المنشور

القدس عاصمة الثقافة العربية (2 – 2)

القدس .. وربيع الثقافة
على الرغم من كل الظروف والأوضاع المأساوية التي تمر بها قضية العرب المركزية القضية الفلسطينية ليس في ظل الاحتلال الاسرائيلي الوحشي وممارساته التنكيلية بحق أبناء الشعب الفلسطيني فحسب، بل في ظل الانقسام والتناحر المؤسف بين السلطة الفلسطينية في رام الله والحكومة الحمساوية المقالة في غزة، فإن كل ذلك يجب الا يمنع بأي حال من الاحوال العرب من بذل اقصى ما يمكنهم من جهود بمشاركة اشقائهم الفلسطينيين في فعاليات الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية، بحيث تجرى في كل عاصمة عربية اشكال من فعاليات الاحتفال سواء على الصعيد الرسمي أم على الصعيد الشعبي وهذا الدور تتحمل مسئوليات الاضطلاع به بوجه خاص وزارات الثقافة والاعلام العربية فضلا عن وزارات التربية والتعليم وذلك بمختلف مجالات وأماكن هذا الاحتفال من مراكز ثقافية ومسارح وسينمات ومدارس وجامعات ومعارض كتب عن القدس وافلام وثائقية وتسجيلية ودرامية الخ وذلك على مدار سنة الاحتفالية ألا هي عام 2009 الموشك على البزوغ.
اما على الصعيد الشعبي العربي فإن الواجب الوطني والقومي يحتم على مؤسسات المجتمع المدني وكل القوى والاحزاب السياسية الوطنية المتعاطفة والمهمومة بالقضية الفلسطينية، ان تكون لها ايضا انشطتها وفعالياتها وبرامجها خلال عام 2009 عام القدس عاصمة للثقافة العربية من اجل توعية وحفز الأجيال الشابة بالقضية الفلسطينية وتعريفهم بعراقة القدس وتراثها الفلسطيني العربي ثقافيا وفنيا وعربيا وكذلك دعوة رموز وشخصيات فلسطينية ثقافية وابداعية وأدبية وفنية للمشاركة في هذه الفعاليات.
ومن الأهمية بمكان في هذا الصدد التنسيق والتعاون مع لجنة القدس عاصمة الثقافة العربية لعام 2009 والتي تترأسها الدكتورة فارسية شاهين، فيما يتعلق بالفعاليات والأنشطة التي تعتزم القوى السياسية العربية ومؤسسات المجتمع القيام بها خلال عام الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية. ولعل من المناسب ان تشمل هذه الاحتفالية التعريف بالجهود التي قام بها وسيقوم بها الفلسطينيون وعلى الأخص المقدسيون منهم للتحضير والقيام بتلك البرامج المنتظر تنظيمها. وعلى سبيل المثال أشار السفير عفيف صافية في حديثه لقناة روسيا اليوم الى انه كان بمدينة القدس الشرقية ثلاث دور سينمائية قبل احتلالها خلال حرب 1967 وهي كل من “سينما النزهة”، و”سينما القدس”، و”سينما الحمراء”، وقد اغلقت سلطات الاحتلال هذه الدور جميعها. لكن المقدسيين وبفضل ارادتهم وصمودهم من اجل تجديد مدينتهم وتحدي الاحتلال تمكنوا من تحويل “سينما النزهة” الى “مسرح الحكواتي” وأخيرا فقد تمكنوا من ترميم واعادة تجهيز دار سينما القدس لتكون مركزا ثقافيا مجهزا بأحدث التجهيزات وليكون المقر الرئيسي لاقامة برامج فعاليات الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية، ولعل من المناسب في هذا الصدد ان يسلط الاعلام العربي وعلى الأخص القنوات الفضائية فضلا عن الصحافة والمجلات الثقافية العربية على تلك الفعاليات المنتظرة داخل القدس اذا ما سارت الأمور على ما يرام من دون عراقيل اسرائيلية.
وأخيرا فانه على صعيد واجبنا الوطني والقومي رسميا وشعبيا فانه ينبغي ان يكون لمختلف وسائلنا الاعلامية الرسمية والشعبية والحزبية والمدنية والنقابية ادوارها الملموسة في التضامن مع اشقائنا الفلسطينيين في هذا الحدث الثقافي والسياسي الكبير العظيم الاهمية.
وأعتقد شخصيا انه مع تعيين الشيخة مي آل خليفة وزيرة للثقافة فانها تستطيع ان ترمي بثقلها لتفعيل قطاع الثقافة والتراث فضلا عن قطاع الاذاعة والتلفزيون للمساهمة التضامنية مع اخواننا الفلسطينيين في ذلك الحدث الثقافي الفلسطيني والعربي الكبير المنتظر.
وأعتقد انه بحكم الخبرة التي اكتسبتها الشيخة مي في تنظيم ربيع الثقافة في السنوات الماضية فمن الاجدر ان يكون ربيع الثقافة لهذا العام المقبل 2009 مخصصا للتضامن مع القدس عاصمة للثقافة العربية بحيث يمكن استضافة مثقفين ومبدعين وفنانين فلسطينيين وعرب من فنانين تشكيليين وموسيقيين ومغنين ومحاضرين بحيث يسخرون فعالياتهم جميعا وبالمشاركة مع اشقائهم المثقفين والمبدعين البحرينيين عن مدينة القدس.
وسيكون نجاح البحرين المأمول في ربيع الثقافة القادم المخصص للتضامن مع القدس كعاصمة للثقافة العربية بروفة ومقياسا حينما يأتي دور البحرين لاختيار المنامة أو المحرق عاصمة للثقافة العربية.

صحيفة اخبار الخليج
17 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

الاستيراد الفكري لدى زكريا إبراهيم (4 – 4)

