المنشور

أموال الهيلوكوبتر الضارة بالدولة والمجتمع

تحدثنا في أكثر من مناسبة أن من يحكم العالم الرأسمالي اليوم هي الرأسمالية المالية. ولم يعد سرا على أحد أنها تستخدم المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد والبنك الدوليين، كأدوات فعالة من أجل إخضاع كل نظام الإدارة العالمي وكل إقليم ودولة وطنية فيه، وما يسري فيها من نماذج وسياسات اقتصادية-اجتماعية ونظام مصرفي وسلوك مجتمعي وتشريعات ونظم، كلها لخدمة مصالح طبقة الرأسماليين الماليين – حكام هذا العالم.
يسمي البعض فوز الرئيس بايدن بالمرحلة الثالثة من إدارة أوباما، ويعني هذا الفوز تثبيت الرأسمالية المالية سيطرتها وقيادتها للعالم الرأسمالي من جديد. وقرار إصدار 1.9 ترليون دولار كدفعة أولى من برنامج التيسير الكمي الذي سيغرق البلاد بكميات هائلة من أوراق الدولار التي لا غطاء لها في الواقع الاقتصادي المادي ما هو إلا مدخل قوي لبرامج الإدارة الجديدة. وبذلك يتحقق حلم السيد بن برنانكي، الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بأن يصبح ممكناً نثر أوراق الدولار القليلة القيمة من على متن طائرة الهيلوكوبتر على الأفراد والشركات !!
المسافة بين البحرين وواشنطن حوالي 11 ألف كلم. فهل لطائرة هيلوكوبتر أن تقطع هذه المسافة من وراء المحيط الأطلسي؟ نعم، “هيلوكوبتر” بن برنانكي المالية – النقدية وصلت. نعني بذلك أن السياسة المالية النقدية المتبعة هناك تنعكس لدينا في كثير من جوانبها. كيف ؟
يجيب على هذا بشكل غير مباشر تقرير بعثة صندوق النقد الدولي (22 مارس 2021) بعد اختتام المجلس التنفيذي للصندوق مشاوراته مع مملكة البحرين (17 مارس) وفق المادة الرابعة من نظامه. ولنتناولْ ذلك ارتباطا بما جاء في تقارير أخرى في سياق تحليلنا التالي.
من نافل القول إن ميزانية الدولة لدينا لا تستند إلى خطة تنمية اقتصادية اجتماعية ثلاثية، خماسية أو عشرية. بل أن مبدأ التخطيط لا ينال الاعتراف، رغم أنه فرض دستوري. وإذا كنا قد سمعنا يوماً من بعض المسؤولين عن الإنتقال من ميزانيات البنود إلى ميزانيات البرامج (وقد صفقنا لذلك حينها)، إلا أنه سرعان ما طوى الصمت توجهاتٍ كهذه. الذي نشهده في السنوات الأخيرة هو أن وضع الميزانية يتمحور حول مسألة التوازن المالي، وحتى هذا الأخير ليس كأداة اقتصادية، بل كهدف بذاته. هذا النهج بكل ما جرَّه ويجرُّه من سياساتِ خصخصةٍ وتوظيف للعمالة الأجنبية على حساب الوطنية وضرائبَ غير مباشرةٍ وغير عادلةٍ ورفع للدعم عن المواد الغذائية والخدمات الضرورية للمواطنين وغلاء في الأسعار واستمرار ارتفاع سقف الدين العام وعبء خدمته خضع لنقد مرير من جانب كثيرين من المعنيين بالشأن الاقتصادي في بلادنا. بلا مواربة – هذه هي نتائج الأخذ “بالوصايا العشر” للمؤسسات المالية الدولية. لكن هذه المؤسسات لا تتوانى عن أن توجه نيران النقد للحكومات الوطنية عندما يقود هذا النهج الاقتصاد الوطني والبلاد إلى إخفاقات.
بداية يمتدح صندوق الدولي مملكة البحرين لأدائها الجيد في مكافحة جائحة كورونا، لكنه لا يمكن أن يُقِر، مباشرة أو إشارة، إلى أن هذا من فضل قوة الاستمرارية المتبقية من سياسة دولة الرعاية الاجتماعية التي عمل هو وغيره من مؤسسات شبيهة لتفكيكها.
