أعني أن يكون تاريخ التنوير هو تاريخ الناس أيضا وليس نسبته إلى شخص بعينه.
تميز المعاودة بأن التعليم لديه لم يكن مشروعا تعليميا فقط لإكساب مهارات القراءة والكتابة أو ما يسميه المصريون (فك الخط).
فإذا ما أخذنا البعد الإصلاحي لديه في المنهج الدراسي كان مشروعا فكريا وثقافيا خاصة إذا ما علمنا أن “السيد أدهم الذي عينته السلطات البريطانية في المعارف كان يسعى إلى عدم تجاوز التعليم المرحلة الاتبدائية.” (عبد الله المدني – الأيام – 25 ديسمبر 2015)
ألا يعيدنا هذا إلى سؤال أساسي هو ماذا عن دور الغرب في إدخال التنوير إلى منطقتنا العربية والإسلامية؟. بالطبع لا تخلو العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر بكسر الميم ثم فتحها من تأثير وتأثر، على أن ننتبه هنا إلى ما يقوله تودروف في كتابه “روح الأنوار” وهو أن حركات التحرر من الاستعمار تصبح أكثر تنويرا من المستعمِر الذي حمل إليها لأول وهلة مشعل التنوير كما نتصور!!. وفي سياق آخر يشير مثلا باحث مهم في العلاقة بالمستعمر هو الإقريقي فرانتز فانون في كتابه (معذبو الأرض)، إلى دور التعليم لا كوسيلة تنوير بل في نفس الوقت وسيلة هيمنة أيضا، وسيكرر هذا الكلام باحث آخر مهم في العلاقة مع الأستعمار هو الإيراني علي شريعتي في كتابه (العودة إلى الذات).
ثمة تعليم حمله الغرب المستعمر فرنسيا أو بريطانيا إلى بلداننا ولا شك في ذلك وفي أنه كان مفيدا، لكن وككل ظاهرة تحمل نقيضها في أحشائها، كان تعليما محسوبا بدقة لأن يخرّج أجيالا قادرة على استعمال أو شراء ما ينتجه المستعمر من رأسمال مادي ومالي ورمزي أيضا. فلا ننسى حقيقة أن التعامل مع المستعمر يحتاج حدا أدنى من التعليم.
دخل المعاودة من خلال هذا المشروع التربوي والتعليمي والإنساني تاريخ البحرين كواحد من رجالات التعليم الأوائل فيها ممن قدموا لبلدهم وشعبهم خدمة وطنية واجتماعية لا تقدر بثمن في حقبة تميزت بالأوضاع المعيشية الصعبة للسواد الأعظم من الناس.
وبرغم عدم تقاضي مدرسي مدرسة الإصلاح أجرا نظير عملهم وبرغم دعم الأهالي القادرين للمدرسة لاستمرارها واستيراد الكتب من مصر، إلا أنها في النهاية شكلت عبئا على المعاودة، فتركها بعد ما يقرب من عقد من تأسيسها لشخص آخر جعل إدارتها في عهدته وترك البلاد مهاجرا إلى بومباي. ثم عاد في 1950 وما زال شغف تأسيس المدارس يشغله فأسس مدرسة الإرشاد والتي لم تستمر هي الأخرى بسبب كلفتها المادية بإزاء موارده المحدودة.

ثالثا: المعاودة والمسرح: عُرف عبد الرحمن المعاودة بجهوده التأسيسية في المسرح فقد كتب العديد من المسرحيات التي مُثلت على خشبة مدرسته أو نادي الإصلاح أو نادي البحرين بالمحرق وكانت تلك المسرحيات تستنطق التاريخ العربي والإسلامي كما هي عادة المثقفين والأدباء الإحيائيين في تلك الفترة وحيث يمثل الماضي نموذجا للمستقبل المنشود ومثل في مسرحياته عدد من شبان تلك الفترة من الطلبة الموهوبين أمثال علي سيار الصحفي المعروف الذي رحل مؤخرا وابراهيم منصور وعيسى الجامع وأحمد الزياني. يشير د.علوي الهاشمي إلى ظاهرة المراوحة بين الماضي والحاضر في تجربة الشعر البحريني المعاصر بقوله: كانت تجربة تتراوح بين تجذر في الماضي يصعب حصره وتوجه للآتي يستحيل رصده. (د. علوي الهاشمي – شعراء البحرين المعاصرون)
بالطبع لم يدرس المعاودة المسرح لكنه ذات الشغف الذي قاده لكي يؤسس فضاءات التعليم المختلفة ويكتب الشعر وقراءته لمسرحيات أحمد شوقي بل ومشاهدته المسرح في بيروت أثناء دراسته كان دافعه لكي يؤسس أولى التجارب المسرحية المبكرة في البحرين.
