المنشور

” الهيئة ” … والنواب “المفترون”

هذا موقف فرض نفسه على الانتباه، وأفرز حالة من الأسى والاستياء معاً وبامتياز، وفرض تساؤلات راحت تتكدس حاملة المزيد من علامات التعجب المغمسة بكل ما يثير الدهشة التى تتعاظم مرتين فى الفعل وفى رد الفعل.
الحديث تحديداً عن ملف معقد ومتشابك ومتعدد العناوين والمضامين ، والأنظار دوماً تتجه اليه، وبدا حياله وعبر شواهد عدة وكأن كل ما ليس معقولاً صار معقولاً وعادياً، وهذا أمر صادم لا ريب لاسيما انه يتصل بالهيئة العامة للتأمين الاجتماعي، والكل يعي ماذا تعنى هذه الهيئة ، يكفى القول انها واحدة من اهم الهيئات العامة ذات الارتباط الوثيق بمصالح قطاع عريض جداً من أبناء البحرين، وليس من قبيل المبالغة الاشارة الى علاقتها حتى بالسلم الأهلي.
فى ضوء الكثير من اللغط حول الهيئة العامة للتقاعد وجدنا رئيس مجلس ادارتها يصدر تصريحاً صحفياً فيه يرد على بعض النواب، تصريح فريد أثار الانتباه حقاً وفعلاً ، وكان مدعاة لتساؤلات كثيرة ، فهو فى الوقت الذى يؤكد حرصه على وجوب احقاق الحق بشكل قانونى فيما يخص التعاطي مع شؤون الهيئة، الا انه يعلن على الملأ بأن ما صرح به هؤلاء النواب حول هذه الهيئة العامة يشكل “اساءات علنية، وتهم زائفة لمؤسسة عريقة من مؤسسات الدولة المؤتمنة على مقدرات أبناء البحرين ومسؤولة عن توفير الحماية اللازمة للمواطنين عند الشيخوخة او المرض او العجز”، وعلينا ان نلاحظ بان الرجل شدد على ان ادارة الهيئة المؤتمنة على مقدرات أبناء الوطن ترفض الطعن والتشكيك فى نزاهة وكفاءة منتسبيها والتشهير بهم من خلال التصريحات ووسائل التواصل الاجتماعى دون أي اعتبار أو رادع. (الصحف المحلية – 4 مارس2021).

اما المفاجأة المذهلة فقد جاءت حين كشف الرجل للرأي العام بأنه “اضطر آسفاً لاتخاذ الاجراءات القانونية ضد بعض أعضاء لجنة التحقيق البرلمانية فى ملف صناديق التقاعد بذريعة إخلالهم بأخلاقيات من يمثل الشعب ونشر معلومات مغلوطة بما يزعزع ثقة المواطنين فى مؤسسات الدولة وتهديد استقرارهم الاجتماعي”، الى آخر القائمة من التهديدات المباشرة والمبطنة فى النوايا والأعمال، وكأنه يريد ان يرجع بنا الزمن إياه، وهذا أمر جدير بالرصد والتأمل خاصة حين يكون هذا الأمر مدعاة لسوء الظن وهو كما قال الأقدمون” من أقوى الفطن” !
الرجل لم يفوّت علينا أن نلاحظ دعوته للنظر جدياً – لا حظوا كلمة جدياً – فى عمل الهيئة، وجدية تعاملها مع لجنة التحقيق البرلمانية، ولا ينسى ان يلفت انتباه الجميع بأن الهيئة، وبكل شفافية، زودت اللجنة بالأرقام والبيانات التى طلبتها، وكأنه يقول للنواب المعنيين أن الهيئة تعرف واجباتها ولا تحتاج دروساً من النواب حول ما يجب ان تفعل، وليس أمامكم، يا نواب، إلا أن تقبلوا بهذه الأرقام والمعلومات، ولا خيار آخر لكم، والمطلوب منكم ان تتغنوا بإنجازات الهيئة، وتغضوا النظر عن كل ما يثير الشبهة فى مسارات عملها، ولا تنسجوا من حولها الأكاذيب والافتراءات فقد خاب من افترى وهى المكافحة من اجلكم والحريصة على مصلحتكم والمؤتمنة على أموالكم، والبراهين تحكى حالها لحالها وعلى المكشوف، واذا كنتم ترون او تصرّحون بعكس ذلك فان الاجراءات القانونية أمامكم.