لنبدأ من مشكلة المشاكل- الدين العام. بلغ مستوى الدين العام 133% من الناتج المحلي الإجمالي. ولتبيان خطورة هذا المؤشر نشير إلى أننا نقترب من المؤشر اللبناني البالغ 161.8% (تقرير فوربس، مارس 2021). وفي هذا الصدد “شدّد” التقرير على اتخاذ “تدابير دمج إضافية تتجاوز الميزانية الحالية لوضع الدين على مسار هبوطي ثابت وتقليل اعتماد الإيرادات المالية على أسعار المواد الهيدروكربونية”. كما دعا مدراء الصندوق إلى “خطة تعديل مالي طموحة” على المدى المتوسط و”تعبئة الإيرادات المحلية وترشيد الإنفاق”. طبعا، هذه عبارات عامة تجد محتواها الفعلي في ما يعرف بالوصايا العشر للصندوق والتي كرسنا لها مقالاً خاصاً في أحد أعداد “التقدمي”. بعبارة أخرى في إطار النهج الاقتصادي الحالي ومع تكرار هذه الحلول نرى سقف الدين العام يرتفع مع كل عام. فهل استمرار الصبر على هكذا نهج سيأتي أُكلَه يوما ؟
في هذا الصدد يتساءل واضعوا تقرير معهد التمويل الدولي (IIF) عن الطريقة التي سيقلص بها الاقتصاد العالمي هذا الحجم الهائل من المديونية دونما آثار متعبة على النشاط الاقتصادي؟ ويشير الخبراء الاقتصاديون إلى أن الدين العالمي ظلّ لسنوات طوال يتزايد على حساب الإصدار النقدي وتوزيع القروض الرخيصة على الأفراد والمؤسسات. وهكذا فقط يتم تحفيز الاقتصاد عاما بعد عام. لكن أرتيوم دييف، رئيس دائرة التحليل في “إيه ماركتس” الروسية يرى أنه “عاجلا أم آجلا سيؤدي هذا إلى دورة جديدة من العجوزات وإلى انهيار مالي عالمي جديد”. وأنه “لا أحد يعلم ما الذي سيحدث بعد ذلك. الواضح فقط هو أن الدول لن تستطيع سداد ديونها الهائلة”.
وهنا فارق كبير بين عجز الدول المتقدمة اقتصاديا والدول النامية عن سداد الديون. الديون العالمية مقومة بالدولار الأميركي أساسا وبالعملات الريادية الأخرى كاليورو والفرنك السويسري والين والجنيه الاسترليني. الولايات المتحدة، مثلا، يمكن أن تنتظر تزايد الفقاعات المالية حتى انهيار هرمها المالي، ومعه العالمي. غير أن سيادتها ليست مهددة من أحد في كل الأحوال. الصين – الدولة الاشتراكية، هي الأخرى سارت في طريق التيسير الكمي. لكن بهدف واضح، وهو تشجيع الشركات على الاقتراض للحصول على المزيد من التكنولوجيات المتقدمة. غير أن خطة التنمية الاقتصادية الاجتماعية 14 الجديدة تنظر إلى ظاهرة تعاظم الدين العام بقلق بالغ (رغم أنه بالعملة الوطنية في الأساس)، وستعمل على “تبريد” الدين ثم تصفيره سريعا. بالنسبة للدول النامية، وخصوصا الفقيرة الأمر يختلف. لن يطلب منك أحد سداد الديون، لأنك ببساطة لن تستطيع، كما أن ما بقي لديك من مال لم تعد له قيمة تذكر، خصوصا إذا لم تكن محصنا باحتياطات الذهب. هنا، إفلاس الدولة يؤدي ليس فقط إلى فقدان السيادة، بل ويهدد مفهوم الدولة الوطنية لصالح دمجها في النظام العالمي الجديد، الذي يدور عنه الحديث الآن كما في الخيال. الشركات الكبرى (بعد عمليات دمج هائلة فيما بينها) هي التي ستسيطر مباشرة على “الأراضي” ومن عليها (مجرد أجراء) وما في جوفها (ملكية خاصة). اللهم اجعله مجرد حلم مزعج. البلدان الأوفر حظا للإفلات من هذا المصير هي الأقل غرقا في الديون.