يواصل برجسون تركيب المتضادات غير القابلة للاندماج الصراعي، فهناك التضاد بين الدماغ وبين الفكر، والتناقض اللاتركيبي بين اللغة المصورة واللغة المجردة، والتناقض بين المكان والزمان الخ..
فالمادةُ كالجبال والأنهار رغم أنها مادةٌ صماء أو سائلةٌ لا يمكن أن نفصلها عن الحياة، رغم أنهما مستويان متمايزان، من الوجود. فمن دون هذه المادة لم تتشكل الحياة.
والدماغُ هو مركزُ التفكير وغرفةُ القيادة للجسم والوعي ولكن العمليات النفسية – الفكرية لا تغدو عمليات بيولوجية محضةً بل تصيرُ بناءات نفسية وفكرية مستقلة نسبياً عن الوجود الجسمي رغم ان هذا هو أساسها المادي. ويقوم برجسون بإيجاد فجوةٍ مصطنعةٍ بين الوعي و(النفس) التي يعيد تشكيلها ميتافيزيقياً، بحيث تخرجُ عن مناطق الدماغ والوعي والشعور وتغدو منطقةً غيبية روحية محضة، كجزءٍ من رؤيته بإعادة إنتاج الصوفية بشكل حديث وأوروبي، ومقولة النفس الخارقة قوة ايديولوجية كبيرة في الفلسفات المثالية الذاتية المضادة للعقل.
كذلك هو يقيمُ تضاداً لا يقبل الجمعَ المركب بين الذات الإنسانية والبنية الاجتماعية :
(إذا أمعنا النظر في حياتنا النفسية، فإننا لابد من أن نجد أنفسنا بازاء تغير كيفي محض وديمومة مستمرة لا تعرف التجانس.. فالذات ليست حقيقة مكانية تقبل القياس، بل ديمومة محضة لا تمت بصلة إلى المكان والزمان اللذين تتحدث عنهما العلوم الطبيعية)، (ص60 ).
تلعب مفرداتُ الذات، والزمان، والمكان، والسيولة، دوراً مركزياً مهيمنا، حيث تغدو كلها تابعةً للذات المطلقة، التي هي بلا زمان ولا مكان موضوعيين، لأن الذاتَ الفرديةَ المسيطرة على كافةِ الأبنية الموضوعية، تلغي وجودَها داخل البنية الاجتماعية.
فهي ذاتٌ مجردة، سائلة، وتبرر سيولتها بالزمان المتدفق المتحرك، وكأن الزمانَ المتدفقَ المتحركَ بلا فواصل نوعية، وبلا تراكمات موضوعية، فهو مجردُ سيولةٍ.
إن الزمانَ والمكان باعتبارهما شكلين أو وجهين للمادة، يُـلغيان. والمادة الأكثر قصداً هنا هي المادة الاجتماعية، أي البنية الاجتماعية. فالزمان يجري خارج البُنى الاجتماعية، وكأنه متماثل فيها كلها، وكأن الزمان والمكان في العصر الإقطاعي مثلاً هما كذلك في الزمان والمكان الرأسماليين. إن الزمانَ الإقطاعي الراكد، البطيء، المتماثل، ليس هو الزمان في العصر الحديث، أي أن له هنا كثافته وسرعته، فليست السنة هي نفسها ولا اليوم، وكذلك فإن المكانَ لم يعد هو المكان، فالقرى النائية وأشكال السواحل والكثير من المواقع والمدن الصغيرة والطرق الضيقة والعربات لم تعد هي نفسها، وذلك ليس بشكلٍ مجردٍ ولكن من خلال البنية الاجتماعية التي تحولت وحولت الأشكالَ المرتبطة بها، أي بسبب تحول المادة.
ومن هنا لا نستطيع أن نفهمَ الذاتَ بشكلِ سيلٍ مجرد، أو حتى من خلال تدفق ملموس جزئي واسع، بل من خلال تكوناتها في البنية الاجتماعية، فزمان العامل المربوط بآلته، هو غير زمان المثقف الحر المنعزل في مكانه، غير زمان امرأة البيت، غير زمان امرأة العمل الخ.. إن للزمان تمظهراً موضوعياً يعود للبنية وتضاريسها الاجتماعية داخل الطبقات والفئات والأفراد والمراحل والدول والمناطق الخ.. فزمان ذات المثقف الحر في نيجيريا يختلف عن زمنه نظيره الفرنسي، لأن هناك زمانا موضوعيا بفرنسا وأوروبا، هو غير الزمان الموضوعي في افريقيا الخ.. ففرنسا تعيش زمان الرأسمالية المتقدمة في حين تعيش نيجيريا في نهاية العصر الوسيط وتبدأ الانتقال للعصر الحديث فهناك مسافة زمنية بعدة قرون.
إن الزمانَ كتدفقِ الثواني والدقائق، أي كزمانٍ مجرد مطلق، هو واحد، رغم أن الجغرافيا ذاتها ترفضه، فهو حتى في ساعاته مختلف، ولكن هناك أساسا موضوعيا عاما للنهار والليل والسنة للبشرية المعاصرة، وهو زمانٌ عالمي تاريخي متكونٌ حديثاً الخ، ولكن بشكلٍ مجرد عام نظراً لعدم توحد البُنى الاجتماعية بشريا، ولهذا يغدو الزمان تابعاً للتضاريس الاجتماعية المتنوعة في كل مكان.
وهذا مثال آخر للتناقض غير الجدلي وهو هنا بين موضوعية الظاهرات وديمومتها، فبرجسون يتصور بأن ثمة تناقضاً بين موضوعية الظاهرات واستمرارها، معتقداً أن هذا يمثل ثباتاً في الوجود وانتهاءً له، في حين ان الثبات في هذه الظاهرات هو ثبات نسبي، كتكرر الفصول، فالفصول تتكرر على مدى الحقب، ولكن ذلك لا يعني أن الطبيعة جامدة، ومن دون وجود تكرارية لهذه الفصول ومعرفتي بها تستحيل الزراعة والإبحار والوجود البشري العملي المتنوع ويتحول الزمان إلى فوضى.
إن كل الركائز الُمطاح بها في الفلسفة البرجسونية تقام مكانها ركائز ذاتية، فثمة (قوة حيوية) هي التي تخترق المادة وتحفر فيها مجرى، وهذه القوة القادمة من السماء تشكل هذه الديمومة التي تجعل الزمان والمكان في سيل متدفق واحد، فتضع داخل المادة حياة، فالحياة النباتية والحيوانية ليست ذات قوانين موضوعية لهذه المادة بل هي نتاج الفيض السماوي ذاك، والذي اتخذ اسم القوة الحيوية، ومن هنا فهذه الحياة السحرية الغامرة تندفع لتكّون الأحياء والمجتمعات والبشر حسب تدفقها الذي يحدده برجسون.
ومن هنا توجد عقيدةٌ منغلقة وعقيدة منفتحة. فالمجتمع البدائي يشكله فردٌ وكأنه المجتمع الفرنسي المعاصر، وهذا الفرد تتحكم به غريزة الحياة، وهي الشكل البشري المتجسد للقوة الحيوية السماوية السحرية عند برجسون، (وهكذا يندفعُ الفردُ إلى قهر الأنا الفردية التي قد تحفزه إلى إيثار مصلحته الذاتية على مصلحة الغير، خاضعاً في ذلك لغريزة الحياة التي تكمن وراء كل نظام اجتماعي )، ص .121
إن قوانينَ المجتمع البدائي وقوانينَ الحياة القبلية المدروسة من قبل العلماء كلها يطيحُ بها برجسون ليؤكد ان غريزة الحياة هي التي تشكل الظاهرات الاجتماعية، وكأن هذه الغريزة جوهر غيبي فوق الظروف. وتتويج مثل هذا الوعي يقود إلى: (وليست الحرب ظاهرة ضرورية لصيانة المِلكية الجمعية، بل إن كل ما يجيءُ معها من قتل وسلب ونهب وكذب وخداع وتضليل هي كلها ظواهر مشروعة تقرها الجماعة وتثيب عليها)!!!
وكل التضاريس التي يبتكرها للمجتمعات المغلقة المجتمعات المفتوحة، وللعقائد المنغلقة والعقائد المفتوحة، كلها تقوم على هذا الإسقاط الايديولوجي المسطح لغريزة الحياة وفيضها الإلهي البرجسوني، لتتّوج في المسيحية المحافظة، وهي المسيحية التي أُنتزعت تضاريسها النضالية، فهي أيضاً ايديولوجية مُسقطة على المسيحية الحقيقية، مسيحية النضال في زمن العبودية لتتحول إلى مسيحية الحب الخادع المخفي للصراع الاجتماعي على المستوى القومي الفرنسي وعلى المستوى العالمي.