كان المعاودة يأتي بالديكور وكراسي المتفرجين بنفسه وكذلك أكسسوارات الأعمال المسرحية من سيوف وخناجر بالإضافة إلى تأليفه مقاطع كوميدية مثلما يصطلح عليه اليوم (خارج النص) ليتم تقديمها بطريقة تتخلل العروض المسرحية.
ومن أهم المسرحيات التي ألفها وقدمها المعاودة: عبدالرحمن الداخل، الرشيد وشارلمان، سيف الدولة بن حمدان، المعتصم بالله، جبلة بن الأيهم، العلاء بن الحضرمي (دخول البحرين في الإسلام)، يوم ذي قار، أبوعبدالله الصغير (خروج العرب من الأندلس، هولاكو وسقوط بغداد.
ونحن إذ نتحدث عن المسرح هنا لا يمكن أن نفصله عن القسم الأخير من هذه الورقة وهو الشعر فيقول الطائي في كتابه الشعر المعاصر الخليجي: مثّل الاهتمام بالمسرح أهم ملمح تجديدي في شعر المعاودة فهو من الرواد في هذا المجال إذ لم يكن الدمج بين الشعر والمسرح أمرا معروفا لدى شعراء الخليج المعاصرين.
قد تثار هنا إشكالية المباشرة والبساطة في الشكل واللغة والمهارة الفنية لكن علينا ألا ننسى مسألة الريادة في كتابة الشعر المسرحي فنحن حتى اليوم في الحقيقة ونحن في القرن الحادي والعشرين لا نجد الكثير من كتاب المسرح الشعري لدينا اللهم إلا علي الشرقاوي وابراهيم بوهندي.
ويقول المعاودة عن هذه التجربة: اهتممتُ بالشعر المسرحي مثلما فعل العريض وكنتُ على مدار سنوات أنتج مسرحية كل سنة ضمن إطار المسرح المدرسي وأظن أن عددها عشر مسرحيات أو روايات مسرحية تمثيلية وقد ضاعت كلها ولم أحتفظ بواحدة منها وقد ألفتها وأخؤجتها وحتى الديكور كنت أضعه بنفسي. وفي قراءته لتاريخ الحركة المسرحية يقول مبارك الخاطر: ألف المعاودة عشرمسرحيات شعرية، و لا نظير لتجربته إلا أمير الشعراء أحمد شوقي وعزيز أباظة. (مبارك الخاطر – المسرح التاريخي).
ويقول المعاودة: كانت مسرحيات تؤصل للتاريخ في نفسية الطالب وتشحنه بالعزة والفخار والوطنية. (مساءلات في الثقافة البحرينية – كمال الذيب)
وهو عودا على بدء تأكيد على أن المعاودة كان همه ماذا يقول في معركة مصيرية بالنسبة له لا تنتهي مع الاستعمار الذي لم يكن سياسيا واقتصاديا وعسكريا فقط بل كانم ثقافيا أيضا.

رابعا: المعاودة والنادي الأدبي والصحافة: لا يمكن تجاوز عام 1920 كلحظة مفصلية في تأسيس المبادرات الحديثة في البحرين، البلدية (أول مجلس بلدي) والمصرفية (أول مصرف) والثقافية (النادي الأدبي) في المحرق وهذا كان هو النادي الأدبي الأول الذي أسهم في تأسيسه مجموعة من الشباب المتعلم والمثقف آنذاك. وقام هذا النادي بالعديد من الأنشطة الثقافية المتميزة والتي من بينها اشتراكه في المهرجان الأدبي الذي أقيم في القاهرة في عام 1927م بمناسبة مبايعة شاعر مصر الكبير أحمد شوقي أميرًا للشعراء. وأهدت البحرين ممثلة بالنادي الأدبي أمير الشعراء أحمد شوقي نخلة من الذهب تحمل رطبًا من اللؤلؤ تبرع بها سمو الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، وبرفقتها قصيدة مطلعها:
من منبت الدر تسليم وتكريمُ
لشاعر اللغة الفصحى وتقديمُ
إلا أننا نستدرك هنا قبل أن نخطيء في تحديد دور المعاودة في ذلك بالقول إن النادي الذي أسهم الشاعر المعاودة في تأسيسه هو النادي الأدبي الثاني الذي جاء بعد عقد كامل من تأسيس الأول أي في 1930 وفي المحرق أيضا وكان المعاودة من مؤسسيه مع مجموعة من الذين عادوا من بيروت بعد أن ألغت السلطات البريطانية بعثتهم كما ذكرنا. وقد أغلق هذا النادي من قبل الانجليز لاحقا بعد خمس سنوات من تأسيسه.
