المنشور

حفل غداء على قارب

تأملوا اللوحة جيداً. ماذا ترون؟ مَن هم يا ترى هؤلاء الأشخاص؟ ماذا يفعلون؟ حدّقوا في معالم وجوههم قليلاً.

سترونهم باسمين، ضاحكين، فالبعض منهم منهمك بمحادثة الآخر بتفاعل لافت. والبعض الآخر مشغول بمحاكاة الطبيعة الفرحة من حوله. ما يعطي وحدة كبيرة وحضورًا كبيرًا للوحة بأكملها ليس هو النساء، دعنا نقول ذلك، وإنما النظرة التي تربط الشخصيات في التكوين.

جميل كم التضاد بين الأزرق والأحمر والأخضر الذي يعكس أسلوب الفن الانطباعي، أو قبعات القش الصفراء التي تخطف عين المشاهد لتذكره بجو الصيف المشمس. يمتد البعد البؤري إلى نقاط عدة في اللوحة ليشمل المظلة المخططة التي تضفي حميمة على المشهد، أو الأشجار الحاضنة للحضور بجوّها الباهي. سهل على المشاهد الضياع في تفاصيل هذه اللوحة، فكل الألوان موجودة، وكل الحضور مشغول بعمل ممتع ما.

تلك هي لوحات رينوار الإنطباعية. هذه اللوحة التي أسماها الفنان في الأساس: “غداء مرتدي القبعات”، تحكي قصة مجموعة من الأصدقاء العائدين من رحلة على متن قارب، و اجتماعهم حول مائدة غداء عطلة نهاية الأسبوع الخالية عادة من الهموم. إن تفكرّنا قليلا، لأدركنا أنه من الطبيعي أن يثمر عن اجتماع البشر راحة نفسية وشعور عميق بالطمأنينة، ذلك لأن المرء لا يستطيع الفرح لوحده، لاحتياجه إلى الآخر لخلق شعور السعادة وتعميمه.

رسم الفنان الفرنسي بيير أوغست رينوار هذه اللوحة في العام 1881، ليعكس التغيير الذي طرأ على مجتمعه إبان الثورة الصناعية، حيث نجد في هذه اللوحة اشتياقاً لبساطة الحياة وعفويتها، زد على ذلك شغفاً بتصوير الملامح البشرية والمشاهدات من الحياة العامة السعيدة، وكأنما رينوار يعانق مخيلته ليذكرنا بحلاوة غداء نهاية الأسبوع مع الأحباب.

ولادة رينوار على مشارف نهاية القرن التاسع العشر ومعاصرته بداية القرن العشرين جعله يعيش حربين، عانت خلالهما الإنسانية من انعدام روحها، ومن تلاشي قيم السلام والحب والتسامح، أي كل العوامل الأساسية التي تجلب السعادة للبشر. لهذا السبب، رفض رينوار خلال كل مسيرته الفنية إدخال آثار التوترات السياسية والمجتمعية على لوحاته، معللاً ذلك بأن الفن انبثق لإعطاء البشر ما لم يستطيعوا اهدائه لأنفسهم: السعادة والسلام. الفن وظف لجعل الحياة أفضل، لخلق مأوى آمن للحب والشغف، حيث المخيلة تستطيع أخذ قسط من الراحة بعيداً عن اضطرابات الحياة اليومية.

يرجح بأن رينوار، ومن أجل رسم هذه اللوحة، قام بجمع عدد من الأصدقاء من الوسط الفني في مطعم “ميزون فورنيه” العائم. وهو مطعم يعود لصديقه ألفونس فورنيه الذي أنشأه عام 1875 بعدما اشترى قطعة أرض على ضفاف نهر السين لتحويلها لفندق ومطعم. لسوء حظه، أتت الثورة الصناعية لتتخلص شيئا فشيئا من المؤسسات الصغيرة، فهجر المطعم، حتى عادت إليه الحياة مجدداً عام 1999 ضمن مبادرة من عمدة المدينة وبتمويل من جمعية أصدقاء الفن الفرنسي الأمريكي.

بيير أوغست رينوار أضحى أهم الفنانين الانطباعيين الذي بفنه نشر رسالة مفادها الآتي: “لا أحد منا يستطيع تذوق متعة الحياة لوحده، فقد خلقنا جميعا لنتعايش مع بعضنا، وذلك ضمن اتحاد مع الطبيعة الحاضنة لكل البشر”.

الجدير بالذكر، أنه من أجل أن يجني رينوار قوت يومه من ممارسة ما يحب، كان يدق أبواب الفرنسيين الأغنياء لرسمهم، مما كان يعطيه جدارة أن يقول: ”إن لم يكن الفن مصدر امتاع لي، فإنني بالتأكيد ما كنت لأمارسه”.

اقرأ المزيد

تقرير الرقابة .. حقاً ماذا بعد ..؟!

الى جانب ما يغرق البحرينيين من هموم، يأتى التقرير السابع عشر لديوان الرقابة المالية والادارية
لعامي 2019 -2020 ليثير مجدداً المواجع، ويضيف اليهم هماً، وأي همّ!
ولأنهم ألفوا الهموم، وباتوا على قناعة بأن ردود أفعالهم على أي تقرير جديد يصدره ديوان الرقابة لن يجدى، وباتوا يشعرون أن كل ردود الفعل لم ولن تكون مثمرة ومجدية فى يوم من الأيام، ربما لهذا السبب كان استقبالهم للتقرير الجديد فاتراً بشكل غير مسبوق. لم ينشغلوا به كعادتهم كل عام، لا من قبل الصحف، ولا من الكتّاب، ولا من النشطاء، ولا من غيرهم ممن تعوّدنا منهم ردود فعل على كل تقرير يصدر، بما فى ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، مرّ بما يشبه اللامبالاة، كأن ثمة قناعة بأن باب الأمل موصود، وان أمر محاسبة مسؤول معدوم كأنه قدر مكتوب، او فى مصاف التمنيات والمستحيلات، وهذا أمر جدير بالدراسة والتحرى والمراجعة!
حتى أولئك النواب الذين دأبوا على استثمار كل تقرير جديد يصدر ويبدون ضجرهم، ويستعيضون عما يجب أن يقوموا به تحت قبة البرلمان بالشوشرة واستثارة المشاعر، والتهديد والوعيد، وإغداق الوعود، والاستعراضات الاعلامية الخالية من كل المفاعيل، كفّوا هذا العام عن قول ما سمعناه وقرأناه مراراً وتكراراً ولم يعد يشدّنا.
هؤلاء يتناسون أن جبهة المواجهة الحقيقية على التجاوزات والمخالفات، وتفعيل آليات المساءلة والمحاسبة رغم كل القيود، محلها تحت قبة البرلمان، ولكن يلاحظ بأنه حتى هؤلاء النواب لم تكن ردود أفعالهم هذه السنة كالمعتاد، أو بنفس الزخم المعهود، ربما هى منهجية جديدة من قبلهم فى التعاطي مع التقرير يواكبون بها المنهجية الجديدة لديوان الرقابة المالية والادارية التى أعلن عنها فى إنجاز تقريره الجديد، ربما أراد النواب ذلك ليستخلصوا من هذه المنهجية ما يفيد.