صحيفة اخبار الخليج
17 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

كتب للمرأة‮.. ‬كتب للرجل‮!‬

من الممكن،‮ ‬أو حتى من السهل أن نصنف الكتب حسب تخصصاتها والحقول التي‮ ‬تتناولها،‮ ‬وأحيانا حتى من طبيعة الفئات القارئة التي‮ ‬توجه إليها هذه الكتب تبعا للمرحلة العمرية أو التخصصات أو الاهتمامات‮.‬ ‮ ‬فالكتاب الموجه للطفل،‮ ‬شكلاً‮ ‬ولغةً‮ ‬وموضوعاً،‮ ‬هو بالتأكيد‮ ‬غير ذلك الكتاب الموجه للكبار،‮ ‬وما‮ ‬يهتم به الطبيب أو المهندس من كتب قد‮ ‬يختلف جذريا عن تلك الكتب التي‮ ‬يهتم بها رجل المسرح أو السينما‮.. ‬الخ‮.‬ ‮ ‬دون أن ننسى أن الكثير من الأطباء والمهندسين قد‮ ‬يكونون أيضا مهتمين بالمسرح أو التشكيل أو الرواية،‮ ‬بل قد‮ ‬يكونون كتابا أو فنانين تشكيليين،‮ ‬والأمثلة هنا أكثر من أن تحصى‮.‬ ولكن هل‮ ‬يمكن تصنيف القراء حسب الجنس،‮ ‬وبالتالي‮ ‬تقسيم الكتب إلى نوعين‮: ‬كتب نسائية بمعنى أنها موجهة للنساء فقط،‮ ‬وكتب رجالية بمعنى أنها موجهة للرجال فقط؟‮!‬ قد‮ ‬يبدو السؤال‮ ‬غريباً،‮ ‬لأن الانطباع السائد أن الجنسين‮ ‬يقرؤون الكتب ذاتها،‮ ‬ويتعلمون في‮ ‬المدارس والجامعات في‮ ‬المقررات نفسها التي‮ ‬تجعلهم نتاج تنشئة تعليمية واحدة،‮ ‬ولكن التجارب تدل على أن هناك استجابات مختلفة لدى كل من الرجال والنساء‮ – ‬كل على حدة‮ – ‬للقراءة،‮ ‬وميول مختلفة في‮ ‬اختيار ما هو مناسب للقراءة‮ .‬ نقول هذا بصرف النظر عن القناعة العميقة السائدة،‮ ‬وهي‮ ‬قناعة هناك ما‮ ‬يبررها وحتى‮ ‬يؤكدها،‮ ‬من أن النساء بطبعهن لا‮ ‬يملن إلى قراءة الكتب والمقالات ذات المضامين السياسية،‮ ‬على خلاف الرجال الذين‮ ‬يبدون أكثر استجابة لهذا النوع من الكتب والمقالات‮.‬ في‮ ‬كتابه‮:»‬أخلاقيات القراءة‮« ‬يدعو جي‮ ‬ميلر إلى تمييز صارم بين الجنسين حين نتوجه إليهما بالكتابة،‮ ‬وينبني‮ ‬هذا التمييز على ما‮ ‬يصفه بـ‮ »‬سحر الحشمة للنساء،‮ ‬والحقيقة للرجال‮«. ‬ وهو‮ ‬ينقل عن كتاب‮ » ‬السيرة الذاتية‮ « ‬لترولوب مقتطفاً،‮ ‬يشير فيه إلى انه ليست هناك فتاة رفعت رأسها من قراءة رواياته وهي‮ ‬أقل حشمة مما كانت،‮ ‬وربما‮ ‬يكون بعضهن قد تعلمن من الصفحات أن الحشمة سحر‮ ‬يستحق أن‮ ‬يُصان،‮ ‬وان ليس ثمة من شاب قد تعلم انه سيجد في‮ ‬الكذب والبهرجة الطريق نحو الرجولة‮.‬ قد لا‮ ‬يفسر هذا كفايةً‮ ‬أن هناك أدباء وكُتاباً‮ ‬تكرسوا بوصفهم كتابا للنساء أكثر من كونهم كُتابا للرجال،‮ ‬حتى لو كانوا مقروئين من جمهور رجالي‮ ‬أيضا،‮ ‬وهذا ما‮ ‬يفسر لنا ظاهرة حية كظاهرة الشاعر الراحل نزار قباني‮ ‬الذي‮ ‬لم تفلح كل أشعاره التي‮ ‬تناولت الشأن السياسي‮ ‬في‮ ‬تغيير الصورة التي‮ ‬تكرست عنه بوصفه شاعرا للمرأة‮.‬ كقاعدة،‮ ‬والقاعدة تنطوي‮ ‬دائما على استثناءات مهمة،‮ ‬فان الرجل أميل إلى التراكيب الذهنية التي‮ ‬تبدو أقرب إلى ما‮ ‬يدعى المنطق أو الواقعية،‮ ‬أما المرأة فهي‮ ‬أميل إلى ما‮ ‬يمليه الوجدان،‮ ‬وبتعبير جبران خليل جبران فان لها عقلا خاصا بها نسميه الحدس‮.‬ وإذا صحت هذه القاعدة،‮ ‬فإنها قد تفسر لماذا‮ ‬يتحمل الرجل صرامة الكتابة الذهنية،‮ ‬وتفضل المرأة الكتابة الوجدانية النابعة من الروح‮.‬
 
صحيفة الايام
17 ديسمبر 2008
 

اقرأ المزيد

من يعوق انضمام روسيا لأوبك؟

قبل عشر سنوات، ضربت العالم أزمة مالية وانخفض سعر برميل النفط إلى مستوى 10 د/ب. حينها حاولت أوبك جاهدة لقاء القيادة الروسية. أما في أكتوبر/تشرين الاول هذا العام فلم تحتج أوبك إلى كبير جهد كي يستقبل الرئيس الروسي دمتري مدفيديف الأمين العام لأوبك عبد الله سالم البدري.
أصبح الطرفان مقتنعين بأنهما في سفينة واحدة وأن برامجهما الاقتصادية والاجتماعية تعتمدان إلى درجة كبيرة على مستويات أسعار النفط في السوق العالمية. ولسخرية القدر تقع أسعار هذه السلعة الحيوية خارج نطاق سيطرتهما. وبذلك فقد ظل ليس النفط فقط، بل ومسألة التطور الاقتصادي الاجتماعي في هذه البلدان رهن الدول المستهلكة وتلاعب المضاربين. فالفقاعة التي في سوق المال كررت نفسها في أسوق النفط أيضا. حجم سوق النفط فاق عشرين مرة حجم مبيعات النفط الفعلية. وحين كان المضاربون يتاجرون ‘في الهواء’ كانوا يعمدون إلى رفع الأسعار أو الهبوط بها إلى الحضيض متلاعبين بمصائر البلدان المصدرة والاقتصاد العالمي. أما الآن فإذا كانت الأزمة المالية الاقتصادية تتسبب في انخفاض أسعار النفط لأن العالم يريد حل مشكلاته على حساب الدول المصدرة له، فإن هذا الانخفاض سيتسبب بدوره في كارثة مستقبلية هي الأخرى أكثر خطرا. إن إنتاج حقول بحري الشمال والكاريبي وفي ألاسكا وغرب سيبيريا يتناقص طبيعيا بمعدل 6.5 إلى 9% سنويا. والتعويض عن ذلك ممكن فقط في مناطق النفط الصعبة في كندا، فنزويلا وروسيا. هناك الاحتياطات هائلة لكن العمل عليها يحتاج إلى توظيف أموال هائلة أيضا[1]. في نشرتها لشهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي أشارت (جمعية كمبريدج لأبحاث الطاقة – (Cambridge Energy Research Association إلى أن التنقيب في الأماكن الصعبة مجد فقط عند سعر برميل WTI 71 دولارا بالنسبة للخامات الثقيلة في أنجولا و 114 د/ب في فنزويلا. وأنه إذا بقي سعر 75 د/ب فسينخفض عرض النفط بعد خمس سنوات بمقدار 250 مليون طن سنويا، أي بنحو 9% من الإنتاج العالمي. أي أنه لن يلبي الطلب العالمي حتما، وسيهيئ لفقاعة كارثية جديدة في الاقتصاد العالمي. وهكذا فإن ما يدور بين روسيا و’أوبك’ حول مسائل التنسيق وصولا إلى عضويتها في الكارتل لا يعد من صلب المصالح الحيوية للطرفين، بل وموقفا مسؤولا من جانبهما تجاه الاقتصاد العالمي. غير أن روسيا لا تزال غير موحدة بشأن علاقاتها بأوبك. فمصالح ممثلي القطاع العام والخاص في الصناعة النفطية الروسية متعارضة بشأن هذه الخطوة. ومع كل منها تتقاطع أو تتباعد مصالح ومواقف ممثلي المؤسسات المالية وكذلك أعضاء البرلمان.
في لقائه التشاوري بشأن قضايا التطور الاقتصادي الاجتماعي في الأورال قال الرئيس الروسي دمتري مدفيديف في 12 ديسمبر/كانون الأول إن ‘روسيا يمكن أن تصبح عضوا في أوبك وتخفض إنتاج النفط بهدف وقف تدهور أسعاره في الأسواق العالمية..’ مضيفا ‘بلادنا يمكن أن تقدم على خفض الإنتاج، وكذلك على الانضمام إلى منظمات المنتجين الموجودة أو الجديدة – فهذه مصالحنا الوطنية، وسنعمل وفق ما هو مناسب[2]’.
دينيس بوريسوف، محلل مؤسسة ‘سوليد’ الروسية رد بأن التزامات روسيا عبر عضويتها لأوبك يمكن أن تتناقض مع مصالحها السياسية والجيوسياسية. ولهذا فإن التكامل والتعاون اللاحق بين الطرفين يمكن أن يتطورا تدريجيا، لكن ليس إلى العضوية الكاملة[3]’. نائب رئيس شركة النفط ‘ت.ن.ك – بي بي’ الروسية البريطانية جوناتان كولليك عبر للصحافيين عن عدم قناعته بجدوى انضمام روسيا لأوبك. ‘إنها فكرة غير منطقية وغير مجدية من وجهة النظر الاقتصادية[4]’. نائب رئيس لجنة السياسة الاقتصادية ومجال الأعمال والملكية لدى المجلس الفيدرالي الروسي فلاديمير غوسيف يعتقد بعدم جدوى الانضمام، مؤكدا على أن روسيا ذات 10% من الإنتاج العالمي تحتاج إلى سياستها المستقلة كدولة كبرى[5]. أما سيرغي إيفانوف، رئيس لجنة التفاعل مع ديوان المحاسبة في المجلس الفيدرالي يرى بأن ‘ننشئ أوبكنا الخاص’. وهو يرى شركاء روسيا في جيرانها في الشرق بمن فيهم الصين واليابان[6]. وكثيرون آخرون في غرفتي البرلمان يتخذون ذات الموقف المعارض. بعكس ذلك وقف آخرون كأناتولي أكساكوف، عضو لجنة السوق في الدوما ورئيس كتلة ‘روسيا العدالة الذي قال بأهمية الانضمام لأوبك. كما رأى ضرورة خفض الإنتاج حاليا. كذلك تقابلت مواقف ممثلي المؤسسات المالية. فرئيس قسم تحاليل السوق في مصرف سوبمين بنك ألكسندر رازوفايف يرى احتمال انضمام روسيا لأوبك كبيرا جدا. ويرى أن من الإمكانات التي سيفتحها هذا الانضمام إمكان اعتماد عملة أخرى في حسابات النفط العالمية، خصوصا مع بقاء مصير الدولار معلقا على شعرة. وعند هذا فإن الوزن العسكري السياسي لروسيا سيمكنها من لعب دور العازف الأول في كارتلات المواد الخام. وبعكسه يرى آدم سيمينسكي، المحلل الأول في شؤون الطاقة لمصرف (دويتشه بنك – Deutsche Bank) الألماني بأنه حتى مجرد خفض جديد في إنتاج النفط لن ينقذ أسعاره من الاستمرار في الهبوط[7].
نلاحظ من نماذج المواقف تلك أن الجهات الأشد ميلا لمعارضة انضمام روسيا لأوبك هي الممثلة لمصالح شركات النفط والمال الأجنبية أو الشخصيات المحلية المرتبطة بها في الغالب، بينما التي تدعم ذلك بقوة هي المرتبطة بالدولة أو تلك الحريصة على الحفاظ على قدرات الدولة وتحمل هم القضايا الاجتماعية لغالبية الناس.
البلدان الأعضاء في أوبك أقل تعرضا لتنازع المصالح داخليا. فبخلاف روسيا التي خصخصت معظم شركات النفط مع بقاء عملاقين قويين تابعين للدولة هما ‘غازبروم’ و’روسنيفت’، فإن قطاع النفط في بلدان أوبك يخضع لملكية الدولة في الغالب.
معرفة المواقف الروسية المتعارضة مفيد ليس من أجل التحرك الدبلوماسي من قبل أوبك تجاه مراكز القوى في روسيا فحسب، بل وللعض بالنواجذ على قطاع النفط كي لا يحل قانون شبيه بقانون النفط الجديد في العراق.

