المنشور

وضعت خطاً فاصلاً بين عصرين، ماذا ينتظرنا بعد الجائحة؟

ترتفع بعض الأصوات مؤخرا لتلقي اللوم الأكبر على الحكومات التي حُذِّرت من طرف جهات علمية منذ 2009 من خطر الفيروسات القادمة، ولا من مجيب. تعود بعض تلك ألأصوات إلى بداية ظهور فيروس أنفلونزا الطيور، ومنها ما نبه إليه الكاتب الإقتصادي والإجتماعي الفرنسي جاك أتالي الذي كان مستشارا للرئيس فرانسوا ميتران، والذي شغل مناصب أخرى في غاية الأهمية. لكن قدرته على قراءة المستقبل من خلال معطيات الماضي والحاضر مذهلة، ولولا تعاطيه السياسة وتواجده في دائرة المسيرين في المواقع الحساسة لما انتبه الإعلام لآرائه ربما، فقد كانت آراء أهل الفكر موجهة دوما لفئة قليلة من الجمهور المتابع للأخبار العالمية.
لم يتصدّر الخبر العلمي المحطّات الإخبارية إلاّ حين حطّ فيروس كورونا علينا وبسط نفوذه على كامل الكرة الأرضية. حتى أن محطات غير إخبارية دأبت على بث أخبار الحجر وأرقام المصابين والموتى على مدار الساعة لعدة أسابيع، وحين طال مقام الفيروس بيننا وملّ الناس من الحجر وتبعاته عادت شيئا فشيئا لبرامجها المعتادة.
في أوائل أيام الجائحة نبّه جاك أتالي إلى أهمية “المعلومة”، لأنها تشكل رمزا للحياة، وحذّر من الشائعات لأنها تتصرّف مثل الفيروس تماما، فهي تقوم بتدمير الدفاعات المناعية لضحيتها. ومع هذا لعبت الشائعة دورا مهما لنشر الفيروس بشكل جنوني، فقد أحبّ الناس دوما إبتكار ما يسليهم، دون وعي لخطورة ما يفعلون، أطلق البعض شائعة أن الفيروس لا وجود له، رفضت نسبة كبيرة من البشر على هذه البسيطة إرتداء الكمامة لفترة طويلة، ورفض مثلها الرضوخ للحجر، حتى أن بعضهم خرج في مظاهرات سياسية لا علاقة لها بالواقع الصحي، وادعت فئة لا بأس بها من هؤلاء أن “الكورونا اختراع أنظمة دكتاتورية، تريد تخويف شعوبها لمنعهم من التظاهر”
ورغم لجوء مثقفين كبار إلى تنبيه الشعوب لخطورة خصمهم على نسق المقولة الشهيرة :”يمكن رؤية الأسد ولكن يستحيل رؤية فيروس” إلا أن كُتّاب ذوي شهرة ومكانة أدبية وإعلامية سلكوا الطريق المعاكس لهذا الرّأي، وطبعا لا أدري ما شعورهم اليوم وقد شاركوا بقسط مهم في ارتفاع عدد المصابين والموتى بهذا الفيروس.
هاوي الأدب الإنجليزي روبن كوك، الذي استلم وزارة الخارجية واستقال من حكومة توني بلير بسبب معارضته لحرب العراق، والشهير بمواقفه الإيجابية تجاه القضايا العربية، قال في كلمة سبقت عصر الكورونا الذي لم يشهده :” الفيروس هو آخر مفترس للبشر” .
طبعا بإمكان هواة الإشاعات أن يجدوا في هذا الكلام ما يغذي مخيلتهم فينسبون لكوك في قبره مسألة اطلاعه على المخطط الفيروسي التدميري الذي حضّر له أحدهم لتدمير البشرية…! كل شيء وارد في غياب تعاون حقيقي بين العقلاء وحكام هذا العالم.
لقد أُطلقت تحذيرات عن احتمال ظهور جائحة فيروسية منذ ظهور H1N1 ولم تكن تحذيرات واهمة أو مجرّد توقعات مبالغ فيها، ولكنها قائمة على معطيات علمية حسب تحورات السلالة الفيروسية ومدى سرعة انتشارها كلما وجدت بيئة حاضنة، لكنّها لم تجد آذانا صاغية، أو ربما تعمّدت الجهات المسؤولة إهمال الأمر لأن أي تحضير لمواجهة جائحة محتملة يعني صرف الكثير من القروش.
في نصوص روائية وقصصية وأفلام سينمائية عديدة استغل بعض المخرجين الخبر العلمي الذي لا يتصدّر الواجهة – لأن الصحف تعطيه مساحة على الهامش بحيث تقلل من أهميته، تفاديا لإثارة الهلع بين السكان- فصنعوا أفلامهم في صمت، مثل فيلم 93 يوما –موجود على نتفليكس – الذي أخرجه ستيف جوكاس العام 2016 عن فيروس إيبولا مأخوذا عن قصة حقيقية.
التفاصيل المختصرة عن حقيقة فيروس إيبولا والتي تقدم لنا عبر مواقع لا حصر لها، لا تنقل كمية الرعب التي يحملها الفيروس اللامرئي لتدمير الأجساد البشرية التي يلامسها، ولهذا ظلّ الفيروس خارج محصلتنا المعرفية، كما كل الفيروسات التي لم تدخل البرامج التعليمية لتلاميذ المدارس، ومدارس تعليم الطبخ، والمؤسسات الغذائية بصرامة كالتي نعيشها اليوم. من الإهمال المبالغ فيه إلى نظام شدّ الأحزمة، بلغنا اليوم مرحلة وضعت خطا فاصلا بين عصر ما قبل الكورونا وما بعده.