هذا على المستوى البعيد. أما على المستوى القريب والمتوسط فهناك مؤشرات مقلقة حقا. يشير تقرير الصندوق إلى أن الاحتياطات الدولية انخفضت، بحيث لم تعد تغطي أكثر من 1.4 شهر من الواردات غير النفطية المحتملة. للمقارنة نشير هنا إلى أن معدل الأمان العالمي هو خمسة أشهر. ويتوقع تقرير المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات أن يصل احتياطي البحرين من العملات الأجنبية 2.4 مليار عام 2020 مقابل 2.3 مليار دينار عام 2019. وفي حين تلجأ غالبية دول العالم، مع تفاقم الأزمة العالمية، إلى زيادة المكون الذهبي في احتياطاتها النقدية الذهبية، باعتبارها أكثر أمانا وارتفاعا مستمرا في قيمتها، إلا أن احتياطات البحرين من الذهب ظلت بمقدار 4.7 طن فقط حسب تقديرات مجلس الذهب العالمي لعام 2020، كما كانت عليه عام 2015. ولتبيان ضآلته يشكل هذا الاحتياطي حوالي 0.34% فقط من مجمل احتياطي الذهب للدول العربية. احتياطي نقدي – ذهبي بهذا القدر والتكوين يشكل خطراً على سعر صرف العملة المحلية الذي سجلّ تراجعا بمقدار -3.4% عام 2020.
يشير التقرير إلى اتسام الاقتصاد بالإنكماش عموما بنسبة -5.4%، والانكماش حاد في القطاع غير النفطي (-7%)، ما أدى إلى ارتفاع العجز المالي إلى 18.2% واتساع عجز الحساب الجاري إلى 9.6% من إجمالي الناتج المحلي لعام 2020. ومهما كانت توقعات تحسن مؤشرات النمو، إلا أن مستقبل النفط في ميزان وسوق الطاقة العالميين سيظل معرضاً للضغوط.
وفي حين ذكر التقرير أن البنوك ظلت تتمتع برؤوس أموال وسيولة جيدة، إلا أنه حث السلطات “على الحفاظ على تحليل استشرافي لمحافظ الائتمان المصرفية ومستويات المخصصات وإدارة الروابط بين البنوك السيادية بعناية.” لا نعرف تماما ما الذي تمّ وضع الإصبع عليه في الإشارة الأخيرة، لكن تجارب بلدان أخرى تسجل محاولة المصارف استغلال نفوذها لتوريط المصرف المركزي في معالجة الفشل، غالباً عن طريق الإصدار النقدي. نرجو أن لا يكون الأمر كذلك.
عوداً إلى بدء المقال، حيث قلنا إن السياسة المالية النقدية تنعكس عندنا بجوانبها السلبية. ترى ما الإيجابي الذي لا ينعكس لدينا ؟
تقول بلومبيرغ إن الرئيس بايدن يخطط لأول زيادة كبرى في الضرائب منذ 28 سنة (منذ عام 1993). وينطلق في ذلك من اعتقاده بأن الأميركيين بحاجة إلى سياسة ضريبية أكثر تقدمية، وتركز على مكافحة عدم المساواة. ولتمويل البرامج الاقتصادية ما بعد حزمة الدعم الثالثة (1.9 ترليون دولار) ستتم زيادة الضرائب على الشركات الكبيرة من 21 إلى 28%، بينما ستقدم الحوافز للشركات الصغيرة والمتوسطة. وستزيد الضرائب على دخل الأفراد الذين يزيد دخلهم عن 400 ألف دولار سنويا (12.6 ألف د.ب شهريا). وتجري دراسة فرض ضريبة أكبر على نمو رأس مال الناس الذين يحققون دخلا أكثر من مليون دولار سنويا. بتقدير Tax Policy Center ستدر الزيادة الضريبية على الميزانية حوالي2.1 ترليون دولار. ويمكن بسهولة ملاحظة أن هذه السياسة الضريبية، مباشِرة أولا، ولا تمس الفئات الدنيا ولا الشركات الصغيرة والمتوسطة بسوء. الضرائب لدينا معكوسة : غير مباشرة، وتستهدف الأضعف أولا !!