نكرر بان هذا طراز فريد حقاً من التصريحات التى اراد صاحبها ان يبعث بأكثر من رسالة تبلغها الجميع بعلم الوصول، وكأنه اراد من خلال تصريحه أن يقول، وبعزم وثبات، أن الهيئة العامة للتأمين الاجتماعى باتت فوق مستوى الشبهات، وفوق أي قيل أو قال، وفوق مستوى النقد، وفوق أي رقابة أو مساءلة، صحيح أن رئيس مجلس إدارة الهيئة فى تصريحه الذى استفز الكثيرين لم ينس أن يؤكد على أهمية الدور التشريعي والرقابي للنواب، ويؤكد كذلك على “حرص الهيئة على التعاون الايجابى الدائم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بما يحقق مصلحة الوطن والمواطنين، وذلك من خلال التجاوب الدائم مع أعضاء مجلس النواب والرد على جميع استفساراتهم المتعلقة بعمل الهيئة” ..!، ولكنه كلام يسوغ لنا استحضار انه “تحصيل حاصل”، وهذا يعنى أنه كلام مفروغ منه، وأن البحث فيه غير مجدى، أو أنه بعيد جداً عن أن يكون مقنعاً.
الصحيح أيضاً أن هذا التهديد والوعيد الذى تضمنه التصريح وتجاوز حدود المقبول تجاهل صاحبه تجاهلاً فادحاً عدة أمور، ليس فقط حصانة النواب التى كفلها الدستور، وأحقيتهم فى السؤال والنقد وإبداء الرأي بكل حرية، و حريتهم فى تشكيل لجان التحقيق ومراقبة ومساءلة ومحاسبة السلطة التنفيذية، واستجواب الوزراء وفقاً لما نص عليه الدستور، وعلى أساس ذلك يُفهم بأن النائب غير خاضع لتهديد أو أهواء أي مسؤول كان، فى أي موقع كان، وأن تخليه عن هذا الدور هو تخلٍ عن واجب دستوري وتفريط فى مهام تفرض نفسها فرضاً.
الرجل تجاهل ان الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي هى مؤسسة عامة، ومسؤولية عن أموال عامة، ومعنية بحسن ادارة هذه الأموال، وتجاهل انه بوسع المرء ان يستخرج من الذاكرة، اومن الارشيف الصحفى، او من سجلات المجلس النيابي، وان يعود الى ما خرجت به عدة لجان تحقيق برلمانية تشكلت على مدى اكثر من فصل تشريعي ووثقت ما لا حصر له من المآخذات والخروقات حول ما يتصل بواقع حال الهيئة، وكفاءة ادارتها، وما شكل “ملفات ساخنة”، بالاضافة الى ما كان ولا زال يتردد فى الكواليس ليصل الى قناعة بان وضع هذه المؤسسة العامة مسكون بالقلق الذى يفتح الشهية لتساؤلات لازالت تبحث عن اجابات تشفى الغليل، كما تجاهل الرجل انه بالإمكان الرد الوافى والصريح والمباشر على تصريحات كل من تعرض من النواب من اعضاء لجنة التحقيق البرلمانية وان يوضح ما هو غامض او ملتبس فى اي من الأمور المثارة بدلاً من التهديد والوعيد على النحو الذى شهدناه وبإسلوب محزن لاريب وسئ فى ذاته، ولكنه أسوأ فى دلالته، لأنه يعنى فى أبسط تحليل اننا امام ما يضاعف ويعمق من بواعث الريبة وانها لم تعد تخفى على احد فى كل ما يخص أمور هذه الهيئة العامة وبشكل لا مجال للاجتهاد فيه.
لذلك يمكن اعتبار ان ردود الفعل على تهديد ووعيد رئيس الهيئة واعلانه الواضح والصريح عن اجراءات قانونية اتخذت ضد عدد من النواب الذين رأى فيهم بأنهم “خرجوا عن المهنية فى عملهم التشريعي ومارسوا ما يخل بأخلاقيات من يمثل الشعب فى بيت الشعب “، هذه الردود يمكن القول إن معظمها صبّ باتجاه المراهنة بأن مركب هيئة التأمين الاجتماعى لا يسير حتى الان على خير ما يرام، وكل من سمع ومن قرأ ومن تابع ومن وصلته أصداء هذه الردود، وكذلك من استطاع أن يربط بين الكثير من الوقائع ذات الصلة بمسار هذه الهيئة والنتائج التى توصلت لها ليس فقط لجنة التحقيق البرلمانية التى تشكلت فى الفصل التشريعي الحالى، بل ومعها خلاصات لجان التحقيق الاخرى التى تشكلت فى الفصول التشريعية السابقة، سيخرج بخلاصة ان اللغط الذى أثير ولا يزال يثار حول الهيئة وملف التقاعد واوضاع المتقاعدين، وحقوقهم ومكتسباتهم التى بدأت تُمس، هو الملف الذى لا ينبغي التهوين من شأنه، وعليه يتوجب ان يفتح على مصراعيه بكل شفافية وجرأة حتى يمكن رصد التقيّحات التى تنتاب هذا الملف والتى هى حصاد مسلسل من الاختلالات تتراوح حلقاته بين ممارسات وسياسات وحسابات، وما هو تنفيذى واداري، وما يتصل بالشفافية وقواعد المسؤولية، و لا نعرف، ولا حتى النواب يعرفون اذا كانت التقّيحات والاختلالات هى كل “النار” ام بعضها فى هذا الملف الشائك.
