المنشور

دفتر أحوال “جنة”

تتبوَّأ الرقابة مكانة عفى عليها الزمن، منذ أن أصبح العالم الافتراضي خالياً من حراسه، وصار بالإمكان الحصول على كل المعلومات بضغطة زر واحدة. صحيح أن هناك ثوابت مجتمعية يجب المحافظة عليها، ولو في أطر شكلية، لكن هل من هذه الثوابت رفض نص مسرحي لمجرد أنه عُنون بـ”السرير”؟ ما الموحي في عنوان يشكل – مجازاً – قطعة أثاث عادية؟
هل كان نص بعنوان الكرسي، أو السجادة، سيثير القلق، وعليه سيجبر المؤلف أن يُغيّر العنوان، كما فعلت الكاتبة المصرية صفاء البيلي، وتحول النص إلى “جنة هنا”؟ برغم التأكيد على ألّا تماسّ مخالف بين العنوان وبين المعنى داخل النص، وبرغم المعاني المترادفة أيضاً، مثل أن يكون للسرير و /ظائفه الكثيرة المعروفة: التي تمثل الراحة/ السكينة/ الطمأنينة، وماذا أيضاً؟ هو مكان معتاد للعلاقة الزوجية، وغالباً هو نفسه ما رفضته الرقابة لأجله! القلق حتى ولو بإشارة تلميح من بعيد! بينما سرير البيلي هنا مغاير ومراوغ بين معنى الأمان بأوجهه، وبين ما قالته جنة لوالدتها: “رغبة قديمة جواكي في إنك تحتفظي بذكرى تولّد عندك الرغبة في الحياة..الحياة اللي فاتتك من زمان، من غير ما تنتبهي!”
و”جنة هنا” محنة بين أم وابنة تنتميان إلى فصيلين مختلفين، تناقشان فكرة الأب الغائب للعمل منذ فترة طويلة، بحيث إن الابنة تبلغ من العمر ثلاثين سنة، ولم تلتقِ قط به! لذا، أي مشاهد لا بد أن يستغرب طريقة الحوار بين جنة وهنا – الأم والابنة – هل هذا حوار خليق وملائم أن يقدم على الخشبة؟ حواسنا تتأمل – بحذر- الهجوم من البنت لوالدتها، نأمل أن تكون مبالغة في الأداء – رغم واقعيته في الحياة الراهنة وذوبان مسافة الاحترام بين الوالدين والأبناء – ونراهن أن ينتهي هذا سريعاً، لكننا – كمتلقين – نفاجأ بأن هذا هو السياق العام لكامل الحوار، لأنه يعبر عن حالة داخلية ستكشف عن نفسها رويداً رويداً، والصورة ذات البرواز الظاهر على يسار الخشبة، لرجل في مقتبل العمر هو محور الحدث، هو سبب لأن تمر جنة بالتجربة الصعبة الرئيسية في حياتها، بحيث يختل ميزانها وتصرح بأنها “مليش جدار أستند عليه”، أو أن والدها الغائب “حطمني، خلاني مخلوق مرتبك”، وغيرها من الجمل الكفيلة بنقل إحساسها للمتلقي بأنها الشخص الذي هي عليه.
الأم التي تحملت كثيراً في سبيل ابنتها، كانت تعبر عن شكل من أشكال القهر المجتمعي للأنثى تحديداً؛ هي أرملة دون أن تخبر أحداً، فضّلت أن يكون لها أب/زوج غائب موعود بالرجعة في أي وقت، تحسب له هيبة من كل دائرة الأهل والمعارف؛ كل الأمور معلقة حتى يعود، لأنه حال اكتشاف الأمر سيكون لوضعها الجديد إيقاع حياة مختلف، إذ سيتدخل الأهل في إعادة جدولة حياتها – كما حاول خال جنة تطليق أخته بعد أن طال غيابه رغم تمسكها به- حسب عرف المجتمع البائس الذي يرى من الأم العازبة (المطلقة/الأرملة) عبئاً وخطأ لا بد من تصحيحه عبر الزواج بأي خاطب، حتى لو كان أخا الزوج -على سبيل الإمعان في البؤس-، ومن باب “الستر” الذي لا يُرى مجتمعياً إلا من عين أن المرأة عورة لا بد أن تدارى في أسرع وقت، مهملين ومتناسين أن لها حاجات إنسانية أكثر منها جسدية، والأنثى هي الشخص الأمثل لتحديد هذه الحاجات حسب أولويتها في حياتها “هي”، لا عبر حسابات تقترب من التعامل معها كــ”مقتنيات”، خصوصاً من قبل أهل الزوج، إذا كان لديها أبناء “تخص” ابنهم الراحل.