سندع جانباً حزم الدعم عن طريق أموال الهيلوكوبتر، والتي تعد كل مواطن بمبلغ 1400 دولار ومزايا إضافية للأطفال وتمديد إعانات البطالة وفئات معينة، ويقول عنها الخبراء أنها قبل نهاية السنة المالية الحالية (1 أكتوبر 2021) يجب أن تزيد دخل هؤلاء بنسبة 20%. إنها أموال ستتأتى عن طريق مزيد من الإصدار النقدي ومزيد من الدين العام. ولذلك فهي مُعابَة من قِبَل العديد من الاقتصاديين.
في مقابل ذلك، وهذا ما ندعو للأخذ به، أنه حتى في أميركا نفسها لا يزال يسري برنامج المساعدة الغذائية (Supplemental Nutrition Assistance Program) منذ عقود. ويسمى أيضا كوبونات الغذاء (food stamps)). وفي العام الأخير فقط زاد عدد الذين يستخدمون الكوبونات من 36 مليونا إلى 44 مليونا. ولا تزال في الكويت تمنح البطاقات التموينية للمواطنين، كما في بلدان كثيرة في العالم. هذا الدعم هو أضمن من حيث ذهابه لأهدافه مباشرة. كما أنه أقل كلفة من أموال الهيلوكوبتر الهائلة. إذ كلما زاد عرض النقود ارتفعت الأسعار الإسمية، ما يسمح بإعادة تدوير قسم كبير من الأموال لصالح التجار وشركاتهم الكبيرة.
ومهما أثار هذا عدم ارتياح البعض، إلا أننا لسنا مع تعميم الدعم (سواء من جهة “تمكين” أو وزارة العمل) لجميع الشركات صغيرها وكبيرها بنفس المبدأ، إذ سيعني ذلك عمليا، وكما هو حاصل، ذهاب الدعم في غالبه لكبار الشركات، وتمكيناً لها ضد الشركات الصغيرة والمتوسطة، بالضد من فكرة تمكين الأصل التي يجب أن تعني مساهمة الشركات الكبيرة في دعم الصغيرة والمتوسطة. فلا عجب أن نشهد تدهور أعداد كبيرة من هذه الأخيرة في مقابل، مثلا، أن تستولي شركة عائلية واحدة على مختلف مجالات الأعمال، من المصارف إلى وكالات السيارات إلى خدمات الأمن والمكاتب وحتى جمع القمامة !! إن دعماً على هذه الشاكلة لا يعتبر انحيازاً طبقياً لصالح الأغنى فقط، بل وإجهاداً للدولة والمال العام، وسيكون في نهاية المطاف على حساب زيادة الدين العام، في حين تطرح هذه الشركات في السوق إنتاجاً مستورداً في الغالب، وتوظف في الغالب عمالة أجنبية تحوّل الأموال للخارج وتضغط على قطاعات الخدمات في الداخل.
صندوق النقد أكدّ، كما في كل مرة، على مزيد من سياسة التقشف وتمكين القطاع الخاص للعب الدور القيادي في الاقتصاد. وفي هذا لبُّ “الإصلاح الاقتصادي” من وجهة نظره، على أن تكون الدولة مجرد “حارس أمين” لتحقيق هذه التحولات. في مقابل ذلك نقول إن إجراءات ما، مضادة للأزمة مطلوبة بالفعل، كالتي مررنا على ذكر بعضها، لكنها، متناثرة، لا تشكل برنامجاً متكاملاً لخروج اقتصادنا ومجتمعنا من الأزمة الحالية. هذا البرنامج يكمن ببساطة في تغيير النموذج الاقتصادي بشكل جذري، إلى نموذج يخلق اقتصاداً فعلياً، منتجاً، مترابط ومتكامل الأوصال، قادراً على إحداث التراكم الداخلي والتكاثر الذاتي، معبئ لجميع الموارد الداخلية من مادية ومالية وبشرية من أجل التنمية الداخلية. وإيجاد مثل هذا النموذج يحتاج إلى الإيمان بمبدأ أن تلبية حاجات تطور المجتمع وتعزيز دور وقدرات الدولة الوطنية أهم بكثير من تكثير أرباح الشركات، ولو بالمال الفقاعي. وبالطبع هذا بحاجة إلى كوادر بشرية مؤمنة بهذا المبدأ، وليست مبهورة بنموذج وطريقة عيش البلدان التي لم تعد متقدمة، بقدر ما هي متأزمة ليس اقتصاديا فحسب، بل وقيمياً وحضارياً.