[1] انظر: صحيفة ‘فيديموستي’ الروسية، 17 نوفمبر/تشرين الثاني .2008
[2] راجع الوصلة: http://evrazia.org/news/6544 في 12 ديسمبر/كانون الأول .2008
[3] راجع الوصلة: http://www.oilcapital.ru/news/2008/12/121355_133546.shtml
[4] انظر: http://www.rian.ru/economy/20081208/156776590.html
[5]، [6]: http://www.regions.ru/news/2183480/print/
[7] لمزيد من الاطلاع راجع: http://www.quote.ru/stocks/news/2008/12/12/32241142.shtml
 
صحيفة الوقت
15 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

روسيا ورحيل اليكسي الثاني

بوجه من الوجوه يمكن تشبيه الدور الديني والوطني والحضاري الذي لعبته الكنيسة الارثوذكسية في تاريخ روسيا وحياة الروس ماضيا وحاضرا بالدور الذي لعبه الاسلام دينيا وسياسيا وحضاريا ووطنيا في تاريخ العرب والمسلمين ماضيا وحاضرا، لكن الكنيسة الارثوذكسية، كسائر الاديان الاخرى في الاتحاد السوفييتي السابق واجهت تهميشا وتضييقا لم يسبق له مثيل على امتداد تاريخها وذلك في ظل نظام الحكم الاشتراكي الشمولي السابق الذي كان متطرفا تطرفا علمانيا إلحاديا في تعامله مع الأديان على امتداد ثلاثة ارباع القرن من الحقبة السوفييتية وهذه واحدة من الاخطاء الكبرى القاتلة التي وقع فيها النظام السوفييتي السابق وأفضت الى جانب عوامل رئيسية اخرى، موضوعية وذاتية، الى انهياره في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وهو الخطأ ذاته الذي ارتكبه ايضا اليسار العربي وأدى الى تضعضع قوته. وكان الحزب الشيوعي الروسي الذي أعيد بناؤه تنظيميا داخل روسيا على انقاض الحزب الشيوعي السوفييتي قد اعترف بهذا الخطأ القاتل الذي وقع فيه الحزب الشيوعي السوفييتي السابق، في مراجعة له اعاد الاعتبار لدور ومكانة الكنيسة الارثوذكسية في حياة الشعب الروسي. وفي هذا الصدد يعترف زعيم الحزب الشيوعي الروسي الجديد جينادي زوجانوف «ان الكنيسة الارثوذكسية تقوم بدور كبير لاشاعة السلم، وهي برهنت خلال تاريخ الدولة الروسية على التأثير الذي يمكن ان تمارسه على التوحيد الروحي«. ويضيف: انه «لولا دور الكنيسة الارثوذكسية في اشاعة الاخلاق السامية لكان من المستحيل ان يتحمل شعبيا ويصمد في مواجهات التحديات التاريخية والغزوات التي تعرضت لها روسيا بما في ذلك دورها حتى خلال الحرب العالمية الثانية في الدفاع عن روسيا في وجه الغزاة النازيين«. وأكد زوجانوف ان الارثوذكسية هي مصدر توحد الروس ومصدر وطنيتهم وشعورهم بجبروت دولتهم واعطاء حتى فكرهم الاشتراكي خصوصيته والأهم من ذلك فان زوجانوف قيم عاليا مواقف ودور بطريرك موسكو وعموم روسيا اليكسي الثاني الذي غيبه الموت مؤخرا في رؤيته الانسانية المواطنية لكل الروس على اختلاف دياناتهم وافكارهم وتياراتهم وبضمنهم الشيوعيون. وبهذا المعنى يمكن القول ان رحيل البطريرك اليكسي الثاني شكل خسارة سياسية ودينية واجتماعية لروسيا برمتها بل لأتباع ديانات العالم الكبرى باعتباره واحدا من ابرز الزعامات الدينية الداعية للحوار مع الاديان وتغليب القواسم الثقافية والدينية والاخلاقية فيما بينها. لقد تسلم اليكسي الثاني بطريركية موسكو وعموم روسيا بعد انتخابه في محطة تاريخية حساسة فاصلة من اصعب المحطات التاريخية المعاصرة التي مرت بها البلاد، وكان ذلك بالضبط عشية انهيار النظام السوفييتي السابق في مطلع العقد الاخير من القرن الماضي، حيث وقع عليه العبء الاساسي لاعادة بناء المؤسسة الكنسية الارثوذكسية الروسية بعدما واجهته من تهميش كبير من قبل السلطات الشيوعية على امتداد سبعة عقود ونيف. ولعل مما ساعده على القيام بهذه المهمة نزوع قطاع كبير من الشعب الروسي للرجوع إلى الدين بعد احباطهم من اخفاقات النظام السوفييتي السابق الذي اعتراه الوهن ونخره الفساد فكان انهياره المحتوم، واستغلت القوى الجديدة الصاعدة التي ورثت السلطة عن النظام المنهار ذلك لقطع الطريق نهائيا على اي احتمال لاستعادة الشيوعيين السلطة في البلاد بإلقاء ثقلها الى جانب اليكسي الثاني، وهو بدوره استغل هذا الدعم لاستعادة كل ممتلكات الكنيسة التي صودرت في الحقبة الشيوعية السوفييتية. وتمكن بطريرك روسيا الراحل في سنوات قليلة من رد الاعتبار لمكانة الكنيسة الارثوذكسية كواحدة من اكبر مراكز النفوذ والتأثير الاجتماعي على صناع القرار السياسي في روسيا، وهو ما اخذه الكرملين بعين الحسبان، وبخاصة عند المنعطفات الصعبة، ومنها ما حدث عام 1993 غداة قصف الجيش للبرلمان المعارض للرئيس الراحل يلتسين حيث كادت البلاد ان تستدرج الى حرب اهلية تأكل الأخضر واليابس. وتمكن الفقيد اليكسي الثاني من توحيد الكنيسة الارثوذكسية بين كنيسة الداخل وكنيسة المهجر، وجرى اعمار وترميم آلاف الكنائس، ومئات الأديرة المهملة في العصر السوفييتي وفتح اكثر من مائة معهد ديني، وساهم بطريرك موسكو وعموم روسيا الراحل في حل الخلافات والانقسامات الكنسية المترتبة على تفكك الاتحاد السوفيتي، ولاسيما في الجمهوريات السلافية التي حرضت مؤسساتها الكنسية الارثوذكسية على الانشقاق عن الكنيسة الأم في موسكو وعموم روسيا. وعرف عن اليكسي الثاني دوره الكبير كوسيط فاعل في حل النزاعات الاقليمية في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، ومنها النزاع بين ارمينيا وأذربيجان على منطقة «ناجورني كارباخ«، وكذلك النزاعات الاخرى في البلقان. وهو كان من اشد المعارضين لقرار الولايات المتحدة وبريطانيا بشن حرب على العراق، ومن المؤيدين بقوة لقيام دولة فلسطينية وتحقيق تسوية عادلة تقوم على سلام شامل في المنطقة. ووقف بطريرك موسكو وعموم روسيا اليكسي الثاني منافحا بقوة في مواجهة محاولات التغلغل الديني للكنيسة الكاثوليكية في بلاده مستغلة تداعيات فوضى الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي السابق. لقد شكل رحيل هذا الزعيم الروحي الروسي خسارة فادحة كبرى لروسيا ولكل الداعين إلى التسامح والتعايش الروحي الاخوي بين اتباع الديانات، وهي خسارة أجمع عليها رموز وشخصيات دينية وسياسية مختلفة في بلدان عديدة من العالم. وكان من بين هؤلاء الشيخ محمد علي تسخيري رئيس مجمع التقريب بين المذاهب الاسلامية الذي أثنى على مناقبية الراحل وحبه لكل اتباع الديانات ونظرته الانسانية التي تتجاوز روسيا واهتمامه الكبير بتطوير الحوار بين الأديان، واعتبر تسخيري وفاته خسارة تخلف فراغا يصعب ملؤه. ومع ان مدير المكتب الصحفي في بطريركية موسكو فلاديمير فيغيلياني رفض الحديث عمن سيخلف الراحل لأن ذلك، على حد تعبيره، لا يجوز أخلاقيا ودينيا الحديث او التنازع على من يخلفه وهو لم يوار الثرى بعد، إلا ان كل التوقعات تشير الى ان كلا من المطران كيريل مطران سمولينينينسك وكالينيجراد الذي رأس لجنة التحضيرات لجنازة وتشييع الفقيد وانتخب رئيسا مؤقتا للكنيسة الارثوذكسية الروسية، والمطران كليمنت (مطران كالوغا) هما اقوى المرشحين لانتخاب خلفه. لكن يظل السؤال: هل يستطيع اي منهما حقا اذا ما فاز بكرسي بطريركية موسكو وعموم روسيا ان يلعب نفس الدور الكبير الذي لعبه الفقيد الراحل اليكسي الثاني؟!