من باب التنبيه والإحاطة، فإن ما نشرته الصحف المحلية هو ملخص مقدّم من ديوان الرقابة المالية والإدارية مكون من 13 صفحة فقط، التزمت او ألزمت الصحف بنشرها خلافاً لما كان يحدث طيلة السنوات السابقة حيث كانت الصحف تتسلم التقرير كاملاً بعدد صفحاته التى تتجاوز فى الغالب 400 صفحة، وكل صحيفة تختار ما تشاء لتسلط الضوء عليه، وبالتفصيلات التى تراها مناسبة، وبالعناوين اللافتة والمثيرة.
نحن هنا لسنا فى وارد استعراض ما جاء فى التقرير الأخير، ولا شئ منه، وهو فى معظمه، وكالعادة، يكشف بأن هناك من لم ينهضوا بمسؤولياتهم كما يجب، وأن هناك ما يستوجب استنفار أدوات المساءلة والمحاسبة، ولكن أردنا أن نتوقف أمام بعض ما يسترعى الانتباه، ومن يتمتعون بموهبة التقاط الاشارات فإن هناك الكثير مما قد يستوقفهم !
إضافة إلى ذلك، يسترعى الانتباه أن التقرير الجديد كما ذكرنا قوبل هذا العام بتعامل فاتر وغير مألوف، والتصريحات النارية لبعض النواب توقفت بالرغم من أن كلام بعضهم من واقع تجارب سنوات مضت محض ثرثرة فارغة لم تحقق نتيجة تذكر، وكأن الكل عاجز عن الفعل وعن استخدام أدواته الدستورية فى المساءلة والمحاسبة، رغم ان الثابت بان النواب هم ممن يفترض ان يبنوا مداميك هذه الأدوات، لا أن يراكموا الخيبات ويدورن ليعودوا الى بيت القصيد، وبيت القصيد هنا متوّج بعلامات الاستفهام والتعجب خاصة حيال بعضهم، أو كثير منهم ممن جعلوا قيم المساءلة والمحاسبة تدور فى ارجوحة الضياع، كما كان الحال سابقاً ولاحقاً وحالياً حتى الآن على الأقل، وكأن هناك من يصر ويتعمد على ان يجعل هذه الأدوات والقيم عاطلة او معطلة، او تعانى ما يشبه البطالة السافرة أو المقنعة، وهذا أمر مكلف للغاية و يبعث على الحزن والأسى.
اما المواطن فهو أمام “الغابة الخلاقة” من المخالفات والارتكابات والفساد والمساس بالمال العام من قبل دائمي الجشع للمكاسب والمصالح والمنافع الخاصة ويتربحون من وظائفهم بأبهى ما عندهم، هذا المواطن سيظل يحلم ولو بمحاسبة ومساءلة مسؤول واحد، لا إلى ما يعزز شعوره بأن من يرتكبون المخالفات محصنون من المساءلة والعقاب، وبالتالي لازال المواطن يحلم بالابتعاد عن الدوران فى المكان، والمراوحة فى العجز الذى يجعل كل تقرير الرقابة من تقارير الرقابة فى دائرة الإقامة الجبرية عند نقطة الصفر، فلا نعرف متى نغادر حالة تكرار المخالفات أو حتى الملاحظات التى يصر البعض على تسميتها كذلك من قبل العديد من الوزارات والهيئات والمؤسسات والشركات التابعة للدولة.
كما لا يعرف المواطن اي جواب على سؤال يفرض نفسه وهو: ما فائدة اي تقرير رقابي يصدر عن جهة موثوقة ورفيعة المستوى تتابع وترصد وتوثق بما تملكه من كوادر وأدوات وصلاحيات مظاهر خلل ومخالفات أوحتى ملاحظات وفى نفس الوقت تسمح لذات الجهات، وليس جهات رقابية اخرى محايدة، ان تفند، او تبرر، وإن اعترفت فى ردودها فعلى طريقة “سنتخذ اللازم”، ومادام هناك من بشرّنا بأن اللازم سيتخذ فكيف يمكن تفسير تكرار المخالفات، بل ويبقى من ارتكبوا ذات المآخذ والمخالفات فى مواقعهم، ثم أليس من حق المواطن معرفة طبيعة الإجراءات التى اتخذت فى سياق اتخاذ اللازم!
لا نظن، رغم أن بعض الظن إثم، أن طريقة التعامل مع التقرير الرقابي الأخير ستختلف عن التعاطى مع التقارير السابقة التى نكأت جروحاً وكشفت عن تقيحات لم تمتد اليها يد بالتطهير والعلاج، من هذا الباب والحيرة تملؤنا نقول: ليس مفاجئاً أبداً القول إن كل تقرير ينسينا ما جاء فى التقرير الذى سبقه، لقد تعودنا بعد كل تقرير أن يظهر من يؤكد لنا بما معناه بأن التحقيق قائم حيال بعض الوقائع ذات الشبهة بارتكاب الفساد، أو تلك التى تسببت فى أضرار ناشئة عن اهمال وهدر فى التعامل مع المال العام، والإنفاق فى غير الأوجه المحددة، ووُعدنا اثر كل تقرير باستظهار الحقيقة، او على وجه الدقة، جملة الحقائق التى لازلنا بانتظارها، ولازلنا فى انتظار تسمية الأمور بإسمائها، منذ سنوات ولازلنا فى الانتظار، كما لازلنا فى انتظار اعلان محاسبة او اسقاط وزير او احالة مسؤول إلى النيابة العامة، أو القضاء.
ونحن نعلم جيداً أن شيئاً من هذا النوع الذى يزخر به أي تقرير من تقارير ديوان الرقابة لو حدث فى بلدان أخرى لكانت هناك أصداء نعرفها جميعا، أبرزها استقالة أو إقالة المعنيين، وإحالتهم للمحاكمة، هذا إن لم يؤدِ ذلك إلى استقالة الحكومة برمتها، من باب الشعور بالمسؤولية التضامنية الأدبية والسياسية، ولأن قيمة المسؤولية حاضرة على الدوام ولا تغيب عن الوعي العام، حيث لها أثر واعتبار ومكانة عالية فى القيم السائدة، وهذا أمر لا مساومة عليه فى تلك البلدان، ولا مجال للتفريط أو الاجتهاد فيه.
مؤسف أن ما يجرى يرسخ لثقافة التجاوزات وتكرار ذات المخالفات وأوجه الخلل فى أكثر من تقرير، وهو ما يشكل صدمة وخيبة فى آن واحد، صدمة من أن آليات المساءلة والمحاسبة لضبط الأداء المالى والادارى فى منظومة العمل الحكومى بالشكل اللازم لم تستيقظ بعد من رقدة العدم، والخيبة أولاً من ردود تكاد أن تكون معلومة مسبقاً، ولا تشفى الغليل ولا تضمن بأن عنصر الحساب والعقاب قد أخذ مساره الصحيح فى شأن هذا الملف او ذلك التجاوز، والخيبة ثانياً من تكرار المخالفات والتجاوزات، اضافة الى الجديد منها، والخيبة اخيراً من نواب كلما يوضعون أمام مسؤولياتهم بعد كل تقرير لا يخرجون عن دائرة الكلام المراوغ من نوع “لن نسمح بمرور التجاوزات مرور الكرام، وسنتخذ أدواتنا البرلمانية”، وقائمة المراوحة معروفة، كما هي معروفة قائمة المراوحين.
نصيحة للجميع: اكبحوا جماح تشاؤمنا، ولا تنسوا انكم أمام امتحان جديد فلا تمعنوا فى جعل العمل البرلماني محبطأً، باختصار لا تعملوا ضد أنفسكم!

