المنشور

موافق .. وممتنع .. وشر البليّة !

ها نحن فى المشهد ذاته، لازيادة ولا نقصان، مشهد قد يؤدى بنا الى ما هو أسوأ من اليأس، أو أدى بنا وانتهى الأمر، لا سيما انه يصب فى مجرى مشاهد أخرى سابقة وجدنا فيها نواباً وهم يتبارون فى تقييد اي مشروع استجواب وتقليص صلاحيات مجلس النواب فى توجيه الأسئلة، والآن جاء منع توجيه اللوم أو النقد أو الاتهام فى عملية تفضح نفسها بنفسها تجعل هذا المجلس منزوع الدسم بعد أن كان قليل الدسم!
كان من المستغرب، بل من المستهجن تلك التبريرات التى ساقها بعض النواب لتبرير إقرارهم تعديل اللائحة الداخلية لمجلس النواب، حتى أولئك النواب الذين امتنعوا عن التصويت، ومعهم الذين تغيبوا أو غيّبوا انفسهم، وجميعهم فى غنى عن التعريف لا يجب أن يعفوا أنفسهم من مسؤولية هذا الاعتداء الجديد الصارخ على ما تبقى من صلاحيات برلمانية، الامتناع عن التصويت ليس حياداً، والتغيب بعذر أو بدون عذر هروب من مواجهة الموقف وكلاهما فى حكم الموافقة، والمشاركة فى الدفع بالعمل البرلماني والتجربة البرلمانية برمتها الى قعر الهاوية، هو مشهد جديد ومرير لاينسي يعجز فيه نوعية من النواب عن إثبات جدارتهم والذهاب بنا إلى محطة القنوط واليأس.
أهم ما فى التعديل أنه وتحت ذريعة ضبط “المناقشات العامة” يمنع توجيه النقد أو اللوم أو الاتهام من قبل أي نائب لأي مسؤول، أو أي جهة حكومية، ويحدد مدة أي مناقشة تحت قية البرلمان بما لا يتجاوز 5 دقائق لا غير، وهذه خطوة من حيث الجوهر والمغزى والمعنى خطوة جديدة فى مسار عرقلة تطوّر التجربة البرلمانية، وابقاءها فى مكانها تراوح، والمؤسف حقاً أن هذه الخطوة جعلت الكثيرين من المراهنين والواعدين أنفسهم بإمكانية أن نصل إلى برلمان معتبر قادر على أن يناقش بحرية، وأن يساءل ويحاسب ويستجوب ويشرّع ويحارب الفساد ويواجه من يهدرون المال العام، ويجاهدون فى سبيل كل ما يدخل الارتياح والثقة والتفاؤل إلى نفوس أبناء البحرين الذين يعيدون النظر فى تفاؤلاتهم وتوقعاتهم، فماحدث أثبت أننا أمام حالة متداعية فى العجز والمراوحة وسباق الى الهاوية وبات اليأس يطوق الجميع من الجهات الأربع.
يكفى التمعن فى ردود الفعل فى المقدمة منها ما زخرت به الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي من تعليقات صبت معظمها فى مجرى التأكيد على أن ما يجرى هدفه “ضعضعة” و”تقزيم” العمل البرلماني والمضي بالتجربة البرلمانية الى المزيد من التراجع معنى وسلطة وشرعية وتمثيل وهيبة، مع علامات استفهام وتعجب حول حقيقة الوضع البرلماني وأفق هذا الوضع، والمصيبة أن ذلك حدث من جانب نواب بفترض أنهم يمثلون الشعب وليس غيرهم، والمصيبة الأكبر أن منهم من فعل ذلك وهو يتفنن فى التبرير كما لو انه يتكلم بصوت الحكمة، أو حكيم يستنار بضوئه والحريص على قيّم العمل الوطنى والبرلماني، والمحافظة على هذه القيم، فيما هو وآخرون ممن يعملون معاولهم فى صروح هذه القيم تهديماً.