لذلك فإن تعريف الرجل بالنسبة لجنة هو ذاك الكائن الذي يتحرش بها في الأتوبيس، أو زميل العمل الذي يلقي بالأعباء لمجرد كونها موظفة جديدة في المكان، رئيسها في العمل الذي لابد أن ينال منها لأنها المطلقة “المتوفرة” حتى تأخذ بالمقابل حقوقها في العمل، أو الجار العازب الذي أحبها ورغب في الارتباط بها، لكنه عزف عن الموضوع بهمسة من والدته: لا زواج من مطلقة! وهو أيضاً “ظل الراجل” الذي خضعت له تحت مسمى الزواج، لكن حتى هذا الرباط المقدس لم يستمر لسبب سخيف، وهو عودتها المتأخرة بالليل، بينما هو يقضي وقته أمام التلفزيون بدونها وحيداً!
لا يبدو أن البيلي اخترعت هذه الحالات المذكورة، بل هي مستقاة من حكايات الإناث اليومية التي يتداولنها فيما بينهن، والمجتمع يعرفها، وعلى يقين من عدم صحتها، ينادي بها أفراده حين تكون القضية عامة، أما في وقت اقتراب هذه الحالات من حياة نفس هذا الفرد الذي يصنف نفسه مثقفاً، وحراً، وربما ليبرالياً، وخارج منظومة التفكير الجمعي، ستظهر –غالباً- الطبيعة الأولى لهذا الفرد والمكونة من مجموعة العقد -محكمة الربط-، أعراف بائدة لا يمكن التخلي عنها، والكثير من القلق فيما لو خالف و”اختلف” عن بقية القطيع المسالم.
وليس من المستغرب أن تختلف جنة وهنا على أبسط المفاهيم القريبة لبيئتهما. على سبيل المثال: ترى الأولى أن الشرف يساوي منديل دم البكارة، بينما ترى الثانية أنها “شكليات عقيمة” ليست لها قيمة. مفهومان متناقضان، لا توجد منطقة وسطى تجمع بينهما. الحديث أيضاًعن تجربة الختان المؤثرة كما ترويها جنة، في تجسيد موفق بصرياً، وعميق حسياً، عن الغفلة التي شعرت بها، والألم والخيبة اللذين شعرت بهما حين سلمتها والدتها لمجموعة من النساء اللاتي قطعن جزءاً منها، ثم أعطوها قطعة حلوى لم تفلح في إلهائها عن ما شعرت به هي وأخريات كن معها في نفس المذبحة المشروعة: “كل ما وحدة تخرج أمها بتزغرد..احنا نصرخ وأنتوبتزغردوا..”!
أما عن تبعات هذا الفعل، فتأتي لاحقاً حين باحت جنة لوالدتها:”جوزي ده أنا مش حاساه..تقولي لي عيب..أقولك أنا رحت للدكتورة يمكن ألاقي حل..تقولي لي عيب..وهو كان بيقوليأنتي زيك زي لوح الثلج..”، حتى مع تبرير الأم أنه فعل عادي، وحدث ولازال -في المجتمعات الضيقة طبعاً- لم تقنع البنت التي تشربت من التمرد وجعلها تنظر لكل الأشياء من حولها بعلياء وترفع، وأحياناً بتطرف، لأنها لا تستطيع رؤية الأشياء إلا بالروح التي كبرت معها.
وجنة لم تحكِ إلا عن جزء هين من تبعات الختان المتعلق بكيفيته -حسب تجربتها المرة-، ولاحقاً عن الأثر الذي تركته هذه العملية في جسدها، ورغبتها في الحياة الزوجية الطبيعية، وهو اختصار لكل الآلام الجسدية والنفسية التي لا تزال تمارس ضد الإناث الصغيرات بالعمر، في سن ما قبل التمييز وتكوين رأي أو موقف، وتبدأ التبعات من ضعف التجاوب الجنسي، ولا تنتهي بالأورام السرطانية والصدمات النفسية الوشيكة التي يتم التهاون بها والتقليل من شأن حصولها. لم تحكِ عن عدم الثقة في الآخر، وعدم الإحساس بالأمان بوجه عام، بل جسَّدته مباشرة على الخشبة.
