المنشور

هؤلاء يرفضون اللقاح

لعلّ الخوف من المرض والموت هو الذي جعل الناس تسارع إلى تلقي اللقاح المضاد لكوورنا، ما مكّن بلدنا من بلوغ أرقام قياسية في نسب المطعمومين قياساً ببقية دول العالم، لكن ثمة خوفاً من نوع آخر جعل البعض يحجم ويمتنع تماما عن الاقتراب من أي لقاح.
وهذا المقال يتطرق إلى نوعية هؤلاء المعارضين لمبدأ التلقيح وفكرته من الأساس، وقد لفت انتباهي كيف ان هذه النماذج على جانب كبير من الاختلاف في التعليم والوعي والطبقة الاجتماعية والمهنية وغيره، والجامع الوحيد بينهم هو رفض اللقاح.
أحد هؤلاء طبيبة عائلة متقاعدة ظلت تمطرني على مدى عام كامل بالمقالات وافلام الفيديو حول المؤامرة الكبرى التي تحاك ضد العالم وضد البشر، وأن المستفيدين من ذلك ما هم إلا مجموعة من الاشرار الذين صنّعوا الفيروس، واطلقوه لهدف معين كتقليل سكان المعمورة ثم خرج من سيطرتهم، ثم اشتغلوا لاحقاً على تصنيع اللقاحات لجني الأرباح، وظلّت تردد أن كورونا فيروس معتاد مثل كل الفيروسات التي عرفتها البشرية، يصيب الناس ولا يقتل إلا الضعاف والمرضى، وعلى الناس ان يحموا أنفسهم ويصبروا قليلاً، وأتذكر جملتها الدائمة “أفضل الموت بكوفيد أو الإصابة به ولا تعريض نفسي لهذه اللقاحات”.
النموذج الثاني فلاح آسيوي كان يعمل في حديقتي، خيّرته بين تلقي اللقاح أو الانصراف وترك العمل، قلت له: إنك تدخل البيوت يومياً، وثمة احتمال كبير أن تصاب بالمرض وتنقله لنا، سوف أعيدك الى العمل حين تحضر شهادة التطعيم الصفراء، أجاب: “الله هو الحافظ ” وخرج غاضباً.
النموذج الثالث استاذ جامعي يرفض اللقاح لأن ثمة شكوكاً لديه حول جدواه، هو يقول إنه تعرض لمرضى ومصابون وأشكال متعددة من الناس ونجى من الإصابة مراراً، يقي نفسه يوميا بارتداء كمامتين والابتعاد عن التجمعات، ويتساءل: “لمَ أعرّض نفسي للقاحات لم تخضع للدراسات الكافية” ؟
النموذج الرابع عاملة المنزل الإثيوبية في بيتي. رفضت اللقاح مراراً ولم استطع إقناعها، وقد جرّبت معها بوسائل إقناع عديدة، وظللت ألحّ عليها، بينما تمسكت هي بالقول: “أنا شابة وصغيرة وقوية وأخشى على نفسي من الإعاقة الإنجابية مستقبلا إذا تلقيتُ اللقاح”.
النموذج الرابع رجل ستيني نشط سياسيا واجتماعيا، يتحرك وسط الناس بثقة وحيوية من اجل العمل الخيري السنوي المعتاد في شهر رمضان، تلقّح جميع افراد عائلته الصغيرة والكبيرة وأصدقاءه ،لا يشك في التلقيح إلا أنه يتكاسل عنه، يرى أن الفيروس سيزول سريعا ولا ضرورة لأن يتلقح الجميع، كان يهمّ بدخول احد المساجد بعد إعادة فتحها، فاستوقفه أحدهم مطالبا بابراز شهادة التطعيم، أزعجه الأمر كثيراً باعتبار أن هذا المنع وغيره يشكل ضغطاً أو نوعاً من الإجبار على التلقيح، مع انه امر اختياري.
النموذج الخامس؛ سيدة في الخمسين من عمرها تلقّح جميع الموظفين في عملها باستثناءها، خيَرها رئيسها بين التلقيح أو أخذ اجازة طويلة تعود بعدها بشهادة التلقيح إن أرادت الاستمرار في العمل، لكنها ترى أن المرض والفيروس والإعلام المنصب عليه “مؤامرة في مؤامرة”، وفضلت الاستقالة تاركة خلفها وظيفة جيدة ومربحة.
النموذج السادس، شاب ثلاثيني اصيب بالمرض مرتين دون ظهور الأعراض، عرف الحجر وذاق ويلاته وتعطّل عمله، يرفض اللقاح كونه يفضل المناعة الذاتية عن تلك المصنعة خارج الجسد .
النموذج السابع طبيب أسنان في الستين من عمره يمتنع عن اللقاح، لان الطعوم برأيه لم تنل حقها من الدراسة الكافية، كما أن الأنواع المتعددة من الطعوم تتبدى أخطاءها مع تجربتها على البشر المختلفين في أجسادهم وأمراضهم.
لست من هؤلاء الممتنعين، وأرى أن اللقاح حقق، ويحقق، حماية صحية بنسبة كبيرة، وأتمنى أن تصل البحرين إلى المرتبة الأولى في تعاطي اللقاح، لكن أجد العذر للممتنعين، فلو تأملنا جميع النماذج السالفة لوجدنا أن الخوف من مؤامرة ما هو العامل المشرك والسبب الكامن والمتواري في الإمتناع عن اللقاح.
وكنت قد اشرت في عدد من مقالاتي السابقة حول جائحة كورونا إلى أننا نعيش في عالم غير جدير بالثقة في انظمته السياسية والاقتصادية والصحية وغيرها، وأن شيطان الربح يقف خلف مؤامرات كثيرة، اما الضرر الذي تعرضت له بيئة الكون فيكاد يكون كارثياً، ويقول علماء بيئة مختصون إنه إذا استمر السلوك الإنساني على مستواه الحالي، فسوف يحتاج البشر عام 2030 إلى كوكب آخر لاستيعابهم، لا شيئ يبدد مخاوف الناس إلا استعادة الثقة في الخطابات السائدة التي يتلقاها الناس من صناع حضارتنا الراهنة على جميع المستويات، والبدء بالإصلاح الحقيقي الشامل في شتى مناحي الحياة. ان كوفيد ليس إلا جرس انذار مبكر، ولعلنا نفيق.