وللمعاودة أيضا دور في تأسيس جريدة البحرين عام 1939 مع عبد الله الزايد.. وهكذا نجد في كل مسارات حياة الشاعر نضالا دؤوبا لا يهدأ في مقارعة السلطات البريطانية على أكثر من صعيد.

خامسا: المعاودة والشعر: لو قدر لنا أن نقسم إلهام كل من العريض والمعاودة لتجربة الشعر البحريني المعاصر، لقلنا جاء إلهام بنية الشكل والإيقاع من العريض بريادته في التحول من العمود إلى (الشعرالحر) التفعيلة، وجاء إلهام بنية المضمون من المعاودة بشحن القصيدة بالبعد الإنساني والوطني المعاصر.
يصف مقدم ديوان المعاودة الأول الشاعر بقوله: “عبد الرحمن المعاودة شاعر عربي قح، نسبا وشعورا، أدبا وتفكيرا، قلبا وقالبا، لحما ودما”. (عبد الله الزايد – تقديم – ديوان المعاودة)
و يقول المعاودة عن ولعه بالشعر: كان عمري تسع سنوات عندما تفتحت عيني على الشعر، فقد كان لوالدي مجلس سمر شعري وكنتُ أحضر أطرافا من المطارحات الشعرية وفي يوم كان صديق الوالد وهو على الباب مغادرا يقول مداعبا لي صاحب كهوى الخريف أحبه يضربني فقلت لوالدي: هذا الكلام مكسور ويجب أن يكون:
لي صاحب كهوى الخريف أحبهُ / ويضربني …
فعلق الصديق: إنه إذن لشاعر. ولم تخلُ عائلة المعاودة من ملكة الشعر فأخواله وأعمامه كانوا يكتبون الشعر النبطي كما أن جد أم أبيه هو الشاعر المعروف عبد الجليل الطباطبائي – (شعراء البحرين المعاصرون – د.علوي الهاشمي).
في هذا القسم الأخير من الورقة إذن نأتي إليه شاعرا لا تقليلا من أهمية هذا الجزء في شخصيته، بل لنقول أيضا إن أهم ما يعلمنا إياه المعاودة في سيرته وهو أن الشاعر ليس بشعره فقط بل بكونه كائنا قلقا في مجمل حياته، وكأننا نسمع المتنبي صادحا في مسمع العصر:
على قلق كأن الريح تحتي / أقلبها جنوبا أو شمالا
أو قوله أيضا:
أريد من زمني ذا أن يبلغني / ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ

إذ لو اقتصرنا على فهم الشاعر فقط حيث يكتب قصيدته وكأن حياته لا علاقة لها بشعره أو أن شعره لا علاقة له بحياته أو كما يقال (موت المؤلف!!)، لظلمنا الشاعر أو ربما ظلمنا الشعر. ذلك إن قلقا وجوديا كالذي كان ينتاب المعاودة في كل حياته وهو يتنقل بين مختلف ميادين الحياة مكافحا الاستعمار والجهل والتخلف لهو قلق لا يصدر إلا عن روح شاعرة. فمرة نصف الشاعر بمعنى كتابة الشعر، ولكن مرة نصف الشاعر بمعنى الشعور، وعلى الأخص رهافة وحساسية هذا الشعور بمن حوله وبما حوله. وكأن المعاودة هنا كما يقول عروة بن الورد:
وإني اِمرُؤٌ عافي إِنائِيَ شِركَةٌ / وَأَنتَ اِمرُؤٌ عافي إِنائِكَ واحِدُ
أُقَسِّمُ جِسمي في جُسومٍ كَثيرَةٍ / وَأَحسو قَراحَ الماءِ وَالماءُ بارِدُ

فلم يكن إناء المعاودة الفكري والفني والإنساني بل وحتى المالي – والتاريخ يشهد – إلا شركة بينه وبين الناس، كما لم يكن جسمه إلا قسمة في جسوم المعاناة والمعرفة والكفاح من أجل التقدم والتنوير.
لا ننظر إلى المعاودة بوصفه شاعرا بمعنى كاتب قصائد، بل بوصفه شاعرا بكل حياته حيث لا يستقر له قرار، ولا يقيم على ضيم كما تقول العرب، في وقت كانت فيه مواجهة البريطانيين تكلف الكثير وهو في كل ذلك لم يتخذ طريق عنف أو مقاومة غير المقاومة بالحياة والعلم والثقافة. ولا غرابة إذن أن يشير راصد مهم لتجربة الشعر البحريني المعاصر في البحرين بقوله: إن الواقع الذي كانت تصدر عنه وتعكسه تجربة عبد الرحمن المعاودة فيه من الغنى والعمق والتعدد ما يفوق تجربة ابراهيم العريض. (شعراء البحرين المعاصرون – د.علوي الهاشمي).