لا بأس فى هذا السياق ان نستعيد بعضاً من ردود الفعل من واقع ما أثير فى العديد من مواقع التواصل الاجتماعى، عضو كتلة “تقدّم” النائب يوسف زينل شدد على أن ترهيب النواب أعضاء لجنة التحقيق سابقة خطيرة وترهيب صريح للنواب، ويمس جوهر العمل البرلماني، والتصدي لذلك واجب لمنع انحراف لمنع انحراف المسيرة النيابية، ووجدنا المحامي حسن اسماعيل عضو المنبر التقدمى الذى وجد فى تلك التهديدات إهانة لمجلس النواب وجريمة عملاً بحكم المادة 216 من قانون العقوبات التى نصت على ان “يعاقب بالحبس أو الغرامة من أهان بإحدى طرق العلانية المجلس الوطنى”، مشدداً على أحقية النواب فى نشر ما يرونه من تجاوزات وفساد فى اي من مؤسسات الدولة، وعدم جواز مؤاخذتهم عما يبدونه من آراء وأفكار.
ووجدنا من وجه الشكر لرئيس الهيئة على تصريحه بعدم اختفاء 900 مليون دينار من التأمينات داعياً إلى نشر المستندات الدالة لإقامة البيّنة على النائب الذى أشار الى اختفاء ذلك المبلغ، ووجدنا نواباً يغردون فى الفضاء الاليكتروني مثل النائب خالد بوعنق الذى قال “هل انقلبت الآية ؟، المضحك المبكي خروج مسؤول فى الجهاز التنفيذى يلوح بمحاسبة النواب المنتخبين والسبب كشفهم عن معلومات وحقائق، فيما ذهبت النائب كلثم الحايكى الى القول بان “من واجب النواب الإضاءة على أي خلل فى أي وزارة أو هيئة، ومن واجب النواب محاسبة المسؤولين عن أي هدر أو فساد، وتخلي النواب هو تخل عن واجباتهم الدستورية، وفى نفس كان ملاحظاً أن هناك نواب كثر صمتوا صمتاً مريباً وكأن الأمر لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد.
صحيح أن لجنة التحقيق البرلمانية بشأن صناديق التقاعد التى تدار من الهيئة العامة للتأمين الاجتماعى، إلى جانب عدد من النواب، بالاضافة إلى كتلة “تقدّم” النيابية، جميعهم اصدروا تصريحات وبيانات لوحظ بأنه لم ينشر أي منها إلا فى بعض المواقع الإليكترونية، المهم فيما يخص بيان اللجنة هو تأكيد رفضها للاتهامات وقالت بأنها “لا تقوم بتضليل المواطنين وسوف تكشف عن الكثير من الحقائق المتعلقة بعمل الهيئة”، وإضافة إلى ذلك بيّنت انها لم تطرح اتهامات لأحد، وما قامت به أنها حاولت الكشف عن ما تقوم به من عمل واستفسارات كلجنة تحقيق برلمانية”، ولكن الغريب والمدهش حقاً، وما يشكل الطامة الكبرى هو موقف مجلس النواب، المجلس الموقر لم يصدر بياناً، او تصريحاً يعبر فيه عن موقفه الرافض للغة التهديد والوعيد التى وجهت ضد بعض أعضاء المجلس، موقف كان منتظراً حتى لا تمتد اللغة ذاتها لبقية الجهات الرسمية مما يهدد البقية الباقية من صلاحيات النواب لتبقى محصورة على الشكليات لا تتجاوز حدود الشكر والإشادة بمناسبة وبدون مناسبة والمقترحات البائسة.
فى الشق المتعلق بالخلاصات يمكن القول إن جميع المعنيين أمام امتحان، امتحان عسير، والخشية أن تكون النتيجة: لم ينجح أحد، وهذا يعنى أننا حتى الآن لا نعرف متى نغادر نقطة الصفر فى ملف يشكل واحد من اهم الملفات التى تهم الناس فى هذا البلد، وهذا فى حد ذاته نوع من العبث ..!