اقرأ المزيد

فريد رمضان السارد المنشغل بالهوية

تشكّل التجربة الروائية لفريد رمضان حالاً إبداعية جديرة بالمعاينة الرهيفة، في نطاق المشهد السردي في البحرين، وبمقدار ما تعدّ هذه التجربة مشتبكة في الموضوعات التي تعالجها بمجمل المعطى الروائي لسابقيه ومجايليه من كتاب السرد في البحرين، من حيث الاهتمام برصد وتتبع تحولات مجتمع البحرين الذي عرف تاريخه مواضع توتر اجتماعي وسياسي عدة، فإنها تشكّل حالاً خاصة في طرقها لدروب جديدة.
يجعل فريد رمضان من شخوص رواياته: التنور(1994)، البرزخ (2000)، السوافح (2006)، مقيمين لا عابرين، لأنه لم يستعن فقط بالمادة التاريخية وحدها التي انكبّ على جمعها، وإنما إلى معايشات، ينتسب بعضها إلى ما يمكن وصفه بالسيرة الذاتية للكاتب، أو سيرة المكان الذي يختاره ميداناً لأحداث رواياته.
يشتغل فريد رمضان على مادته الروائية بعناية الباحث الذي يجمع من مصادر البحث ومراجعه المختلفة كل العناصر الضرورية لإقامة المعمار الروائي بما يضمه من أحداث ووقائع وتفاصيل أمكنة وشخوص تجمع بين الواقعي والمتخيل، وهو لا يتردد في تجليس وقائع حصلت في تاريخ المكان الذي يكتب عنه على سياقات أخرى مختلفة، وينسب أفعالاً وقعت فعلاً في تاريخ الحيز المكاني الذي تدور فيه أحداث رواياته (حي البوخميس وقرية البسيتين في جزيرة المحرق، وحي النعيم بالمنامة)، إلى شخوص هم من ابتكار المخيلة، أو هم حاصل تركيب بين الواقعي والمبتكر.
ولا ينجو الكاتب من تأثير الذاكرة، ذاكرته كفرد، وهو طفل أو صبي، وهو يحكي، فالذاكرة تضطلع بعمل استثنائي في التغلب على الفقدانات الفردية والجمعية، إن حي البوخميس أو قرية البسيتين كمكانين يحتويان أحداث روايتي (التنور) و(البرزخ) لم يعدا قائمين بالصورة التي نقرأهما في الروايتين، فقد جرت تحولات ديمغرافية حاسمة غيّرت صورة المكان وبدلت أهله، ومن اجل إعادة تقديم صورة المكان كما كان، فان الذاكرة تسعف الكاتب في سدّ الثغرات الناشئة بسبب هذه التبدلات.
ولا يقف الأمر عند حدود هذا المعطى المكاني فقط، فالذاكرة تؤدي ما يمكن أن نعتبره وظيفة “ثقافية”، في تكوين وعي الطفل أو الصبي فريد رمضان، الذي سيغدو روائياً، وفريد رمضان ان بدا، ظاهراً، انه ينشغل ببيئات محلية يختارها كنماذج، أو كحيز مكاني في مقطع زمني معين، فانه لا يحتفي بهذه المحلية، ولا يعطيها الأولوية، فالبيئة التي تنطلق منها أحداث رواياته وفيها تتحرك شخوصها، ليست سوى عينات لاختبار تحوّلات المجتمع وتفاعلاته، والمقصود بالمجتمع هنا هو ما نعدّه بعداً وطنياً جامعاً، فما يمور به حي النعيم في “السوافح” وقرية البسيتين في ” البرزخ” من أحداث يبدو وثيق الصلة بحراك أوسع، ليس من شأن الكاتب أن يغرق نفسه في تفاصيله، ولكن أحداث رواياته تقدّم الضروري من المفاتيح لولوج عوالم تتخطى محدودية المكان الصغير الذي ينشغل الكاتب برصد التحولات فيه.
واللافت في كتابة رمضان، أنه ينطلق من إحساس بالحدب والحنو على شخوصه الآتين إلى البحرين من سياقات جغرافية وثقافية أخرى، رغم أنها قريبة ومتشابهة في الكثير من الأوجه مع بيئة البحرين التي أتوا إليها، وسرعان ما وجدوا نفسهم ينخرطون في سياقها الحياتي، وبالتالي تأتي هذه الكتابة مشبعة بروح التسامح الإنساني، التي تنطلق من نبذ فكرة “أصالة” المجتمعات بمعناها المبتذل والسوقي، ففي عالم اليوم بات صعباً الحديث عن الصفاء العرقي أو الإثني أو حتى الديني، فالمجتمعات، بما فيها مجتمعاتنا الخليجية هي حاصل تفاعل مكونات مختلفة متعددة المشارب، والمفارقة تكمن في أن الروح المهيمنة على روايات فريد رمضان تأتي في زمن انفجار الهويات الفرعية واشتباكها في العالمين العربي والإسلامي.
التدقيق هنا ضروري، فالشغل الروائي لفريد رمضان لا يرمي إلى القول بأن البنية السكانية لمجتمع البحرين هي مجموعة هوامش أو فروع تقاطعت عند مرحلة معينة، فأي مجتمع هو في نهاية المطاف يتكوّن من متنٍ بشري تشكّل تاريخياً واستقر في بيئة جغرافية معينة، ولكن هذا المتن لا يمكن أن يظل منغلقاً على نفسه، وفي حال جمود أو”صفاء” عرقي، خاصة في حالة بلد مثل البحرين هي مجموعة جزر وميناء مفتوح على الوافد إليه من محيطه، مما يجعل من هذا المتن السكاني المتشكل تاريخياً في حال صيرورة دائمة بانضمام عناصر جديدة إليه عبر الهجرات وأوجه الرحيل المختلفة، مع ملاحظة مقدرة هذا المتن على استيعاب الوافدين الجدد إليه، وإدماجهم في بنيته، فلا تعدو هذه العناصر تضاريس نافرة على سطح مستوٍ، وإنما تندغم في النسيج القائم، فتُضفي عليه حيوية إنسانية وثقافية جديدة نابعة من جينات تشكّلها الأصلي في المواطن التي أتت منها.
تحضر الهجرة في روايات فريد رمضان كخيار قسري، حين تجد شخوص رواياته نفسها محملة على أن تقتلع من بيئاتها الأصلية لا بمحض إرادتها الحرة، وإنما لأنها لم تعد تحتمل العيش فيها، إما بسبب ضيق اليد وانسداد أفق الحصول على الرزق كما هو الحال في شخوص “التنور” خاصة، أو هروباً من ملاحقة محققة كما في حال هجرة العائلة العراقية من البصرة إلى البحرين في رواية ( البرزخ)، وتتداخل في الرواية الواحدة الأسباب، كما هو الحال في رواية “السوافح” مع هجرة الجد من الإحساء خوفاً، أو جرياً وراء قدر غامض صنعته المصادفات وحدها في حالة الزوجة خاتون التي رحلت من البصرة إلى النجف بالعراق، وفي ضريح الإمام علي صادفها بطل الرواية، حين وقعت عيناه عليها وهي تشترك في تنظيف فناء الضريح، فقرر من لحظتها أن يتزوجها، ويأخذها معه إلى البحرين.
الرحيل هنا إذ يبدو مخرجاً، وهروباً من وضع لم يعد يُحتمل، فإنه ينطوي على معاناة إنسانية مؤلمة، حين يجد المرء نفسه محمولاً على قطع جذوره مع البيئة التي نشأ فيها وألف ناسها وتفاصيلها وتشكلت له فيها ذاكرة، ثم أن الهجرة في الغالب تأخذ الطابع الفردي أو العائلي المحدود، أو أنها مجرد انتقال مؤقت من مكان إلى آخر، ضمن نطاق جغرافي كان ممتداً وربما بدا في أعينهم واحداً، على أمل العودة، مرة أخرى، إلى مسقط الرأس، مما يعني أن من هاجروا يُخلفون وراءهم في أوطانهم الأم أحبةً وأهلاَ، يظلون مشدودي الفؤاد إليهم، بما في ذلك الأموات منهم الذين حوتهم تربة ستبدو نائية، فيبدو إحساس القرب حتى من قبور من نحبّ من الأموات يهبنا الألفة، فما بالك بإحساس القرب من الأحياء من هؤلاء الأحبة؟.
وتزداد المعاناة فداحة حين يتحول الرحيل الذي خطط له في البداية على أنه مؤقت إلى إقامة دائمة في المكان الجديد، الذي تنبت للقادمين إليه جذور في أرضه، لا يعود بالوسع اقتلاعها ثانيةً.
الإحساس المثقل بالألم جراء الرحيل يُعبر عنه الكاتب من خلال استعادة ذكريات المكان الأول، ونجوم السماء الأولى، فمن يقرر الهجرة يصبح مشطوراً بين شعورين كلاهما مُعذب: الرغبة في الرحيل هروباً أو نأياً عن بيئة طاردة، أياً كانت الأسباب، مع ما تنطوي عليه هذه الرغبة من خوفٍ من المجهول، وترقب مقلق لما يحمله الغيب من مفاجآت في ديار غير معهودة عند الراحل إليها، فلا يعرف إلى أية مصائر هو ذاهب، حتى لو كان وازع الرحيل عنده من القوة بحيث لا يُقاوم.
ومن جهة أخرى فإن ألم الإقتلاع من المكان الذي ألفته هذه الشخوص لا سبيل للتخلص منه، لأنه مهما كانت قسوة هذا المكان، فإنه، على قسوته، يتحول حين نغادره قسراً محمولين على الهجرة، إلى فردوس فقدناه أو أوشكنا.
لكن المعاناة لن تنتهي هنا، وإنما ستأخذ تجلياً آخر عند الوصول إلى المكان المُشتهى، بديلاً عن المكان الذي هجرناه، وهذا ما سيجد تجلياته في المصائر الفاجعة أو المُعذبة لشخوص روايات فريد رمضان، التي ستظل ملاحقة بالألم في مكانها الجديد في البحرين، فنحن إزاء جُهود مُضنية لتأسيس حياة جديدة، كأن لحياة المرء أكثر من بداية، ويزيد من فداحة هذه البداية الجديدة أنها تنشأ على أرض غريبة.
يصح هذا القول رغم ما يشيعه الوصف الممتع الدافئ للكاتب من شعور بالألفة في نفوسنا نحن القراء، وربما في نفوس القادمين الجدد، لأمكنة نعرفها جيداً كمرفأ المنامة، أو شارع باب البحرين الذي يفضي إليه قوس أثري من الآجر، وما في حركة السوق من حيوية وزخم، في جزيرة تقذف إليها السفن قادمين جدد كل يوم: “يمران أمام باب البحرين الذي يبدو في هذا النهار الجديد بؤرة للابتهاج والحبور، فالمبنى المطلي بالجير الأبيض الناصع يطل على مرفأ المنامة الكبير، وميدان الجمارك، حيث يمكن للمرء مشاهدة حركة العمال، والسفن، والقوارب، بأحجامها وأعدادها الكثيرة التي تصل أحيانا إلى مائة سفينة. (التنور ض 76).