للتذكير، التعديل الذى عرض على مجلس النواب فى 20 ابريل 2021 وافق عليه 13 نائباً، و تغيّب أو غيّب نفسه عن حضور الجلسة 6 نواب، أما الرافضين له فقد بلغ عددهم 12 نائباً ومن ضمنهم نواب كتلة تقدم (عبدالنبي سلمان، فلاح هاشم، يوسف زينل ) والحقيقة انه يشهد لهؤلاء انهم اعترضوا على المقترح بشجاعة، أما المثير للريبة حقا فهو امتناع 9 نواب عن التصويت، الأمر الذى فرض سؤالاً يبحث عن اجابة تشفى الغليل يدور حول ماهية تفسير الممتنعين عن التصويت، أحد المتابعين قال “إذا عرفنا مرامى الموافق وغير الموافق وحتى المنسحب، هل من تفسير لموقف الممتنع، وعلى أي أساس هو ممتنع، هل من حكمة وراء هذا الامتناع، أم هى مسرحية مصطنعة “؟
ربما علينا أن نتذكر بأن الجلسة وفقاً لبعض الصحف المحلية شهدت المناقشات مشادات وشدٍ وجذب وتبادل فى الاتهامات بين النواب، المؤيدين الذين اعتبروا بأن التعديل “سيضبط انفعالات بعض النواب إثناء المداخلات وسيشجع على المحافظة على أسلوب مرتب فى النقاش، وتحقيق المزيد من العصف الدهنى، أما الرافضون فقد وجدوا فى التعديل بأنه “يعود بالحياة النيابية خطوات الى الوراء، ويقلص من صلاحيات النواب، مؤكدين بأن النقد أمر صحي طالما أنه ايجابي، وأن الوزراء موظفين فى الحكومة وهم ليسوا فوق النقد الذى يمنح المجلس النيابي الحيوية المطلوبة ويدفع إلى إصلاح الأوضاع وتصحيح أوجه الخلل، وأن البرلمان مؤسسة سياسية يجب أن يقول النائب آراؤه والدفاع عن مصالح الشعب، وأن ميثاق العمل الوطنى وعد البحرينيين بتطوير التجربة البرلمانية وما يحدث لا يثبت ذلك”.
وهناك تساؤلات مهمة طرحت من نوع “اذا كان الاستجواب لم يعد ممكناً، والمناقشة العامة قلصت، وتوجيه اللوم والنقد ممنوع، فما هو اذن دور النواب ..؟” ، وسؤال آخر: “لماذا يراد منا أن نراعى مشاعر الوزراء فى حين نهمل مشاعر الشعب”، وسؤال ثالث: “مجلس النواب لم نعد نعرف جدوى استمراره هو اليوم يمثل السلطة التنفيذية اكثر مما يمثل الشعب، لماذا لا نكتفى حتى ولو من باب تقليص النفقات بالاكتفاء بمجلس الشورى” .. إنها تساؤلات فى الصميم ستظل تبحث عن اجابات واضحة، لا أجوبة مبهمة مطلقة!
نعم، ومئة نعم نتفق مع تلك التساؤلات والآراء التى تصدت للتعديل فى تلك الجلسة التى يمكن أن نخلص إلى أن مجرياتها تؤدى بنا الى خلاصة بأن الحقيقة صارت حقائق متنوعة، متصادمة هى أيضاً من فرط ما شهدناه تحت قبة البرلمان من محاولات المستعجلين من نواب على تفريغ العمل البرلماني من مضمونه بإهدار ما تبقى من صلاحيات، وكأنهم فى سباق لجعل حدود الممكن فى هذا العمل فى تراجع دائم تحت مبررات واهية لحد الاستهبال هى بالنهاية وباختصار تستصّغر عقولنا، والذين يحسنون القراءة بين السطور لا يمكن لهم تجاهل العلة والسبب، وهذا أمر قد يؤدى بنا الى نتيجة وهى أن الناخبين وبصراحة صارخة شركاء فى تحمل المسؤولية بخياراتهم التى أدت بنا من جديد إلى هكذا وضع وأداء برلماني يستحق الرثاء على واقع حاله، وعلى واقع أداء معظم نوابه!
لا ننسى أن ما جرى لا يختلف عما حدث فى فصول تشريعية سابقة حين وجدنا نواباً وهم يتنازلون فى مشاهد هزلية لا تنسى عن ارادتهم أو “استرهانها”، فى أكثر من لعبة فضحت نفسها بنفسها، هى بالنهاية لعبة التواطئ على تمرير ما يراد تمريره للانتقاص من صلاحيات يفترض أن يتمتع بها أي مجلس برلمانى حقيقي، وكأن هناك من يربد الحيلولة دون بلوغ سن الرشد البرلماني، وجعل البرلمان يعانى البليّة والعجز ..!