ويصفه عبد الله الطائي في كتابه (الأدب المعاصر في الخليج العربي) بقوله: شاعر الشعب في البحرين الذي نطق بآماله وعبر عن مشاعره تمثلت بشعره شخصية العربي في البحرين فهو ناقد لوضعه متذمر ومقاوم لاستعمار عرف ماذا يريد العامة وأدرك ملاحظات الخاصة فعبر عنهم بشعره.
ومن القصائد التي يقول الطائي هي سبب نفيه ولم تنشر في أي من دواوينه:
((ضربتَ للحق فينا أروع المثلِ / ولم تبال بما لاقيت يا ابن عليِ
عليك منا سلام الله ما هتفتْ / ورقاء أو نمرد الحادي على الإبلِ
قد قمتِ في نصرة الإسلام متخذاً / من هدي جدك طه أقوم السبلِ
يا ابن فاطمة الزهراء حسبك من/ مجدٍ بأنك من أبطالنا الأُولِ
بني أوال أراكم لا تعون ولا / تسعون بالصدق في قولٍ وفي عملِ
عاث الأجانبُ في هذي البلاد ولمْ / يروا أمامهم في القول من رجلِ
إذا الطغاة إذا ما زاد غيهمُ / يقومون بحد السيف والأسلِ
عهدٌ لنا كان بالأسلاف مزدهراً / فهل يكون لعودٍ منه من أملٍ
عهد الصحابة والآل الكرام ومن / كانوا هداة الورى في السهل والجبلِ
يا قوم ما ساد إلا من تُسودهُ / مآثرٌ ألبستهُ أنفس الحللِ
إن لم تكن ذا مضاءٍ في العزيمة أو / مزوداً بسداد الرأي فاعتزلِ
كونوا يدا يا بني البحرين واحدةً / وشمروا كلكم عن ساعد العملِ))

ويقول الناقد د.علوي الهاشمي في كتابه (شعراء البحرين المعاصرون) إن ديوان لسان الحال يمثل أجمل ما كتبه المعاودة شكلا ومضمونا. ويعتبر ديوانه الذي صدر قبل هذا وهو ديوان المعاودة عام 1942 ثم لسان الحال عام 1952 هما معا ذورة تجربته الفنية والإنسانية في إنتاجه وهما القسم الأول من شعره، ثم بحسب علوي الهاشمي القسم الثاني مسرحياته الشعرية المفقودة، ثم كتبه الأخيرة وأهمها دوح البلابل والتي بحسب الناقد د. علوي الهاشمي، لا تمثل جزءا مميزا من تجربته حيث ارتبطت جودة شعره في الأساس بالحماس والتوقد في فترات المواجهة إبان فتوته.
ويقول المعاودة: كان شعري دائما في هوى الوطن والبحر والناس ومنه القصيدة التي تطفح بالحنين إلى البحرين، كتبها أثناء اغترابه في الكويت، وذلك بحسب تصريح الشاعر نفسه في لقائه مع كمال الذيب – (مساءلات في الثقافة البحرينية – كمال الذيب) :
هو الماء لكن في لهاتي صابُ / فهل ليَ للبحرين بعد إيابُ
سلامٌ عليها ما استطالتْ بنا النوى / وما غرّنا من ذا الزمان سرابُ
فيا موطنا لو أستطيع فديتهُ / بروحي ولو عندي عليه عتابُ
ذرعتُ بلاد الله شرقا ومغربا / فما طاب لي إلا إليه مآبُ
أحبكَ رغم الحادثات فإنه / يلام الفتى في صده ويعابُ
طريحَ فراش أثقل الهم قلبه / فيا ليت حولي، من ثراك ترابُ
بني البلد الميمون ياخير معشرٍ / على البال أنتم لو يطول غيابُ
سأذكركمْ ما غرّد الطير أوهفا / الى وكره أو طار عنه عقابُ

سادسا: رحيل الشاعر: توفي الشاعر الرهيف في عام 2016 وكتب قاسم حداد يومها تحت عنوان (كلما مات عبد الرحمن المعاودة)، وكأن الشاعر في هذا العنوان اللافت هو مشروع موت دائم لأنه مشروع حياة دائمة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن قاسم حداد يستبطن في مقالته هذه سخرية مرة من الذين يقتتلون على نسبة المعاودة إلى البحرين أم إلى حاضرة أخرى من حواضر هذا الخليج، ليذكرنا قاسم هنا بأن هذا الشاعر الذي كان دأبه الترحال في المكان داخليا وخارجيا حاملا وطنه على ظهره كزوادة المسافر، لهو أكبر من المباهاة بالجغرافيا أو بهوية مدونة في جواز السفر. في الحقيقة سيعود قاسم إلى تأكيد هذه المقولة في ديوانه (طرفة بن الوردة 2011):