اقرأ المزيد

يتفكّرون

حينما بدأت قصة الخليقة، وتعددت رواياتها، تفرّع البشر إلى كل المهن، لم يكن الدين مهنة تكسُّب مثل الوظيفة بشكلها الحالي، بل هي محل احترام وتقدير على مرّ الأزمان. لكنه في وقت ما، وفي ظروف ليست غامضة تماماً، أصبحت الأديان محلّ تجارة خطيرة ذات مردود مادي وسلطوي كبير، وتخويل بإدارة أمور البشر في أدق التفاصيل.
وهكذا تعامد الطرفان: طرف سلطة دينية أبوية مجتمعية لها حرية الحكم والتحريك وإصدار قوانين –مطاعة بالضرورة – يتقاطع بعضها مع العقل، وطرف آخر سلّم مسؤولية التفكير ببساطة لشخص أو جماعة من الطرف الأول، ضمن لائحة لا جدال ولا تشكيك. فالفرد المكتفي بقدر محدود من العلم، يخاف من مزيده؛ لأنه من سيوضع في ركن المسؤولية التي سلمها هو بإرادته وقناعته التي ترى أن الطريق الأسلم للنجاة هو البقاء مع العموم ممن سلموا قبله، وما سيجري عليهم سيجري عليه داخل حلقة الأمان هذه؛ لا خوف ولا قلق!
وليست هذه فكرة للعبث بمعتقدات، أو خرق ما يسمى بالتابوهات التي عفى عليها الزمن بفضل تطور الأدوات المعرفية، فمازالت هناك طرق التفاف كثيرة متاحة لطرح الموضوعات، وعقلنة كثير من الأمور، بأسلوب لا يتصادم مع صاحب الرأي الآخر؛ فقط للفهم، وحتى يكون السلوك بعدها على يقين من صحته، وليس اتباعاً لما تمّ توارثه، دون معرفة مناسبته أصله/ ضرر تركه/ أو فائدة متابعته. حتى أن بعض المشتغلين بالدين أعادوا تشكيل ما أكدّت عليه الأديان من مثل عليا في التسامح والمحبة والسلام، وتخصصت في تفاصيل الاختلاف؛ حتى تحشد الأتباع ضد من يخالفهم، بوصفهم الفئة الفائزة بالجنة، وما عداها ذر في هواء، وعلى ضلالة قطعاً.
أن تكون داخل الجماعة، لا يعني بالضرورة أن تفكر بطريقتهم، وتتبنى أفكارهم إن كانت على غير قناعتك، بعد إشباعها بحثاً – بالتأكيد لا -؛ وليست لأنها لم توافق هواك. فالبحث عما وراء الجدار، ورؤيتك بنفسك للمحتوى، أفضل من أي وصف وشرح يأتي ممن وكّل نفسه أن يقوم بذلك مقابل إجلال قد لا يستحقه.
فكيف يرفض المرء فكرة الترفع عما دفعت إليه الأديان أصلاً؛ في التأمل والعبادة النابعة من الشكر الصادق لكثير من النعم، والدعوة للتأمل في التكوين والخلق، في حين أن التفكُّر ورد – مثلاً – في القرآن الكريم نحو تسع عشرة مرة، معظمها مقرونة بالتدبر، وإدراك المعاني والإيمان؟ وفي هذه الحالة، يجب على الدينيين “الحقيقيين” الدفع بتنوير العامة، عبر فتح أفكار تنحو لسيادة العقل، والتحرر من التبعية غير المبررة، مع التأكيد الشديد والحازم جداً في أن الوصول إلى نتيجة – بعد التفكر- يجب أن تحدث بتريث، وعلى مهل مُرضٍ.
وقد قُدّمت صورة السلطة الدينية بأشكال مختلفة في الدراما، حسب توجه القائمين عليها أيضاً. فعندما يعمدون إلى تقديم “علي الظاهري”، الذي جسّد شخصيته عادل إمام في فيلم “الإرهابي” 1994، من تأليف لينين الرملي، وإخراج نادر جلال، في وقت كان الإرهاب يرتكب باسم الدين، بيّن الفيلم كيف تنتقى عينات مثل البطل: جهل، وفقر، وجوع، وقابلية تلقائية لعمل ما يؤمر به، حتى لو كان قتل أبرياء، تحت مظلة الدين.
وحين تطرأ أسئلة مشروعة جداً حول شيء ما، يُمنع بشكل قاطع من الجدال، رغم أنه لم يتخطَّ مرحلة الفهم أصلاً، وتحصيل الأجوبة عن الأساسيات التي يتبعها ويمثلها، باعتبارها من مهام الكبير/ الأمير، الذي سيفتح له السؤال والنقاش باب تهديد لمكانته المكتسبة، وهو يتلقى أموالاً من جهة ما غير معلومة، إلا له ولمن في مقامه، يلقي بفتاتها على “الظاهري” وأمثاله ممن يعبرون هذه الحياة مغيبين، بلا بصمة شخصية لهم، دون أن يتجرأوا على السؤال أو المقارنة، لأنهم – أمام الكبير- لازالوا في مرحلة القصور العقلي التي لا تسمح لهم بتجاوز حدود وهمية مرسومة للمحافظة عليهم وعلى المجتمع الذي يتم تحشيدهم للدفاع معتقداته بالشكل المطلوب.
وبينما البطل هنا مغلوب على أمره، مهما كان “فاعلاً”، منذ استشعرت الدراما خطر الإرهاب على المجتمع، يتم تقديم الشكل المتشدد الذي يشبه أحياناً نماذج قريبة من محيط حياة الفرد، لكن بمبالغة في رسم شخصياتها، حيث يميل القائمون عليها إلى إيصال رسالة: اخرج من القوقعة، فالعالم يتسع لمزيد من الأخطاء وأنت تمارس انسانيتك. فكِّر بلا قيد، وأعمل عقلك كما أراد الله لك. لذا نرى الاختلاف في شخصية “الديني” باختلاف موقعه، ونضجه، وتكوينه الفكري أيضاً. في مسلسل “الداعية” (2013) تأليف مدحت العدل وإخراج جمال العدل الذي قدم الشاب الوسيم صاحب البرنامج الديني على إحدى الفضائيات، والذي يحمل آراء حادة/ متطرفة/ وواثقة أيضاً، وهذه الثقة تتسرب إلى مريديه في هيئة إيمانية لا تقبل الحياد، لأنه أقفل باب النقاش بزعم الوصول إلى الحقيقة المطلقة غير القابلة للتفاوض.
وفي المقابل، هناك من يسخِّر نفسه لأن يكون تبعاً طول حياته. لذا فجمهور الداعية موجود ومتجدد أيضاً، وهو أمين في آرائه التي لا يعيش انفصاماً عنها، حتى مع أسرته الصغيرة التي يحمل عبء مسؤولياتها صغيراً، وقت كان والده يلهث وراء ملذاته، فالحرام حرام بحزم داخل المنزل، والموسيقى حرام، والأفراح الصغيرة التي تخلفها ذكرى أعياد الميلاد بدعة تؤدي إلى النار مباشرة، حتى يتعرف على جارته؛ عازفة الكمان في الأوبرا، ويحدث التغيير الدراماتيكي المنتظر من الدراما، والنادر في الحياة!
هذان النموذجان تحديداً يؤكدان أنه متى ما وُجدت الحرية، سيوجد الفن الذي يُحرر العقل من الجمود والنمطية، وميل الحياة لمزيد من الحب والجمال والسلام، لأنها قيم لا يمكن أن تتوفر في الأجواء المنغلقة التي تحكم قبضتها على مصادر السعادة، وترى المتع الجميلة الكائنة في لوحة تشكيلية، أو مسرح، أو أي فن، منبعاً للفساد وميوعة المجتمعات.
إن التفكّر هو المنحة العظيمة التي يجب أن تستغل بالشكل الأمثل، الذي يضيف للحياة نكهة، ولوناً، وتميزاً عن الآخرين، ومنطقة خاصة لا تشبه الآخرين. ولو أراد الخالق أن تكون تبعاً، لما ساوى في اكتمال تكوين عقل إنسان وآخر، أحدهما قرر أن يكون نسخة مطيعة مغمضة العينين والقلب!
وبين فرق الزي العصري للداعية، وعلي الظاهري بالشكل النمطي المهلهل للمتطرف، فإن المضمون واحد، والتعبئة من مصدر واحد؛ التكسب متعدد، ولكنه متشابه، والمجتمعات تبحث عن مخلص يجنبها عناء التفكير. وقد تكون مسألة السلطة مبررة، حين كانت المعرفة مقتصرة على من يجيد القراءة والكتابة، وتتوافر لديه مصادر التعلم قديماً، لكنه غير مقبول بعد انقضاء هذه المرحلة، وتراجع نسب الأمية في كل العالم بفضل تصاعد الاقتصاد وتبعاته، وما ينتج عنه من تحسين نوعية الحياة، وعليه توفر المعرفة بكافة أشكالها ومصادرها الورقية، أو عبر محرك البحث السريع، وهي مراجع تمكن القارئ الواعي من التبحُّر في أي تخصص – ربما نستثني منها التخصصات العلمية الدقيقة التي تحتاج إلى ممارسة عملية – من تكوين أفكار ونتائج يتوسل إليها بقناعة الباحث الذي لا يمانع أن يصحح أو يحدثها بناء على مستجدات وحقائق مادية جديدة.
كما أن من غير المنطقي أيضاً أن يعمم هذا الشكل على كل من ينتمي للسلطة الدينية. ولكن التركيز على من يحولها لمحل “استرزاق”، أو كسب عيش، سواء عبر العطايا التي تأخذ شكل “الأتاوة” المقنعة، أو جزية تعطى ظاهرياً برضا، وباطنياً بحسابات ثواب وعقاب في الدنيا وفي الحياة الأخرى، دون القدرة على تحييد العقل والتفكير في ماهية المنح.
وبمجرد الاطلاع على بعض كتب السيرة، أو حتى الدراما التي كتبت حولها، فإن قليلاً من الوعي سيكشف مدى “التأليه” غير المبرر لأشخاص لهم بالتأكيد أخطاؤهم كبشر، والتي تدفعهم أنفسهم البشرية إلى الميل نحو شهوة ما، مما يجعل الصورة المثالية غير مقنِعة على الإطلاق، حتى وإن ملنا عاطفياً لأشخاص معينين، بحكم مواقف شهدناها، أو تاريخ يروى أو يسود من قبل آخرين يسلطون الضوء على الجانب الإيجابي الذي يخصهم تحديداً.
إن إجلال ممثلي الدين – أو من في دوائرهم – يجب أن يتفق مع المنطق، ولا يتم التسليم لمجرد الدرجة العلمية، التي غالباً لا تكون موجودة، لأن مجرد الانتظام في دار عبادة، وتغيير الزي، وحفظ نصوص مقدسة، يخول صاحبها إلى تبوّأ سلطة واحتراماً يفوق التعامل مع بقية البشر، أو ممارسة أفكار اعتدنا على وجودها في كل أمور الحياة دون إدراك معناها وجوهرها، وبدون إعطاء أنفسنا فرصة للتفكير والمراجعة وتفعيل العقل الذي ميز به الإنسان دوناً عن غيره من المخلوقات، وإلا سنشكو الخوف من التقدم دون أن نعرف مصدره ولا الحدود التي تحول دون تحقيق الفهم والاطمئنان إلى قناعاتنا، والخشية من مصير آخرين قرروا التقدّم وتراجعوا لأنهم شاهدوا تصنيفاً وعقاباً أو سمعوا به فآثروا السلامة صامتين.

كلام الصور
صورة 1
عادل إمام في مسلسل “الإرهابي”
صورة 2
لينين الرملي
صورة 3
هاني سلامة

اقرأ المزيد

الطبيب الراهب الشاعر هيبا

لكل داء دواء، ولكل مشكلة حل، أعني لمعظم الادواء أدوية، ولأغلب المشاكل حلول. هذا ما قاله هيبا في بداية مشواره نحو الرهبنة، إلا ما طال الخلافات بين الكنائس، فمنذ أن حلت الاختلافات بينها حول طبيعة المسيح وهو جوهرالديانة المسيحية أصبح الانشقاق والفرقة، ومن ثم الاقتتال سبباً للتفكير ومن ثم التفسيروالتدبير، فذهبت ريحهم، وحلت الخلافات بينهم، وأصبح التربص لكل مذهب بالاخر ديدنهم، وكل يرى رأيه الأصوب وتفسيره الأنسب، وفهمه الاوفر، ويحشد حوله الأساقفة والقساوسة والرهبان وزعماء الكنائس والصعاليك لتدعيم رأيه وفرضيته وفرصته للنجاة مستندا إلى النصوص من الأناجيل الأربعة.

(عزازيل)، رواية ليست كباقي الروايات، ملحمة تاريخية بطلها -هيبا- الطبيب والراهب والشاعر أيضاً، الذي يجيد أربع لغات: اليونانية والعبرية والقبطية والآرامية، دارس للمنطق وكتاب التاسوعات لأفلوطين، وهو محب للكتب، ويقتني منها الكثير وعلى الأخص الممنوعة منها والمحجوبة عن العامة، والمتيسرة للقلة من المؤمنين المسيحيين.

واسم هيبا ما هو إلا النصف الأول من هيباتيا عالمة كل العصور كما كانت تسمى واستاذة الزمان كما توصف، بعد أن قُتلت شرّ قتله على أيدي الرعاع والصعاليك من الكنيسة المرقسية في الإسكندرية بسبب آراؤها الفلسفية ونبوغها في الرياضيات وعلوم الفلك.