صحيفة اخبار الخليج
15 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

الاستيراد الفكري لدى زكريا إبراهيم (2)

يقول المؤلفُ عن كتيب لبرجسون أثناء الحرب العالمية الأولى: (وفي هذا الكتيب الصغير يتساءل برجسون عن مصير الإنسانية ومعنى التقدم، ويعربُ عن ثقته في انتصار القيم الروحية والقوى الأخلاقية والمثل العليا (مُثــُل العدالة والحق والحرية)، ضد قوى الشر والانحلال، ودعاة الآلية والمادية وأنصار البغي والعدوان)! (السابق ص 28 – 29). تتوجه فلسفةُ برجسون كما يعرض الباحثُ إلى تغيير في طابعِ الفلسفة (المثالية) وهو لا يقول لنا عن هذا التغيير ولكن نحن نستشفه، يقول برجسون: (.. إذا أردنا للميتافيزيقا أن تكون مظهراً جدياً من مظاهر نشاطنا العقلي، فلابد لنا أن ندير ظهورنا لذلك (العقل التصوري)… والواقع أنه لا سبيل إلى تحصل معرفة ميتافيزيقية حقيقية إلا بالعدول عن التصورات والالتجاء إلى «الحدس«)، السابق ص .34 فبرجسون لم يرفض فقط الفلسفات الآلية والمادية بل أيضاً الفلسفات المثالية السائدة، فهو لا يريد إنشاءَ أبنيةٍ فكرية مثالية ذات تصورات موضوعية على طريقة هيجل أو حتى كانط، بل يريدُ جعلَ (الحدس) أداةً منهجية شاملة، وهنا يغدو الحدسُ ليس لحظةً في بناء عقلي متراكم عبر التحليل في مادة الطبيعة أو المجتمع، بل أن يغدو هو البناء نفسه، مما يؤدي إلى الإطاحةِ بمجملِ عناصر المنهج الأخرى. أي لابد هنا من إيجاد مقولات تقومُ ببناء تصور عن الأشياء الكبرى كما فعلت الفلسفاتُ المثالية الموضوعية، التي لا تستعين بالحدس وحده بل بالمقولات وبالبراهين والتحليلات التي يأتي الحدسُ فيها كأداة جزئية، في حين انه عندما يتحول هذا الموتيف الجزئي إلى كلِ اللوحة، فلن يغدو هناك بناءٌ منطقي معقلن بغضِ النظر عن كيفية نمو هذا البناء، في جهة الطبيعة أم في جهة الخالق، أم جهة الإنسان، أم كل هذه الجهات. حين تتضخمُ أداةٌ منهجيةٌ معينة لتبتلعَ كلَ الأدوات المنهجية فلابد أن ثمة مشكلةً اجتماعية فكرية كبرى. ويشرح الباحثُ هذا الحدسَ قائلاً: (إذ المعرفة الحدسية هي في جوهرها معرفة مباشرة فيها تمزق حُجب الألفاظ وشباك الرموز، لكي نغوص في طيات الواقع ونمضي مباشرة إلى باطن الحقيقة)، ( ص 35). تبدأ سلسلةُ التناقضات المطلقة الأولى بالظهور هنا، فالحدسُ يغدو معرفة بلا وسائط، فبرجسون يشكلُ تناقضاً بين الحدس وبقية الأدوات المعرفية، وفي هذا خطورة كبيرة على الوعي للوصول إلى الحقيقة، فالحدس شكلٌ مغامر من المعرفة، ظرفي، وتلقائي، وذاتي، ووامض، لكنه يغدو هنا هو كل أدوات المعرفة. هناك تناقضٌ آخر بين تجليات الحقيقة وجوهرها، فالجوهر يغدو صافياً منغلقاً على ذاته، في حين ان أشكالَ وظاهرات الحقيقة تغدو زائفة. والتناقضُ بين الشكل والمضمون هنا تناقضٌ كلي، وهو التناقض بين البراني والجواني، بين الخارج والداخل، بين الظاهرة والماهية. فيبدو أن الأشياءَ تمتلكُ بعدين متضادين غير قابلين للجمع الجدلي، مما يحليها إلى ظاهر وباطن، وواقع زائف وواقع حقيقي. وهذه التعبيرات لاحظناها بوفرة لدى المثاليين العرب المغالين والصوفيين خاصةً، أي أولئك الذين طرحوا وجود باطن للقرآن أو باطن للحقيقة هو غير ظاهرها. وبالتالي فإن الوعي (الحقيقي) يتجاوزُ الظاهرَ، ولابد أن أداتهِ المعرفيةَ (متفوقة)، أي نخبوية لم توهب إلا لمن يمتلك حدساً ورؤيا. إن برجسون هو باطني بمعنى معاصر! أي أن الحدسَ هنا لا يحددُ طبيعةَ الحقيقةِ المصطفاة، بل يحددُ أيضاً المتوجهين إليها ذوي الأداة الخاصة المصطفاة هي الأخرى. فالحقيقةُ ليست في ظاهرها الشعبي الذي يمكن للعقل العادي الوصول إليه عبر التحليل والبراهين بل تتطلب عقلاً غير عادي، وحدسي، وإلهامي، وصوفي. إن الأشكال الخارجية للحقيقة وهمية لكن هناك الباطن جوهر الظاهر الذي يمكن الوصول إليه كما يقول صوفيونا القدامى عبر نزع الملابس البرانية للعقل وللأشياء معاً. يوضح الباحث هذه المعرفة بالصورة التالية: (ومعنى هذا أن معرفة أي شيء من «الباطن« هي بالضرورة معرفة بسيطة تنصبُ على هذا الشيء باعتباره «مطلقاً«، بينما معرفة الشيء «من الخارج« هي معرفة نسبية قوامها التحليل والتجزئة، فهي بالضرورة معرفة تقريبية لا يمكن أن تستغني عن الرموز)، (ص40). نجد ان قوالب: الباطن – المعرفة البسيطة – المطلق – الداخل، تتضافر في شكل معرفي واحد هو الشكل الصوفي الذي يدخلُ في معرفةِ المطلق، سواء أكان حقيقةً كلية أم إلهاً، بدفعةٍ واحدة وبقفزة شعورية غير تحليلية، وهذا القالبُ يتناقضُ مع القالب الآخر، قالب المعرفة من الخارج: التحليلي، والتجزيئي، والتقريبي، وذي الأدوات المنهجية العلمية.