والملفت في نص “السرير” أنه تعمّق بهدوء داخل قضية تبدو لآخرين عادية وواردة الحدوث، وأعني بذلك مفهوم “الأسرة المستقرة”، والمكونة من أم وأب وأولاد. غياب أحد هذه المكونات يخلق شعوراً بالنقص أو الفراغ الذي يجب أن يعبأ – وبماذا يعبأ؟ فتلك مسألة أخرى-، وغياب الأولاد/ عدم الإنجاب يخلق ضغطاً اجتماعياً على الزوجين. أما غياب أحد الوالدين، أو كلاهما، فيخلق أثراً كبيراً سيئاً على شخصيات الأبناء، قد لا يلاحظ بسهولة، لكنه يتبين مع التعامل القريب، في اختلال الميزان، كما في مثال جنة بتعاملها مع الذكور في محيطها.
على مستوى الرؤية، خدمت السينوغرافيا جزءاً من العرض في قطعة الديكور الرئيسية، المتمثلة في السرير، واستعمالاته المتعددة التي دار عليها الحدث كله، مدمجاً بالإضاءة المختلفة التي صنعت من السرير ضريحاً لولي من أولياء الله الصالحين تارة، أو إلى غرفة الولادة/ غرفة الختان، وغيرها. ومن باب التكثيف، كان المتأمل أن تكون القطعة الوحيدة على الخشبة مع صورة الأب، من حيث تأكيد المعنى للسرير؛ وجوداً ومعنى، ويمكن إضافة الكرسي الهزاز من باب التنويع في الحركة. أما بقية القطع، فشكلت عبئاً ثقيلاً على الخشبة، لعدم الحاجة المادية والدلالية لها، حيث حجّمت من حركة فتاتي الاستعراض اللتين تظهران في بعض المقاطع كخيال ظل، أو تدعمان الفعل القائم على الخشبة من خلال أداء حركي معزز، لكسر الحوارات “الديو” المتتالية بين جنة وهنا.
وحتى الأزياء المتطابقة الألوان بين الشخصيتين الرئيستين وفتاتي الاستعراض، كانت موفقة إلى حد كبير في تأكيد فكرة انتمائهم الواحد للفكرة/ للمجتمع/ للمكان/ للمصير، بحيث إنه لما زادت حدة التوتر بين جنة وهنا، تخلت الأولى عن جزء من أكمام الزي الذي ترتديه، كان بمثابة إعلان انفجار وتمرد رسمي على كل ما هو بائد من وجهة نظرها.
عرض لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن تتماهى معه، في مباراة الأداء الصادق بين عبير الطوخي وهالة سرور، ترقب تراكيب الجمل وصياغتها بشكل أقرب للحوار الواقعي بين أم وابنة وقعتا في المسافة الضائعة بين علاقة الاحترام الطبيعية في هكذا أحوال، وبين فارق السن الذي يتلاشى مع الاحتكاك اليومي والأسئلة الملحة التي لا يوجد لها إلا إجابات نموذجية جاهزة، روح التمرد التي تعلو يوماً بعد يوم، تقابلها هزيمة وانكسار وقلب يمتلئ شجناً وألماً وخوفاً من الاستسلام وكشف المخبوء، تكتشف لاحقاً أنه لا يناقش قضايا الإناث وحسب، بل يجر كل المجتمع الذي غرّب العائل الوحيد للأسرة، وحكم على أسرته بالوضع الذي رأيناه، مع التبعات الكثيرة التي تُحكى ولا تُرى.
كُتب هذا النص بروح أنثوية عالية، تستوعب معاناة الأنثى بكل التفاصيل التي تصعب على ذكر التعبير عنها، إلا بعض الاستثناءات. فبدءاً من إهداء النص إلى سعاد عمران، والدة المؤلفة البيلي،حتى التسلسل الذي ظهرت به القضايا التي قدمها العرض بتتابع مترابط لا يستشعر فيه المتلقي بإقحام أو تكرار، بالإضافة إلى المنطقية والواقعية “الجارحة” إلى حد ما، للمفعول به مثل جنة وهنا، والفاعل الذي يمكن أن يأتي على أشكال مختلفة لا يمكن حصرها. فليست المصادفة التي جعلت “عنوان” نص السرير غير مقبول رقابياً. فالأفراد في الرقابة هم هم الأفراد في المجتمع الذين تواجدوا في “جنة هنا”، حتى ولو كان هذا بين السطور.