يقول يوسف زيدان على لسان هيبا: (أراها أمامي وقد وقفت على منصة الصالة الفسيحة، وكأنها كائن سماوي هبط الى الأرض من الخيال الإلهي ليبشر الناس بخير رباني رحيم. كانت لهيباتيا تلك الهيئة التي تخيلتها دوما ليسوع المسيح، جامعة بين الرقة والجلال. في عينيها زرقة خفيفة ورمادية، وفيها شفافية. في جبهتها اتساع ونورسماوي، وفي ثوبها الهفهاف ووقفتها، وقار يماثل ما يحفّ بالالهة من بهاء..)، فهيباتيا باللغة اليونانية تعني السامية، وهي مصداق لمعنى اسمها، فسمو الاخلاق والنبوغ والقدرة على الإقناع والعلم الموسوعي هي من صفاتها، وهي التي تقول: (الحقائق التي نصل إليها بالمنطق والرياضيات، إن لم نستشعرها بأرواحنا، فسوف تظلّ حقائق باردة، أو نظل نحن قاصرين عن إدراك روعة إدراكنا لها).

قتلت هيباتيا العالمة الجميلة في العام 514م وسحلت جثتها ومُثّل بها وأحرقت بسبب اتهامها بالسحر، وبصناعة الآلات الفلكية لأهل التنجيم والمشعوذين ولهذا ناصب العداء لها بابا الإسكندرية كيرلس آنذاك، وشجّع على قتلها من خلال خطبه الحماسية الرنانة ليقوم بطرس القارئ وأعوانه من الرهبان وصعاليك المسيحيين المتوحشين بهذه المهمة الشريرة.

ماتت هيباتيا أستاذة الزمان النقية القديسة، كما يذكر زيدان في الرق التاسع من روايته (عزازيل)، وهي الربة التي عانت آلام الشهيد، وفاق عذابها كل عذاب، وفي كل عصر وزمان، وفي كل الأديان، وكما في كل مكان يقتل العلماء والمفكرون ويتهمون بالهرطقة والزندقة والكفر والالحاد عندما يختلفون ويشذون عن طوق الحاكم أو من من يعتبرون أنفسهم ممثلي الله على الأرض من أصحاب الديانات المختلفة.

كاد الراهب هيبا بعد ما هاله من فزع ورعب بعد مقتل هيباتيا أن يهجر الرهبنة ويعود إلى بلدته نجع حمادى الواقعة بأطراف بلدة أسوان جنوب مصر، “فالاغتصاب والعنف ينتصران أمام عيني، والخصام والنزاع يسودان كل مكان”، كما يقول.

الراهب المصري الأصل في رواية “عزازيل” يقوم بتدوين سيرة حياته القلقة، وتاريخ تلك الأحداث وتقلبات زمانه المضطرب بعد تمكنه من ترجمة الرقوق الواردة إليه من شمال غرب حلب، وهي في حالة جيدة ومكتوبة باللغة السريانية القديمة (الأرامية) إلى العربية، وكان ذلك في القرن الخامس الميلادي وعلى وجه التحديد في العام ١٥٥٥م كما ورد في مقدمة المترجم. وكما يقول زيدان عن لغة الراهب هيبا: (تعبيراته الرهيفة، البليغة والصور الإبداعية التي تتوالى في عباراته، مؤكدة شاعريته وحساسيته اللغوية، وإحاطته بأسرار اللغة السريانية التي كتب بها)، كما أن هذه الرقوق كما ورد في الرواية ثلاثين رقاً، وهى متفاوتة في الحجم، في الطول أو القصر.

وكثيراً ما راود هيبا الاحلام في تطوافه، فكما يقول أمبرتو إيكو في روايته الجميلة “اسم الوردة”: (الحلم كتابة، والكثير من الكتابات ماهي الا أحلام)، فقد دوّن الراهب هيبا هذه السيرة في العام ٤٣١م وهى السنة المشؤومة، كما يطلق عليها، بسبب حرم وعزل الأسقف نسطور نتيجة للخلافات شديدة الوقع بين الكنائس، حيث كان اللقاء بينه والأسقف نسطور في أورشليم. فنسطور المبجل كما يشير إليه في أكثر من موضع هو المعلم والملهم والناصح والحامي والصديق لهيبا الراهب، فلا غضاضة أن يدافع عنه وعن أفكاره في خلافه مع الكنيسة المرقسية في الإسكندرية والاسقف كيرلس الذي عمل جاهدا لعزله عن اسقفية إنطاكية ومن ثم حرمانه من الرعاية الكنسية وتحقق له ذلك بعد أن أقرّ المجمع المقدس برئاسة الامبراطور، بإعادة كيرلس لرتبته الأسقفية وأقرّعزل نسطور ونفيه بعد أن تخلى عنه الأساقفة المناصرين لآرائه، مما هيأ للمجمع المقدس أن يصيغ قانونا جديدًا للايمان فيه إضافات على القانون الذي أقرّ قبل مائة عام في نيقية، كما ورد في الرق التاسع والعشرين .

في رحلته المريرة من بلدته نجع حمادي إلى الإسكندرية ومن ثم أورشليم القدس واستقراره النهائي ومحطته الأخيرة بعد أن تعب من الترحال الدائم، التقط أنفاسه في الدير الواقع شمال حلب، لأنه يقع في منطقة خضراء هادئة، في أعالي تلة ويعود بنائه إلى ما قبل الرومان، كما يذكر الراهب هيبا، وكان مبنى الدير معبداً في الزمن الغابر لإله الخصب والمراعي ولربة الحقول، (كانت أيامي الأولى في الديرهادئة، هانئة أمضيت أوقاتي في القراءة والعبادة، فسكنت روحي).

وكما يقول يوسف زيدان في روايته المبهرة “فردقان”: (الرجال مهما كانوا حكماء فإنهم لايبرءون من الطيش الطفولي، فإن الراهب هيبا كانت له مغامراته البريئة أيضاً، فمنذ أن وطأت قدماه الإسكندرية وتحت غوايات أوكتافيا وقع في المحظور ليقول عنها: أنا ما رأيت قبلها أجمل، ولا أرق، ولا ألطف. أوليست وهي الوثنية، أنقى قلبا وأصفى روحاً من أغلب المسيحيات اللواتي عرفته؟).

فعلى الرغم من حلمه الكبير في النبوغ في الطب واللاهوت، إلا إن مشروعه كاد أن يتعثر بسبب تلك المرأة وغواياتها له (كان جانبا مني يريدها، ويحب ذكاءها ورائحة جسمها. نعم كانت أوكتافيا ذكية، زكية، شهية. لكنني ضيعتها وضيعتني، مرتين ..)

وبقدرة قادر تخلّص من أوكتافيا ليواصل مشوارة وهدفه، رغم تلك العثرات والمطبات، ليسقط مرة أخرى في مستنقع الغرام ويحترق بنار مرتا اللاهبة.

مرتا كلمة قديمة تعني السيدة: (شعرها بحسب ما بدا من أطرافه المنفلتة من غطاء رأسها، كحاجبيها فاحم السواد، ولامع براق ٠٠مرتا آية من آيات الجمال الإلهي في الكون، في وجهها طفولية ونزق، وفيه بهاء صورة العذراء ، غير أن نظرتها جريئة جداً، ومربكة لمن هو مثلي، لسعتني نظرتها، وروعني جمالها، حتى كاد يغمى على من جلال الجمال ٠٠).

كاد أن ينهي مشواره وينتهي مع تلك المرأة لولا تشدد التعاليم الدينية لمن يود الرهبنة، فانتهى لمقولة من إنجيل متى: “من يتزوج مطلقة، فهو يزني”، وبذك فرّت منه رغم حبها الجارف له، وأصبح في وضع مزرٍ، لاحقته الهموم وعصفت به الأقدار بعد عزل نسطور ونفيه.

عزازيل …أي أبليس، الشيطان، أهريمان، يلعزبوب، بلعزبول، كلها مترادفات تعني نقيض الله المألوه الذى عرفناه بالخير المحض، فعزازيل مبرر الشرور.

من لم يقرأ هذه الرواية قد يعجز عن فهم ما يجري داخل الكنائس المسيحية من خلافات، وما يحدث فيها من نقاشات وصراعات، ففيهم القديسون الأتقياء، والهراطقة الممسوسون، فيهم الاتقياء النجباء وفيهم الأدعياء، الصادقون والمكذوبون، النافعون والمخلصيو لديانتهم والمتكسبون من تدينهم، والصالحون والطالحون، كما هي حال كل الأديان والاعتقادات لا تخلو من هؤلاء وأولئك، ويبقى الانسان حمّال أوجه، ويبقى هيبا الطبيب الشاعرصادقاً قبل أن يكون راهباً.