صحيفة اخبار الخليج
15 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

الفصل المطلوب

منذ مطالع التسعينات الماضية وموضوعة الديمقراطية وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني،‮ ‬وتأمين استقلال الجمعيات الأهلية عن وصاية الحكومات تأخذ حيزاً‮ ‬لا سابق له من الاهتمام‮. ‬وأُعيد النظر في‮ ‬الكثير من الأطروحات التي‮ ‬كانت تضع الديمقراطية السياسية في‮ ‬مرتبة تالية أو ثانوية بحجة أن المهم هو مواجهة إسرائيل أو تأميل لقمة العيش للناس،‮ ‬أي‮ ‬جرى النظر للديمقراطية بوصفها ترفاً‮ ‬أو أمراً‮ ‬أشبه بالكماليات،‮ ‬والكماليات‮ ‬يمكن تأجيلها طالما الأهم هو توفير الضروريات‮.  ‬ الجديد في‮ ‬هذا الموضوع هو تحول العديد من الناشطين السياسيين العرب إلى تبني‮ ‬أطروحة الديمقراطية وحقوق الإنسان بعد أن تعرضت المشاريع الفكرية والسياسية التي‮ ‬يتبنونها للإخفاق أو التراجع،‮ ‬وكثيراً‮ ‬ما جرى اختزال تلك المشاريع المركبة من عدة جوانب إلى أطروحة وحيدة‮ ‬يتيمة هي‮ ‬مسألة حقوق الإنسان‮.‬ ولسنا في‮ ‬صدد تقويم هذا النوع من التحول،‮ ‬لكن التحول الاجتماعي‮  ‬السياسي‮ ‬في‮ ‬البلدان العربية هو مسألة معقدة ومتداخلة تتشكل من عدة عناصر،‮ ‬وليس من شك أن الديمقراطية السياسية هي‮ ‬أحد وجوه أو عناصر هذه المسألة،‮ ‬لكنها بالتأكيد ليست الوحيدة،‮ ‬وهي‮ ‬إن لم ترد في‮ ‬سياق تصور أشمل عن مستقبل هذه البلدان فلن تكتسب صفة المشروع،‮ ‬وستظل أشبه بالشعار المعلق في‮ ‬الهواء‮. ‬نقول ذلك دون أدنى تقليل من وزن وقيمة هذه الديمقراطية بوصفها أحد مداخل أو مفاتيح التحول المنشود‮.‬ هذا الاهتمام بالمسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان جلب معه قضية التمويل الخارجي‮ ‬للجمعيات والمؤسسات الناشطة في‮ ‬هذا المجال‮. ‬ثمة اهتمام دولي‮ ‬ترافق مع سقوط الأنظمة الشمولية في‮ ‬العديد من مناطق العالم بموضوعة حقوق الإنسان‮. ‬وأخذ هذا الاهتمام شكل تقديم الدعم المالي‮ ‬المباشر من قبل حكومات‮ ‬غربية أو هيئات تابعة للحكومات أو شبه حكومية‮.‬ ويقال أن جزءاً‮ ‬من هذه المبالغ‮ ‬كان مخصصاً‮ ‬لمحاربة الشيوعية فترة الحرب الباردة،‮ ‬واشتداد حمى الصراع الأيديولوجي‮ ‬بين المعسكرين المتضادين،‮ ‬فلما انهار الاتحاد السوفيتي‮ ‬جرى تحويل هذه المخصصات للهيئات التي‮ ‬طرحت موضوع حقق الإنسان،‮ ‬لكن مسألة التمويل الخارجي‮ ‬فضلاً‮ ‬عن الشبهة التي‮ ‬تثيرها حول نشاط هذه الهيئات جرَت معها تعقيدات إضافية أخرى‮.  ‬فالدول المانحة للتمويل لها أجندة خاصة بها تجاه مستقبل بلداننا،‮ ‬وهي‮ ‬حتى وإن تبنت موضوعة حقوق الإنسان فليس بالضرورة لدوافع خيرة‮.‬ والدليل على ذلك ان هذه الدول‮ ‬يمكن أن تغض الطرف عن انتهاكات جدية لحقوق الإنسان من قبل حكومات حليفة منساقة لها كلية،‮ ‬وتصعد في‮ ‬الخطاب ضد الحكومات التي‮ ‬تبدي‮ ‬ممانعات من نوعٍ‮ ‬ما تجاه هذه المسألة أو تلك‮. ‬ثم أن هذه المعونات سمحت بنشوء بعض المستفيدين والمنتفعين والمتسلقين‮.‬ هل‮ ‬يمكن الفصل بين مسألة حقوق الإنسان والتمويل الخارجي؟ نقول‮: ‬نعم‮ ‬يمكن الفصل لأنهما قضيتان مختلفتان،‮ ‬وربما متناقضتان‮.  ‬الديمقراطية وحقوق الإنسان في‮ ‬العالم العربي‮ ‬قضية أصيلة،‮ ‬وبحاجة لمعالجة من داخل هذه البلدان ومن قبل شعوبها،‮ ‬أما التمويل الخارجي‮ ‬فلا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون بريئاً‮ ‬ونزيهاً‮ ‬طالما كان‮ ‬يأتي‮ ‬من جهات خارجية،‮ ‬حكومية أو شبه حكومية،‮ ‬لها أجنداتها الخاصة بها‮.‬
 