بالنسبة للمشاهد الذي تابع فيلم 93 يوم، سيتوقف حتما عند معلومة مؤسفة وهي أن الطبيب عاجز عن التصرف بدرايته وحكمته أمام تعنت مرضى “السلطة والثروة” الذين يتسببون في الغالب في تفجير كوارث من هذا النوع.
يروي الفيلم قصة تشبه ما نعيشه هذه الأيام، ويقدّم لنا بشاعة النهايات المأساوية للمصابين بفيروس إيبولا، كما يمرر رسائل سياسية مهمة وإن كان بإيقاع بطيء، واضعا التضحية الطبية في مقدمتها. لكن السؤال الخطير الذي يُطرح بعد متابعة تلك التجربة الناجحة لتطويق الفيروس في بلد غير مجهز لمواجهته، هو ما الذي تغيّر في نيجيريا بعد إيبولا؟ لأن ما شهدته كان فعلا “بروفا” أمام جائحة كورونا التي لم تعرف تطويقها بنفس الطريقة. القوة الإقتصادية الأولى في أفريقيا لم تعرف تجهيز البلاد لمواجهة أمراض مماثلة خاصة أنها لا تخلو من أطباء متمكنين كرروا تحذيراتهم من أمراض فيروسية قادمة قبل عشرين سنة من ضرب إيبولا للغرب الأفريقي.
بعد عام من الجائحة لا يزال العالم في قلبها، لا تقدّم حتى في انتاج ما يكفي من اللقاحات وتوزيعها بالشكل الصحيح بين سكان الأرض. ويبدو أن الإنسان بطبيعته البشرية الهشة يختبئ حين يشعر بالخطر، وحين لا ترصد مشاعره ذلك الخطر لأسباب عديدة لا يتردد في رمي نفسه إلى التهلكة مجدّدا.
من منظور تاريخي محض وضح أحد مؤرخي طب العصور الوسطى بجامعة باريس 8 أن الأوبئة نادرا ما تغيّر مسار التاريخ ولكنّها تسرّعه. على نسق ما يحدث عندنا اليوم، عادت مخابر طبية كثيرة للعمل بعد أن كانت معطّلة بعد تمويلها من جديد، وأطلق سراح أدوية تمّ تعطيل تسويقها للسبب نفسه.
كما أُكتشفت إمكانية العمل عن بعد، وقد وفّرت ملايين الدولارات لبعض القطاعات والتي كانت تصرف من أجل الإيجارات وفواتير أخرى. وعاد العقل إلى الواجهة العالمية في صورة المنقذ الحقيقي للبشرية، ليس فقط لعلاج الأزمة الصحية بتجنيد الأطباء ومساعديهم وعمال المستشفيات بل لفهم الجائحة في حدّ ذاتها بالإستنجاد بالفلاسفة والمؤلفين وعلماء الإجتماع لفتح أبواب المعرفة من جديد عبر سجالات إعلامية طويلة، ما جعل نسبة الوعي العام ترتفع ولو بنسب متفاوتة بين المجتمعات.
يبقى الغائب الأهم في خلال هذا التدريب العصيب لمواجهة كورونا، أو أي فيروس على شاكلته هو حماية المشاعر من التفتت، فالحرب معه تفرض علينا العزلة والإبتعاد عن الآخر عكس كل الحروب التي تتطلب التجمعات والتكاتف والتّراصّ لمواجهة أي عدو كان.
التعليم عن بعد لتلاميذ المدارس فشل فشلا ذريعا، لقلّة التفاعل مع الأساتذة، وغياب الإحتكاك معهم مباشرة ما أدى إلى فقد السيطرة على تركيز التلميذ وتوجيهه، كما فقد روح التعامل مع الآخر، وفي هذا الأمر ما يجعلنا نفكّر كيف ستكون الأجيال القادمة إذا ما طال زمن الجائحة لعدة سنوات؟
ماذا ينتظرنا إذن بعد الجائحة؟ الإجابات الصادمة تقول أن مستقبل الشركات أقلّ عولمة وتكلفة، وأكثر رقمنة، قد تتراجع قطاعات صناعية كثيرة، أمام تقلّص حركة الإنسان فحتما سيشهد العالم تقلصا في صناعة وسائل النقل، أو أنها ستحتاج لتصميمات آمنة مختلفة. غير ذلك أعتقد أن القيود البيئية ستفرض نفسها، عصر الإستهتار بالبيئة سينتهي وإلاّ فإننا سنبقى في الدوّامة نفسها. فقد أثبتت نتائج أبحاث كثيرة أن الفيروسات تتطور وتزداد شراسة كلما ازداد النشاط البشري في هتك البيئة.
يتوقع البعض أن هندسة البيوت ستتغير، إذ فيما تأخذ مكاتب العمل في الإختفاء، تصبح بالمقابل غرفة العمل ضرورية في كل بيت، كغرفة إضافية ضرورية وإن لم تتوفر يجب إلغاء غرفة مثل الصالون أو غرفة الضيوف حتى تستعمل للعمل. البنايات العملاقة، والتجمعات المكتظة لن تصبح مرغوبة فقد اكتشف الناس متعة العيش بسلام في القرى وبيوتها المتابعدة منذ طبقت قوانين الحجر الصارمة عليهم.
إن التغيُّرات قادمة، وإن كان البعض مصرٌّ للعودته لعاداته السيئة، فإن البعض الآخر بدأ يمضي قدما في نمطه الحياتي الجديد، بعيدا عن كل الملوثات التي عاش فيها سابقا.