اقرأ المزيد

محطات مضيئة من نضال حركتنا العمالية – 2

كان الهدف من تشكيل اتحاد العمل البحراني في خمسينيات القرن الماضي هو صون حقوق العمال، والسعي لإقرار تشكيل النقابات العمالية بشكل علني، وقد استجابت حكومة البحرين آنذاك للطلب، وشكّلت لجنة لصياغة مشروع قانون العمل في إبريل من عام 1955.
إلا إن هذا المشروع لم يصدر في حينه، وبقي عامين حبيس الأدراج والمداولات في أورقة المستعمر البريطاني، لتأخير صدوره، تعويلاً على توقف زخم الحركة العمالية، إلى أن صدر القانون عام 1957 الذي نصّ على حرية تشكيل النقابات العمالية، لكن السلطات حالت دون ذلك، حتى مع نهوض الحركة العمالية مجدداً في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، علماً بأن اتحاد العمل البحراني قد حلّ اختياريا في عام 1958 تحت ضغوط المستعمر البريطاني على مجمل الحركة الوطنية والعمالية آنذاك.
مع اشتداد المطالب العمالية في في سبعينيات القرن الماضي، وبالترافق مع الحياة النيابية الأولى ظهرت للعلن أربع نقابات عمالية عام 1974، هي نقابة العاملين في الكهرباء، نقابة العاملين في الصحة، نقابة العاملين في شركة “ألبا”، ونقابة العاملين في البناء والمهن الإنشائية.
وبعد حلّ البرلمان الأول في عام 1975 صدر قانون عمل جديد في عام 1976 خلا من النص على أحقية العمال في تشكيل النقابات، وتزامن ذلك مع سريان قانون أمن الدولة، للتنكيل بالقوى الوطنية والقيادات النقابية، واستمرّ هذا الوضع حتى عام 1988، حيث صدر أمر بتشكيل لجان عمالية للتخفيف من الانتقادات الداخلية والخارجية، وسمح بقيام اللجنة العامة لعمال البحرين عوضا عن الاتحادات العمالية، فيما استمر قمع الحركة الوطنية الذي بلغ ذروته في الهجمة الأمنية على مناضلي جبهة التحرير الوطني عام 1986.
وبعد تفاقم الأزمة السياسية في البلاد في التسعينيات، جاءت مرحلة الإنفراج السياسي مع طرح مشروع ميثاق العمل الوطني من قبل جلالة الملك في عام 2000 للتصويت، حيث حظي بدعم غالبية القوى الوطنية والشعبية، وعلى أثر ذلك صدر في عام 2002 المرسوم الملكي بالسماح لتشكيل النقابات العمالية في البحرين، لكن مع استثناء العاملين في القطاع الحكومي.
في عام 2002 صدر قانون العمل الحالي والذي يعدّ من اسوأ قوانين العمل التي صدرت في البحرين بحسب نشطاء العمل النقابي والقانونيين لأسباب عديدة، بينها إلغاء القانون لأولوية العمالة الوطنية في التوظيف، مما ساهم في تهميشها في القطاعين العام والخاص، وساعدت في ذلك خصخصة مرافق مهمة في القطاع العام، ما أدى إلى الزيادة الحادة في نسبة البطالة خصوصاً في صفوف خريجي الجامعات والتخصصات العلمية، مع إغراق البحرين بالعمالة الوافدة، مما اضطر الكثيرون من العاطلين لقبول العمل بعقود مؤقتة، بأجور متدنية، ودون أي ضمانات.

اقرأ المزيد

مرقد السلام

تتهادى في مشيتها بين القبور، تأنُّ من وجع الفراق وهي تتخطى الأشواك التي زرعتها المقبرة بقدميها المكسورتين واللتين مزقتهمها الحياة رغم صغر سنها، “تمردغ” بقدميها رمال المقبرة الملتهبة. تملأ نعليها رمال ممزوجة بالحصى. لا تكترث بتضاعف الألم من الأشواك والحصى الحادة في قدميها.
تسقط قبل الوصول إلى القبر المطلوب فيسيل الدم من فمها وتجرح يدها اليمنى، تحاول أن تبكي تلبية لنداء طفولتها، ولكن لا دموع تسقط ولا صوت يستطيع أن يصرخ من حنجرتها الصغيرة الملتهبة.
بخطوات صغيرة وكبيرة في سرّها تصل إلى القبر المطلوب، تتعثر وتسقط على وجهها المنكمش المليء بكدمات غيبت ملامح وجهها، رائحة الدم التي سالت من فمها غيبتها لصورٍ مرّت أمامها بلمح البصر، لعب، صراخ، حب، دماء، سكين، جري ومشنقة ! تستيقظ مذعورة بعد نوبة بكاء ينقذها بها أحدهم بإبريق من الماء البارد، تفيق تشهق بقوة وتدخل في نوبة بكاء حادة.
صور الدم والصراخ المخيف الممزوج بالحب والبراءة تجعلها تحتضر لتجد نفسها في ذلك البستان الأخضر الذي صنع بصمة جميلة في قريتها الصغيرة هناك بعيداً عن ضجيج البشر وبعيداً أيضا عن المناظر الصناعية التي صنعها الإنسان ليمتد بظلاله إلى آخر القرية. أستغل الأطفال لعبهم في هذه البقعة الجميلة حيث لا شمس حارقة ولا ضجيج يعكر صفوهم. ضحكاتهم البريئة ضاعفت جمال المكان.غنائهم وموسيقى تغريد العصافير جعلت الأشجار ترقص رغم بشاعة ما حولها من حياة مختلفة. الفتيان والفتيات حيث الحب والنقاء والبراءة فقط، انهمكوا في اللعب بتعدد اجناسهم وألوانهم يلعبون بحب بعيداً عن تهكمات المجتمع دون الاكتراث بما يضجّ به المجتمع من عنصرية الجنس واللون، وقبح العادات والتقاليد التي تقتل الجمال، بل كانت الضحكات ممزوجة بالأبيض والأسود والطفل والطفلة.
اخدتهم لعبة (السكونة) التي رسموها على التراب الأحمر إلى عالم مختلف عما حولهم، عالم مليء بالحب فقط، كانوا يلعبون بأرواحهم ورغم تساقطهم على بعضهم أحيانا، إلا أن أرواحهم الملائكية تنسيهم آلام السقوط والجروح فور سقوطهم .
فجأة علا صراخ هزّ قلوب الأطفال وعكّر جوهم المرح، وحتى الأشجار نكست رؤوسها من خجل قطع فرحة الأطفال، غاب تغريد العصافير وحلّ مكانه فقط صوت القلوب المهتزة الذي أظلم المكان.
لم يخطر في أذهان الأطفال أن حوادثهم العفوية في اللعب كفيلة بأن تقتل فرحتهم بل وأن تمزق قلوبهم وأرواحهم. ولكن حين تغيب الرحمة عن قلب الإنسان تظلم روحه فلا تهمس نفسه إلا بعفن الحياة. فلا رحمة من إنسان هيمنت على مسامعه أصوات شياطين المجتمع وهو يرى طفل الخامسة قد سقط سهوا على طفلة السابعة “العفة، الشرف، السمعة، شرف العائلة، الفسق والفجور. “لا تفسد الفتاة إلا من جذورها”. كل هذه الكلمات رنّت في اذنه ليعمي الغضب بصيرته، وهو يصرخ كالشيطان في أوجه الأطفال الذين تعالت أصواتهم خوفا من الدماء التي طالت ملابسهم البيضاء، وحتى أصوات العظام التي كسرت لتبقي على مسامعهم طوال أعمارهم حكاية فاجعة سيعيشون تفاصيلها .
“الرحمة تبقي القلب نابضا”. غياب جسدها تدريجيا عن الوعي لم يمنع قلبها أن يخفق خوفا على والدها الذي لوثت لحيته الكثيفة دماءها النقية وهي تراه معلقا بالحبل السميك على شجرة الزيتون “سيخنقك الحبل يا أبي”.
تفتح عيناها، الظلام يسيطر على المكان، تزيح الرمال من على جسدها النحيل، تخرج من مرقدها المظلم، تمشي سريعاً، تتعثر بمشيتها، تمزق قدميها الأشواك، تسقط على القبر. تغيب في نوبة بكاء حادة، يوقظها الماء البارد، تمسح دمعتها البريئة: “هل ما زال الحبل يخنقك يا أبي ؟.”. لا إجابة إلا صوت أنين نابع من القبر، تمسح دمعتها وتغادر إلى قبر سلامها المظلم.

اقرأ المزيد

ضاع منه ظله ولم يجده

كان يُشاهد يوميًا منذ سنوات طويلة، وهو يجلس على الدوّار المقابل لمسجد البلوش بفريق العوضية. وحيدًا يُدخّن سيجارة وراء سيجارة. متوترًا على الدوام كما كان يبدو من حركاته. يجلس ساعة أو ساعتين وفجأةً ينهض متوجّها بخطوات سريعة إلى منزله القريب، دون أن يلتفت أو ينظر إلى أحد. كان هذا دأبه كل يوم كأنه بجلسته على ذلك الدوّار يفرغ بعضًا مما بداخله من عواصف، ربما براكين لا يعلم بها أحد غيره. كان الجميع يتساءل عن سر هذا الرجل، وظنَّ البعض أنه إنسانٌ فقد عقله.

وحيدًا كان. حزينًا حتى الفجيعة. كأنه خرج من الدنيا وهو ما زال فيها. يقولون إنه عشق إمرأةً غير عربية من دولة مجاورة وقرر أن يجلبها معه الى البلاد في بانوش (سفينة شراعية صغيرة)، وعندما وصلا إلى الفرضة (الميناء) لم يُسمح لها بالنزول لأسباب غير معروفة، فعاد معها إلى بلادها، وهناك قبضوا عليه وأودعوه السجن ولا أحد يعرف السبب الحقيقي، يقول البعض إنها أسباب سياسية.

شاهده أحد المواطنين في السجن مصادفةً عندما قبضوا عليه أيضًا، لكن حسن ابتسم له ولم ينطق بحرف على الرغم بأنهما يعرفان بعضهما جيدًا من قبل. قال زملاؤه في السجن المذكور إنه مُضرب عن الكلام، ولكن يبدو أن تفسيرهم لصمته لم يكن دقيقَاً، بل الحقيقة أن حالته المزرية كانت بسبب جلسات التعذيب الوحشية التي تعرّض لها في ذاك البلد الغريب كما قال البعض.

يصف أحدهم كيف تعرّف على تلك المرأة فيقول بأن حسن كان جالسًا يومًا في المقهى وحده في تلك البلاد الغريبة. جاءت أمرأة فائقة الجمال، مفرطة الأنوثة، شعرها بني غامق ينسدل على كتفيها مثل نهرين، ترتدي نظارة سوداء فاخرة. جلست المرأة على الطاولة المواجهة له بالضبط. لم يلحظها حسن أو ربما كان سارحًا، غارقًا في أمور أخرى تشغله أكثر. فهو إنسان جاد وقليل الإبتسامة. وضعت المرأة سيجارة في فمها وأشرّت عليه لكي يشعلها لها، لم يهتم ولم يتحرك من طاولته بل أدار رأسه إلى الجهة الأخرى. بعد قليل أقبلت عليه وطلبت منه أن يشعل لها السيجارة، فأعطاها الولاعة ولم يكلف نفسه عناء إشعال سيجارتها. شكرته وعادت إلى طاولتها، وبعد قليل شاهدته يشعل سيجارته فتوجّهت إليه وطلبت ولاعته.