كلما مات عبد الرحمن المعاودة (2016)
“عن 85 عاماً، توفي الشاعر عبد الرحمن المعاودة. الآن، سيتذكر أكثر من جيلين (بعضهم سيعرف لأول مرة) أن المعاودة كان شاعراً من البحرين. حيث لم تعد الذكرى (ولا المعرفة) مفيدة أو ذات أهمية للشاعر. الآن سيبدو ضرباً من الفولكلور أن يكون الشاعر ولد هنا أو نشأ هناك. فالغربة لا مكان لها ولا زمان. وسيكون الكلام عن جنسية الشاعر أو إعلان بطاقته السكانية نوعاً من تبادل أنخابَ مديحٍ ميتٍ أكثرَ موتاً من الفقيد نفسه. وسيبدأ من تلعب بهم شهوة الجغرافيا في الاجتهاد نحو إثبات ما يعتقدون، لكي يواصلوا اللهو بنا من خلال الفقيد. تماماً مثل لعبة الطباشير القوقازية حيث تقتسم الأمهاتُ جسداً حياً في خلافهن على ملكيته، لتنال واحدتهن شلواً ساخناً ملطخاً بالدم. الفرق هنا، أنهم سيقتسمون جثماناً.
لن نذهب إلى الرثاء. فعندما يموت شاعرٌ سنصاب بالحرج أنه مات قبلنا (بقليل). وسوف ينتاب الشعراء قاطبة، (الأحياء منهم إذا صح ذلك)، شهوة رثاء الذات. لكن ينبغي أن نذهب إلى ملامسة ما يثيره موت شاعر مثل عبدالرحمن المعاودة في حياتنا. فمن تشغلهم شهوة الجغرافيا، في تجربة هذا الشاعر، سوف يؤكدون ضمور حساسيتهم التاريخية، لأن أهمية تجربة المعاودة تكمن في طبيعتها التاريخية وليس في هويتها الجغرافية. إن أكثر من إقليم في هذه المنطقة يمكنه أن يزعم انتماء غير شاعر لدائرة نفوسه دون أن يمثل هذا حصراً حاسماً للهوية الإنسانية. وبقدر ما نستطيع في البحرين (الآن) الزعم (تاريخياً) أن طرفة بن العبد شاعرٌ بحريني، سيكون ممكناً الزعم (جغرافياً) أن عبد الرحمن المعاودة هو شاعر بحريني أيضاً. وإذا ذهبنا إلى مزيدٍ من المقاربات (لئلا أقول المفارقات)، فسوف يكون من باب التلفيق ليس إلاّ، كلامنا في مسألة أصول انتماء شعراء مثل خالد الفرج وعبد الجليل الطباطبائي وبن لعبون، (لكي لا نستطرد في ذكر أدباء وشعراء معاصرين أشهرهم غازي عبد الرحمن القصيبي)، إن لم نكترث بالأهمية الحضارية والفنية لشهادة دائرة النفوس والجوازات في هذا الشأن”.

وسأختم هنا بقصيدة له يحاكي فيها المعاودة لحظة السجن الذي قضى فيه بعض الأيام بسبب حادثة اتهم فيها كما نُقل بالتستر على أحد تجار اللؤلؤ الصناعي، وهي قصيدة برغم قسوة الوضع فيها مشحونة بكوميديا سوداء لطيفة وملهمة. لم تكن روح المعاودة وهي تعاني تتضمن أية ميلودراما أو بكائية مبتذلة بل هي دائما قصيدة صديقة للحياة قادرة على السخرية حتى من مآسيها:
فلا شيء إلا السجن ألقاه كالـــــحا / يعج بأنات بأنحــــــائه تتــــــــــــــــرى
يعج بأنات المساجين إنهـــــا / لأنات قوم من كؤوس الأذى ســـــكرى
كأن هواء السجن ريح جهنمٍ / ووحشته كالقبر ضــــــقت بها أمـــــــرا
تمر بي الساعات أرقبها فإنْ / مضتْ قلتُ علّ الخير ألقاه في الأخرى