صحيفة الايام
15 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

هارموني‮.. ‬موسيقى الغرفة وتجليات اللون

رغم قسوة وصلابة المصنع وزمجرة آلاته وفحيحها المتواصل،‮ ‬إلا أن الفنان الرقيق كأوتار الكمان أصغر إسماعيل ظل مكتنزاً‮ ‬بكل ما هو نقيض ومعاكس لمولدات هذا المصنع الغليظة،‮ ‬الأمر الذي‮ ‬هيأه لأن‮ ‬يكون منتجاً‮ ‬لها وفق هذه الرقة التي‮ ‬اكتنزت بها روحه وتعاطى معها مزاجه الشخصي‮ ‬والفني،‮ ‬وإذا كان للمصنع‮ ‬يوماً‮ ‬تأثير مباشر في‮ ‬حياة الفنان أصغر انعكس في‮ ‬بعض أعماله الفنية التي‮ ‬أنتجها في‮ ‬سنوات سابقة وشارك بها في‮ ‬معارض داخلية وخارجية عدة،‮ ‬فإن هذا المصنع‮ ‬ينأى بتأثيراته عن عالم الفنان أصغر بعد تقاعده عن العمل وتفرغه لمحترفه الفني‮ ‬التشكيلي‮ ‬والنحتي‮.‬
في‮ ‬هذا المحترف عكف الفنان أصغر لما‮ ‬يربو على العام‮ ‬،‮ ‬لينتج أنفاسه الموسيقية عبر هارموني‮ ‬تجلت تقاطعاته التوافقية في‮ ‬زيتيات أنثوية لونية تزاوجت فيها آلات الروح بإيقاعات الزمن الجميل المتخيل التي‮ ‬ظل الفنان أصغر‮ ‬يحلم بعزفها على أوتار روحه حين كان منصرفاً‮ ‬للعمل في‮ ‬المصنع‮.‬
هارموني‮ .. ‬هو معرض‮ ‬يقترح فيه الفنان أصغر تجربة فنية مختلفة ومغايرة لتجاربه التشكيلية السابقة،‮ ‬تجربة تولج بأنفاسنا نحو نغمات وترانيم‮ ‬يتداخل في‮ ‬تشكيلها الواقعي‮ ‬بحضوره الملموس والمجرد بتأثيراته المواربة وغير المعلنة،‮ ‬وكما لو أن أصغر‮ ‬يترك المجال حراً‮ ‬لمعزوفات ارتجالية تصوغ‮ ‬رؤيته التشكيلية وفق هواها،‮ ‬وما أجمل الارتجال حين‮ ‬يشكل لون الروح في‮ ‬تجلياته الحرة‮.‬
هارموني‮.. ‬غرفة حميمة ودافئة‮ ‬يأخذنا أصغر إلى بهو عالمها الموسيقي‮ ‬وزواياه الأثيرة،‮ ‬لنشهد من خلالها حكايات تعزف على أوتار وإيقاعات نسوة‮ ‬يحلقن في‮ ‬فضاء اللون وينتشين برحيق خيامي‮ ‬النكهة والمنشى‮ ..‬غرفة تتملك قابلية المونتاج في‮ ‬كل لحظة ووقفة تأمل وفي‮ ‬كل محطة للانتظار والعبور‮.‬

صحيفة الوطن
14 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

حول ضجة زيارة عون لسوريا

على الرغم من المصالحة التي جرت في الدوحة بين قوى المعارضة من جهة وقوى الموالاة “14 آذار” من جهة أخرى، وهي المصالحة التي افضت إلى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا جديدا للبنان، ومن ثم تشكيل حكومة جديدة، وتحقيق جولات أخرى من المصالحات الأخرى خاصة بين القوى السياسية المسيحية المنقسمة بين المعسكرين المتصارعين، فإن تداعيات وذيول هذا النزاع بين المعسكرين وغيومها مازالت تخيم على البلاد ولم تتبدد تماما، ولعل آخر اشكال هذه التداعيات المستمرة والمتجددة الضجة، التي لم تهدأ بعد، حول الزيارة التاريخية المفاجأة غير المسبوقة التي قام بها أحد اقطاب معسكر المعارضة ممثلا في رئيس تكتل “التغيير والإصلاح” ميشال عون إلى دمشق، وهي الضجة التي اثارتها قوى الموالاة “14 آذار”، حيث انتقدت بشدة هذه الزيارة وخونت عون لقيامه بها فيما دافع عنها حزب الله الحليف الاساسي للعماد عون.
وكان من اعنف اشكال هذه المعارضة للزيارة ما جاء على لسان عضو اللقاء الديمقراطي النيابي مروان حمادة الذي قال ان “عون أخذ إلى سوريا كل كرامة اللبنانيين وسيعود بلا شيء”، وان “عون اتم صفقة مع المخابرات السورية قبل عودته من سوريا بعدما أتم صفقة مع الموساد الاسرائيلي قبل ذلك”، في حين وصفها المكتب السياسي لحزب الكتائب في بيان له بأنها تعني انعاشا للحلف السوري – الايراني من دون أي اعتبار للمنطلقات السياسية المبدئية أو الدينية، وان الزيارة لم تحقق أي مكاسب لبنانية، وان الزيارة لا تلزم أحدا، وان الخلاف بين سوريا ومعظم اللبنانيين مازال قائما، ولم تحصل أي مصالحة سورية – لبنانية سوى مع عون. لا بل ذهب حزب الكتائب إلى أبعد من ذلك في تنديده بالزيارة حينما حاول في بيانه أن يؤلب رئيس البلاد ميشال سليمان والبطريرك نصرالله صفير على ميشال عون لقيامه بهذه الزيارة وما تخللتها من اساءات مقصودة إليهما على حد تعبيره.
علما بأن العماد عون، والذي استمرت زيارته لدمشق خمسة أيام التقى بعد عودته إلى لبنان الرئيس سليمان وأطلعه على كل اهداف الزيارة والنتائج المتمخضة عنها في ظل الضجة المستمرة الواسعة النطاق التي مازالت تشنها قوى “14 آذار” عليها وعلى الاخص المسيحية. ثم دافع عن نفسه في مؤتمر صحفي بعد لقائه الرئيس سليمان وعن أهداف الزيارة ونتائجها وعن مشروعية مد جسور المصالحة والعلاقات مع سوريا، كشقيقة وكجارة، على مختلف المستويات الشعبية لا الرسمية فقط. ولعل مما زاد من اثارة حنق قوى “14 آذار” على الزيارة ليس طولها (5 أيام) فحسب، بل ما احاطت بها القيادة السورية من حفاوة مبالغ فيها وحيث اجتمع الرئيس السوري بشار الاسد بالعماد عون عدة مرات في مستهل الزيارة وفي ختامها، كما أحاطت القيادة والحكومة السوريتان عون بحفاوة بالغة ايضا في الاستقبال وكرم الضيافة والاقامة وفي برنامج الزيارة وهي حفاوة لا يحظى بها عادة الا رؤساء الدول، لا بل ان بعضهم ممن زاروا دمشق لم يحظ بمثلها. وجندت دمشق كل وسائلها الاعلامية من صحافة وإذاعة وتلفزيون لتغطيات اخبارية واسعة وبارزة لكل تلك الحفاوة ويوميات وفعاليات برنامج الزيارة على امتداد ايامها الخمسة.
وسواء وجدت تاكتيكات من الزيارة ومن توقيتها لدى أي من الطرفين، عون من جهة ودمشق من جهة أخرى، وبغض النظر أيضا عن اختلاف المرء أو اتفاقه مع سياسات ومواقف كلا الطرفين العدوين اللدودين سابقا الصديقين حاليا، فانه يبدو مستغربا ان تأتي الحملة الشعواء على زيارة عون لدمشق بعد فترة قصيرة من الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس اللبناني ميشال سليمان إلى سوريا باسم كل اللبنانيين، وما تمخضت عنه من نتائج مثمرة لترطيب اجواء العلاقات بين البلدين الشقيقين المتخاصمين، والتي جرى خلالها التأكيد على استمرار هذه العلاقات وما يربط بينهما من وشائج تاريخية يصعب تقطيعها، وحيث تم الاتفاق ايضا على تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، وهو ما جرى التأكيد عليه أثناء زيارة وزير الخارجية اللبناني لدمشق لاحقا وهي خطوة تعد بمثابة أول اعتراف رسمي سوري واضح وصريح باستقلالية الدولة اللبنانية والتعامل معها من منطلق الندية المتكافئة كدولة مستقلة حرة كاملة الحقوق والسيادة وليس التعامل المضمر معها ككيان تاريخي موقت مصطنع فرضه الاستعمار الفرنسي سيتم الحاقه وضمه في الوقت والظرف التاريخي المناسب بالوطن الأم سوريا، وذلك كما ظلت تتوهم بذلك القيادات السورية المتعاقبة منذ نيل لبنان استقلاله في أوائل اربعينيات القرن الماضي.
وبهذا يعني موقف تكتل قوى “14 آذار” بمعنى من المعاني انه واقع في ازدواجية من الممارسة السياسية فما هو حلال على الدولة وقيادتها السياسية ممثلة في الرئاسة فهو محرم على قوى المعارضة كما تجلى ذلك في زيارة عون لدمشق، وهذا ما يذكرنا بالضبط بحملتها الشعواء قبل أشهر على زيارة الفنانة اللبنانية الكبيرة فيروز لسوريا حتى لو كانت ليس لغرض سياسي بل لمجرد اقامة حفلة غنائية ابهجت الشعب السوري الذي يستمتع بفنها.
ولئن كان مثل هذا السلوك من المواقف يمكن فهمه من قبل الدول الشمولية العربية أو قوى المعارضة فيها التي غالبا لا تتمتع بمشروعية العمل العلني فيها، فان ما لا يمكن فهمه ان يصدر عن قوى معارضة شرعية تعيش في ظل اعرق دولة ليبرالية ديمقراطية عربية منذ استقلالها في عام 1943، ويفترض بأنها قطعت شوطا من النضج في الممارسة السياسية والديمقراطية، فهل نجد مثل هذه الحملات على الفنانين وعلى السياسيين من قبل القوى السياسية المعارضة في الدول الديمقراطية الغربية لمجرد قيام حزب ما، أو قوة سياسية ما، بزيارة لدولة اجنبية هي في حالة خصام مع دولتها أو حتى مع أي قوة سياسية أخرى داخل الدولة الديمقراطية ذاتها؟!