– أنا متأسفة سيدي أزعجتك.
– لا أبدًا، لو كانت معي ولاعة إضافية لما ترددت في اعطائها لك.
– يبدو أنك لست من هنا كما يبدو من لهجتك.
– نعم أنا من بلد عربي.

عند مغادرتها طاولته، اصطدمت بزاوية الطاولة فانسكبت القهوة على ملابس حسن وتلطخ قميصه الأبيض وبنطاله. وقفت واضعة كفيها على خديها معربة عن أسفها الشديد. طلبت منه أن ينتظر لحظات. هرعت تلك السيدة إلى البوتيك المجاور للمقهى واشترت له قميصًا أبيض. دخل حسن إلى حمّام المقهى فيما جلست هي على طاولته. خرج بعد قليل مرتديا القميص الجديد وكان بمقاسه تمامًا. شكرها فيما هي كررت أسفها وندمها على ما حدث.

– بكم اشتريتِ القميص سيدتي؟
– لا.يهم سيدي أنا الذي لطخت قميصك ومن واجبي اصلاح ما حدث.
– لا..لا أنا لا أقبل ..أرجوك أخبريني بالثمن.
– انتهينا يا …….؟
– حسن.
– أنا ليلى.

من هنا يبدو أن العلاقة بينهما قد بدأت. أو بهذه الطريقة تعرفت عليه تلك المرأة بخطة ذكية ومتقنة. ربما هذا من وحي خيال الراوي أو ربما هي الحقيقة. لا أحد يعلم.

تقول الحكاية أيضًا إن المرأة التي عشقها وحاول إدخالها إلى البلاد كانت مدسوسة عليه من السلطات الأمنية في بلادها لتراقبه مع رفاقه. حكاية أخرى تقول إنه توجّه إلى ذلك البلد في الأصل للبحث عن أحد الرفاق المفقودين الذي انقطعت أخباره منذ فترة في تلك البلاد الغريبة.

حكاية غامضة نسبيًا، وربما كل ما قِيل صحيحًا أو بعضه صحيح، لا أحد يجزم أو ينفي فجميع الشهود رحلوا، ومضى حسن دافنًا السر معه تحت التراب إلى الأبد. لكن صورته وحركاته لا تفارق مخيلة أصحاب ذلك الحي على الرغم من مرور سنوات طويلة على الحدث.

الحكاية كلها مزروعة فينا، ترتعش في داخلنا، كالغربة تمامًا حين نعيشها، عاد حسن إلى الوطن، لكن بقي ظله مفقودًا في بلاد غريبة، ويقال أيضا إن ظله أيضا اسمه حسن، فهل نضيع حين نضيع مهما كانت طريقة الضياع، لا يهم!!

اقرأ المزيد

تقرير ديوان الرقابة، منهجية ناقصة

تشير ديباجة تقرير ديوان الرقابة المالية والإدارية للسنة المهنية 2019-2020 إلى أنه اتبع منهجية جديدة في صياغة التقرير، إذ تمّ الاكتفاء بإيراد الملاحظات الرقابية والتوصيات المقررة بشأنها من دون الاسترسال بعرض ردود الجهات على الملاحظات وما يلحقها من تعقيب للديوان على تلك الردود، غير أن هذا التقرير يعدّ أضعف التقارير بالمقارنة مع تلك التقارير التي صدرت في الأعوام الماضية، فجاءت هذه المنهجية قاصرة ناقصة في الرقابة المالية على أموال الدولة وأموال الجهات التابعة لها والمنصوص عليها في قانون الديوان رقم (16) لسنة 2002، ويتمثل أبرز الأمثلة على هذا القصور في الآتي:

أولاً: أموال وإدارة التأمين الاجتماعي:
على الرغم من الأهمية الكبيرة التي يوليها المواطنون خصوصا الغالبية العظمي من المتقاعدين لأموال التأمين الاجتماعي، فإن تقرير ديوان الرقابة فيما وضعه من منهجية جديدة يتجاهل الرقابة الإدارية والمالية على أوضاع صناديق التأمين الاجتماعي للسنة المهنية 2019-2020.
إذ كان على هذا التقرير، خاصة في ظل التعديلات القانونية الجديدة التي نصت عليها أن يشتمل، كما هو الحال في تقارير الديوان السابقة، على بيان للعجز الالكتواري لصناديق التقاعد وأسباب هذا العجز، وما كان يشوب الإدارة من سوء وفساد خاصة في كيفية استثمار أموال المتقاعدين كسبب رئيس للعجز.

وكان عليه على سبيل المثال أن يحدد الأسباب التي أدت إلى تصفية أملاك الذراع العقاري للتأمين الاجتماعي وتحويل اختصاصاتها إلى أصول، ونتائج هذه التصفية، حتي يعرف المتقاعدون كيف استثمرت أموالهم، وما هي الحلول التي وضعت ونفذت للتجاوزات التي أشارت إليها التقارير السابقة بشان التأمين الاجتماعي، أبرزها على سبيل المثال لا الحصر تقرير (2016-2017 ) الذي أكدّ على وجود (تدنٍ في نسبة العوائد المالية للعقارات المملوكة للهيئة العامة للتأمين الاجتماعي الذي يعود الى عدم قيام شركة أملاك – وهي الجهة المكلفة بإدارة عقارات هيئة التأمينات – باستغلال 19 أرضًا تبلغ قيمتها السوقية 289 مليون دينار على الرغم من مضي 3 سنوات على بدء نشاط الشركة مع الهيئة).

ثانياً: المال العام للأراضي المغمورة في البحر:
على الرغم أن الأراضي المغمورة في البحر هي من الثروات الطبيعية وتعدّ من الأموال العامة ملك الدولة، وأن الدستور ينص على أن للأموال العامة حرمة، وحمايتها واجب على كل مواطن، وعلى الرغم من صدور المخطط الهيكلي الاستراتيجي بموجب المرسوم رقم (36) لسنة 2016 الذي يتعلق بالتخطيط في زيادة مساحة مملكة البحرين إنشاء مجموعةً من الجزر الاصطناعية الجديدة بدفان الأراضي المغمورة في البحر، أضحت في معظمها ملكية خاصة للاستثمار تتعلق بمال عام ملك الدولة، يتعين الرقابة عليه، إلا إن تقرير ديوان الرقابة لا يشير في رقابته على هذه الأموال، لا من بعيد أو قريب، وكان عليه أن يتناول في تقريره قيمة هذه الأراضي المغمورة قبل دفنها وبعده عند استثمارها، وأن يجيب على سؤال هام هو: لماذا لم يكن للميزانيات العامة للدولة المتعاقبة نصيب من قيمة هذه الاراضي، أومن قيمة استثماراتها ؟

ثالثاً: الرقابة على الدين العام:

جاء في تقرير الرقابة في الملاحظات المتعلقة بالرقابة المالية بالدين العام قيام بعض الوزارات والجهات الحكومية بالاقتراض المباشر من المصارف المحلية والصناديق الخارجية من دون أن يتم إدراج ديونها ضمن رصيد الدين العام. وقد بلغت القروض المستحقة على تلك الجهات والتي لم تدرج ضمن رصيد الدين العام لعام 2019 حوالي 1.8 مليار دينار، وقد تكرر هذا في تقريره السابق لعام ( 2018 ، 2019 ) دون يتأخذ ديوان الرقابة أي خطوات عملية لوقف هذا التصرف ومحاسبة الجهات الحكومية التي تقوم بهذا الاقتراض، ولا ينال من ضرورة هذه المحاسبة رد وزارة المالية والاقتصاد الوطني بهذا الشأن بأن تلك القروض هي (خاصة بالجهات الحكومية ذات الميزانية المستقلة والتي تقوم بالاقتراض استنادًا إلى حكم الفقرة (ب) من المادة (108) من دستور المملكة والتي تنص على أنه “يجوز للهيئات المحلية من بلديات أو مؤسسات عامة أن تقرض أو تقترض أو تكفل قرضاً وفقاً للقوانين الخاصة بها”. وأنه لا يتم سداد هذه الديون من الميزانية العامة للدولة، ولا تكفل أو تضمن حكومة مملكة البحرين هذه القروض، فمن ثم لا تدرج تلك القروض من الناحيتين ضمن رصيد الدين العام لحكومة المملكة ).

ذلك أن حكم الفقرة (ب) من المادة الدستورية المشار إليها في ردّ وزارة المالية لا تحول ولا تمنع على الإطلاق من رقابة ديوان الرقابة على ما تقوم تلك الجهات الحكومية ذات الميزانية المستقلة من اقتراض وفقاً للقوانين الخاصة بها من حيث مدى جدوى وضرورة هذا الاقتراض، ولا يمنع أيضاً من الرقابة على ميزانيتها المستقلة، ولا يحول النص الدستوري المذكور من إدراج هذه القروض ضمن رصيد الدين العام في الميزانية العامة للدولة بل هناك في الدستور من الاحكام التي تعزز وتؤكد صحة ما ذهبنا إليه نحددها فيما يلي:

1- إن الجهات الحكومية ذات الميزانية المستقلة، وإن كانت مستقلة في ميزانيتها، فهذا الاستقلال يتعين أن يكون في ظل توجيه الدولة ورقابتها، وإن على الدولة أن توجه هذه الجهات بما يتفق والسياسة العامة للدولة ومصلحة المواطنين .وذلك عملاً بنص المادة (50) من الدستور التي نصت على أنه (أ- ينظم القانون المؤسسات العامة وهيئات الإدارة البلدية بما يكفل لها الاستقلال في ظل توجيه الدولة ورقابتها، وبما يكفل لهيئات الإدارة البلدية إدارة المرافق ذات الطابع المحلي التي تدخل في نطاقها والرقابة عليها . ب- توجه الدولة المؤسسات ذات النفع العام بما يتفق والسياسة العامة للدولة ومصلحة المواطنين).