لا بأس أن نتمعن في التبريرات الواهية التي تستر بعضها النواب لتوضيح موقفهم من القبول بالتعديلات، فعلوا ذلك وكأنهم يكشفون المستور من حب وهيام هؤلاء النواب الغنيين عن التعريف – ولكل امرئ ما تعوّد من غايات وأهداف – والأمر أولاً وأخيراً هو افتراس لما تبقى للبرلمان من صلاحيات رغم كل “البهارات” التى تضمنتها هذه التبريرات كتلك التى ساقها بعضهم ممن وجدوا فى التعديل المزايا التالية:

– إنه تعديل عصرى يتواكب مع احتياجات الزمن !
– سيسهم فى تركيز النواب على الفكرة المطروحة والنقاط الجوهرية، ويجعل النواب بمنأى أن يكونوا ظاهرة صوتية!
– سيضبط انغعالات بعض النواب، ويحد من شغفهم المبالغ فيه للظهور أمام وسائل الاعلام لإرضاء الناخبين!
– سيوقف استفزاز الحكومة، ويوقف تجاوز النواب على الوزراء ومكانتهم السياسية !
تلك عيّنة من التبريرات الهزلية التى وردت ضمن “بازارات تبريرية” لم تقنع أحداً، ولكنها أقنعتنا أن هناك نواباً لا همّ لهم إلا التودد إلى السلطة التنفيذية والتعوّد على إغداق المديح والثناء والإشادة فى مواقف وتصريحات يطلقونها ناسين او متناسين أنهم كما هو مفترض يمثلون شعب البحرين وليسوا بمثابة موظفين لا يجيدون إلا التبرير والتأييد والإشادة بحنكة هذا المسؤول او ذاك الوزير.
نريد نواباً حقيقين، نواب مبادئ ومواقف، نواباً يهزون المقاعد من تحت الوزراء بأسئلتهم واستجواباتهم وآرائهم وأفكارهم ومواقفهم كممارسة ديمقراطية حقيقية تتبنى المناقشات الحرة، وتتقبل النقد وتعدد الأراء، لا نريد نواباً من ورق غير قادرين على الاعتراض أو المناقشة أو إبداء الرأي ويجيدون السير فى الطريق نفسه الذى سار عليه سلفهم من نواب استطابوا اعتماد سياسة النعامة، او لنقل نواباً يتولون بأنفسهم هزيمة أنفسهم، وبالنهاية هم عار على الديمقراطية.
الديمقراطية الحقة هى طريق حياة، وليس ثمة ديمقراطية هى سباق إلى العجز والمراوحة، وخيراً علينا أن نقرّ ونعترف أننا وحدنا المسؤولون عما نحن عليه من حال برلمانى بائس، ونحن وحدنا كنا المسبّبين المباشرين فى اعطاء الفرصة لمثل هؤلاء النواب ليمثلوا شعب البحرين، فهل هذا هو البرلمان الذى ناضل وضحى من أجله شعب البحرين؟