صحيفة اخبار الخليج
14 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد

الاستيراد الفكري لدى زكريا إبراهيم (1)

اعتمد الباحثون العرب على بضاعة الغرب الفكرية في أغلب الأحيان، وظهر ذلك لدى الليبراليين الأوائل اعتماداً على الفلسفات الصوفية والحدسية وكان هذا يعبر عن نقص في التحليل الاجتماعي خاصة.
يعرض المفكر العربي زكريا إبراهيم سبب اختياره الفيلسوف الفرنسي برجسون ليكون مادة أحد كتب سلسلة (نوابغ الفكر الغربي)، ولكي يطل القارئ العربي على هذه الشخصية ليس فقط لمعرفة خلاصة وافية للفلسفة البرجسونية بل انه كان يستهدف أيضاً أن ينقل (إليه روحاً فلسفية عميقة خصبة مرنة)، (برجسون، زكريا إبراهيم، دار المعارف، سلسلة نوابغ الفكر الغربي 3، مصر).
يهمنا في هذه الفقرة أن نرى كيف تتراءى الفلسفة البرجسونية لدى أحد أعمدة الفلسفة العربية المعاصرة، وهو مفكر مشغول بعرض القضايا الفكرية بصفتها مشكلات، فيكتب عن مشكلة البنية ومشكلة الفلسفة مثلما يعرض نماذج من الفلاسفة الغربيين.
ولا شك أن اختيار هؤلاء الفلاسفة من دون غيرهم والترويج لهم، والدفاع عنهم، والقيام بنقل (روحهم) الفلسفية هي عملية فكرية معقدة مركبة، فنحن نجد برجسون الفيلسوف الفرنسي الذي ظهر في فرنسا بين 1859 – 1941، أي أن طفولته تتشكل مع الاحتلال الألماني ووفاته تصادف الاحتلال الألماني كذلك، يعبر عن منحى خاص لفكر الطبقة المتوسطة الفرنسية بعد فكرها المادي والثوري.
فالمؤلف زكريا إبراهيم ينكر منذ مقدمة الكتاب أن تكون الفلسفة البرجسونية، (فلسفة لا عقلية، لا حتمية، تنكر الوجود لحساب الصيرورة وتلغي العقل لحساب الحدس)، فيدافع عنها قائلاً :
(هي الفلسفة الإيجابية التي ساهمت بقسط وافر في تبديد الكثير من الأفكار السلبية مثل فكرة العدم، وفكرة الاضطراب، وفكرة القدرية المطلقة، وما إلى ذلك من الأفكار. فليست قيمة الفلسفة البرجسونية منحصرة في هذا الجانب السلبي، مهما كان من أهميته، بل لابد لنا دائماً من أن نتذكر أن برجسون قد أقام ميتافيزيقا إيجابية قوامها تقرير واقعة الحرية، وإثبات حقيقة الروح، وتفسير ظاهرة الخلق، والكشف عن مبدأ “الفعل” والمحبة في الوجود)، (السابق ص11).
إن الاهتمام ببرجسون في الفلسفة العربية كبير، وهذا يعود لكون المثاليين على الضفة العربية يقومون بتقوية ترساناتهم الفكرية في وسطنا العربي عبر ما تخضه الثقافة الغربية الحديثة، وهم اختاروا (برجسون) بشكل خاص وكبير، (يتيح ثبت المصادر الذي ذيله الدكتور زكريا إبراهيم بكتابه معرفة أن معظم كتب برجسون الرئيسية تمت ترجمتها إلى اللغة العربية وكذلك كتبت أبحاثٌ عديدة عنه).
لما يمثله من قيم فكرية متجذرة لديهم، أي أن مثاليتهم العربية الدينية العريقة وجدت في برجسون شخصية غربية حديثة توافقت مع عقليتهم فتقوت به.
يمثل زكريا إبراهيم هذا النموذج، فهو حين يعرض أن فلسفة برجسون لم تقتصر على السلب ورفض الأفكار المادية والعلمية المنتشرة، (وكأن الهجوم على الأفكار المادية والعلمية فضيلة بحد ذاته) بل كذلك قدمت أفكاراً إيجابية ولكنها كذلك في دائرة (الميتافيزيقيا الإيجابية) مما يعبر عن وجود ميتافيزيقيا مشتركة بين الضفة الفرنسية والضفة العربية، بل ان برجسون نفسه يؤكد ذلك بلغة قوية:
(إنني اعترف بأن كل جهدي قد انحصر في الميتافيزيقا، وفي الميتافيزيقا وحدها، ولكنني أوثر أن أحدد هذا الجهد بأنه تعمق للتجربة)، (المصدر السابق، ص 11).
لكن زكريا إبراهيم لا يعرضُ تجربةَ برجسون الفلسفية في إطار تاريخيتها، وعبر تحليلها النقدي، بل هو يعرضها تحليلياً في إطار التماهي معها، وبعدمِ كشفِ تناقضاتها وخبو سيرورتها.
فهو يعتقدُ أن فلسفةَ برجسون فلسفة عظيمة. (ذلك لأن كل فلسفة عظيمة إنما تتولد بادئ ذي بدء عن شعورٍ حادٍ بوجود “هوة” عميقة بين العقل والواقع، مما يثير لديها الشعور بأنه لابد لها من “طفرة” كبيرة حتى تتمكن من عبور تلك الهوة)، (ص 13). لكن الأستاذ زكريا لا يقول لنا أي هوة تلك؟ وإلى أين تتجه الطفرة الكبيرة؟!
ويعرض زكريا إبراهيم فلسفة برجسون في إطار ثقافي مباشر، فهو يتتبع المؤثرات الفكرية التي لعبت دوراً في تشكيل برجسون بشكلٍ محدود، وكأنها أطياف صغيرة تحيط بلغته الفلسفية المنبثقة المتصاعدة، فتبدو فلسفاتُ القرن التاسع عشر الأوروبية محصورةً في فلسفة أسبنسر، التي تبناها وأوغل في منهجها المادي الميكانيكي، الذي يقول عنه الباحث إنه استفاد منه مع ذلك في تتبع مسألةِ التجربة، وهذا يشير بخلاف رؤية الباحث إلى أن انتقال برجسون من المادية الآلية إلى المثالية الصوفية أمر يحتاج إلى تحليلٍ معمقٍ بسبب هذه القفزة الهائلة من أقصى الفكر إلى أقصاه!
وكل ما يقوله الباحثُ عن هذا المناخ إن سيادةَ الأفكار المادية والعلمية المتطرفة في القرن التاسع عشر وهي فلسفات في رأيه محدودة، قد جعلت ظهور فلسفة برجسون ضرورة لما في تلك الفلسفات من ضيقِ أفقٍ وجمود!

صحيفة اخبار الخليج
14 ديسمبر 2008

اقرأ المزيد