2- إن الميزانيات العامة المستقلة والملحقة وبحساباتها الختامية، تسري في شأنها الأحكام الخاصة بميزانية الدولة وحسابها الختامي، طبقا لنص المادة ( 114 ) من الدستور التي نصت على أنه (يضع القانون الأحكام الخاصة بالميزانيات العامة المستقلة والملحقة وبحساباتها الختامية، وتسري في شأنها الأحكام الخاصة بميزانية الدولة وحسابها الختامي. كما يضع أحكام الميزانيات والحسابات الختامية الخاصة بالبلديات وبالمؤسسات العامة المحلية) .

خامساً: قصور في تطبيق القانون:

إن سكوت التقرير الجديد عن الرقابة المالية والإدارية عن ما أشرنا إليه وغيره من حالات أخرى تتعلق بالمال العام للدولة وغيرها من الجهات التابعة لها، يتعارض مع الاختصاصات التي نصّ عليها قانون ديوان الرقابة رقم (16) لسنة 2002 على أن مهمته هي الرقابة المالية على أموال الدولة وأموال الجهات المنصوص عليها في المادة (4) من هذا القانون، ويتحقق بوجه خاص من سلامة ومشروعية استخدام هذه الأموال وحسن إدارتها، وذلك على الوجه المنصوص عليه فيه.

ولا يكفى أن يكشف الديوان في تقريره عن بعض التجاوزات المالية والإدارية للجهات التي تقع تحت رقابته، بل لابد أن يبين في تقريره أوجه الفساد في هذه التجاوزات لكل الجهات التي تقع تحت رقابته، وأن يحدد بوضوح وشفافية في تقريره فيما إذا كانت هناك أدلة جدية على وجود جريمة جنائية من عدمه في المخالفات التي وردت في التقرير حسب نص المادة (11) من قانون الديوان، بتحريك الدعوى الجنائية وتحديد المسؤول عنها جنائيا بإحالته إلى الجهة المختصة إذا ما توافرت لديه أدلة جدية على ذلك.

اقرأ المزيد

المعلقات والمهجورات ومظاهر العنف ضد المرأة

الزواج علاقة مقدّسة وتنمّ عن أوثق العلاقات الإنسانيّة الّتي تجمع شخصين، وعنوان هذه العلاقة المودّة والرحمة التي تؤسس البنيان المتين لهذا الزواج، وبالتّفاهم والمحبّة يستطيع الزوجان حماية علاقتهما بكل وعي ومسؤولية، بعيداً عن الخلافات الّتي تصل بالعلاقة الزوجيّة إلى مزالق خطيرة تهدد أمن الأسرة واستقراره.
إن هجر الأزواج للزوجات مأساة تعانيها النساء في العديد من المجتمعات العربية، وهي ظاهرة من مظاهر العنف ضد المرأة، وحين يتعنت الزوج ولا يطبق قاعدة إمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان تظهر إلى الوجود شريحة من النساء يسمون «بالمعلقات»، وهن اللواتي هجرهن أزواجهن ورفضوا إنهاء العلاقة الزوجية بالطلاق، فهي لا مُتزوجة ولا مُطلقة، وقد تتعرض بشكل يومي لأذى الزوج وسوء معاملته وعنفه، وتزداد نسبة المعلقات يوماً بعد يوم، ويعدّ ملف المهجورات والمعلقات، ملفاً شائكاً ومعقداً، وقد حان الوقت لمراجعة القوانين والأحكام وإعادة صياغتها من جديد لإنهاء معاناة الكثير من النساء.

إن الزواج شراكة بين الرجل والمرأة، والزواج والطلاق يتصلان ببعضهما اتصالاً وثيقاً، وهما قضيتان ضروريتان اجتماعياً. وكما هو معروف فإن الزواج ينعقد باتفاق إرادتي الرجل والمرأة معاً، ولكن في حال عدم توافق الشريكين وفشل العلاقة الزوجية، فكل القوانين العربية تعطي الزوج حق إيقاع الطلاق بإرادة منفردة ولا رأي فيه للزوجة ولا تملك منعه، وهو حق خالص للزوج، إذ تعمل القوانين العربية بالقاعدة الغالبة وهي أن الأصل في الطلاق أن يكون بيد الرجل.

وأمام هذا الوضع يغلب طابع اللامساواة بين الجنسين في حق طلب الطلاق، والذي يعتبر شكلاً من أشكال العنف القانوني الذي يمارس ضد المرأة، عدا القانون التونسي الذي جعل الطلاق أمام المحكمة وحقاً لكلا الطرفين وبالتساوي.
في البحرين هناك العديد من النساء المعلقات اللاتي ينتظرن إنهاء معاناتهن لسنوات بسبب طول مدد التقاضي في المحاكم وخاصة في المحاكم الشرعية الجعفرية، والتي تتزاحم فيها مئات القضايا لنساء ينتظرن الخلاص من زواج فاشل والحصول على الطلاق أو الخُلع أو حضانة أو نفقة دون جدوى، وذلك لصعوبة ذلك.

وعلى الرغم من وجود قانون الأسرة الموحد والذي بدأ العمل به في عام 2017، ووجود نصوص صريحة لا تؤيد التعليق “فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ”، فإنه عند تعرض المرأة لأي ضرر لا تجد ملجأ إلا بحلين إما رضاءً أو قضاءً.

وإنهاء العلاقة بالتراضي قليلاً ما تكون بالقضاء وذلك بسبب تعنت الرجل وعدم موافقته على ذلك، وعند لجوء المرأة للقضاء لطلب التطليق نجد أن بعض القضاة يتعسف ويتشدد في السلطة التقديرية بسبب عدم وجود البينة، فتذهب إلى خيار الخُلع. وقانون الأسرة البحريني يجيز للمرأة أن تلجأ للقضاء لتطليقها وإنهاء عقد الزواج وذلك بدفع مقابل مادي للزوج (الخُلع). وفي الفقه الجعفري يعلق قبول دعوى الطلاق على موافقة ورضا الزوج وتصبح المرأة معلقة إذا رفض الزوج تطليقها.
وهنا تكمن المشكلة، حين يكون الرجل مصدر قوة ويطالب بأضعاف المهر المقدّم للزوجة لإنهاء الزواج، والقانون يعطيه الموافقة على ذلك، وتكون المرأة تحت رحمة الزوج وتصبح معلقة ويذهب لحياته إذا لم تدفع له المبلغ المطلوب. ومازالت هناك الكثير من القضايا المعلقة في المحاكم الشرعية لحالات من النساء اللاتي لا يستطعن التقدم بالخُلع لظروفهن المادية وينتظرن النطق من جانب الزوج.

وبحسب بعض المتضررات، تعاني النساء في المحاكم الشرعية بسب الإطالة والتي قد تصل إلى خمس سنوات أو أكثر للحصول على الطلاق، كما أن بعض القضاة لا يطبقون القانون ولا الشرع ولا ينصفون المرأة. بالإضافة إلى أن المدة بين كل جلسة وأخرى تستغرق شهراً أو أكثر، ويحتاج الأمر لسنوات طويلة لإنهاء الطلاق، بما في ذلك من إذلال وإهانة لكرامة المرأة. ولكم أن تتخيلوا أن الحصول على الطلاق أصبح لبعض النساء فرحة خاصة إذا كانت تعاني من زوج لا يرحم ومحاكم لا تنصفها.

المرأة المعلقة أو المهجورة تعتبر فئة معطلة في المجتمع، ففي الوقت الذي يحتاج لها المجتمع للمشاركة في عملية التنمية والاستفادة من طاقاتها وعلمها، وحاجتها للعمل لإعالة نفسها وأولادها وتربية أطفالها ورعايتهم، نجدها تقضي سنين عمرها بين أروقة المحاكم بحثاً عن الخلاص وإنهاء الزواج، أو قد تستدين لتدفع للزوج ثمن حريتها، ناهيك عن الحالة النفسية التي تمرّ فيها بسبب كل هذه الظروف.

أسئلة عديدة تتبادر إلى أذهاننا، لماذا لا يحق للمرأة اللجوء أو اختيار المحكمة التي ترتأيها – المحكمة الشرعية السنية أو الجعفرية – لتسيير أمورها دون مماطلة؟ لماذا يتم تصنيف المواطنين حسب مذاهبهم في المحاكم؟ لماذا لا يتم التعامل مع المرأة على أساس أنها مواطنة لها حقوق وعليها واجبات مثل الرجل؟ لماذا يصبح الطلاق خاضعاً لمزاج القاضي الذي لا يطبيق القانون ويتحيز للرجل؟ أين القانون من مساومة الزوج على قيمة مبلغ الخُلع والذي يصل في أحيان كثيرة لآلاف الدنانير لموافقته على الطلاق؟ هل هناك ثغرات قانونية يستغلها البعض لصالحه؟ وغير ذلك من الأسئلة التي لا تجد المرأة لها إجابات شافية.

باتت الحاجة ملحة لتعديل قانون الأسرة ليواكب العصر وينصف المرأة، وتوجيه الدعوة للفقهاء إلى إعادة النظر في القانون مستندين على “لا ضرر ولا ضرار”، كما على القضاة المتنورين أن تكون لهم بصمتهم وحضورهم والضغط لتعديل القانون رأفة بالنساء، ويجب العمل على رصد الحالات المعلقة في المحاكم لتسليط الضوء عليها وإيجاد حل سريع لهذه الفئة. إضافة إلى ذلك من المهم توعية القضاة بالقانون وكيفية التعامل مع الحالات التي ترد لهم حفاظاً على كرامة المرأة وسلامتها.

اقرأ المزيد