المنشور

قانون العمل و” فيتو الشورى”


 
أنهت مؤخراً لجنة الخدمات بمجلس النواب تقريرها النهائي بشأن مشروع قانون العمل الأهلي، وهذا المشروع من أهم المشاريع وأخطرها التي سيناقشها مجلس النواب في هذا الدور التشريعي. ليس في البحرين من لا يهمه هذا القانون، فهو الذي سينظم علاقة العامل والموظف بمؤسسته، وهو الذي سينظم التفاصيل، والشيطان طبعاً يكمن في هذه التفاصيل، ومن أهم ما يمكن قوله هنا: إن لجنة الخدمات أعادت الاعتبار للمسوّدة الأولى التي توافق عليها ثلاثي الإنتاج، وهم: الحكومة ممثلة في وزارة العمل، وأرباب العمل ممثلين في غرفة تجارة وصناعة البحرين، والعمال ممثلين في الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، فهذه المسوّدة تم رفعها في وقت سابق إلى مجلس التنمية الاقتصادية الذي أجرى من جانبه تعديلات جوهرية عليها، وتمت بعدها إحالة المشروع إلى المجلس النيابي المنتخب.

وأثارت التعديلات التي أجراها مجلس التنمية الاقتصادية حفيظة الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين، الذي بدأ نشاطاً واتصالاتٍ لإرجاع المسوّدة الأولى التي اتفق عليها مع ممثلي الحكومة، والغرفة، وفي هذا الصدد نظمت جمعية المنبر التقدمي قبل أكثر من شهر ورشة عمل مهمة في مقرها، شارك فيها ممثلون عن وزارة العمل، و”اتحاد النقابات”، وقانونيون متخصصون، وغاب عن الورشة ممثلو مجلس التنمية الاقتصادية، وقد أبدى المشاركون انتقادات شديدة للتعديلات التي أدخلها مجلس التنمية على مسوّدة المشروع، وخلصوا إلى أن تعديلات مجلس التنمية انحازت كثيراً لصالح أرباب العمل، وأهملت حقوق العمال.

“البلاد” نشرت حينها تفاصيل ورشة العمل في المنبر التقدمي على صفحة كاملة، وخصصت في اليوم التالي مساحة كبيرة للورقة التي تقدم بها المحامي المعروف حسن إسماعيل، وهو المتخصص في شرح أبعاد القوانين الجديدة، ولا ينسى جميع المتابعين ورقته الشهيرة “قراءة في قانون الجمعيات السياسية” التي حركت المياه الراكدة عام 2005 تجاه المشروع، لتبدأ بعدها تحركات معارضة للقانون، ولكن حينها كانت معظم المعارضة خارج العملية التشريعية بسبب المقاطعة، فكان تأثير الاحتجاجات ضعيفاً.

ويوم أمس نشرت “البلاد” التقرير النهائي للجنة الخدمات النيابية، الذي اتضح فيه أكثر أن “اتحاد النقابات” نجح نجاحاً كاملاً في ما يتعلق بإعادة الاعتبار للمسوّدة الأولى للمشروع التي توافق عليها ثلاثي الإنتاج، وكذلك بيّنت ان أداء المجلس النيابي الحالي اكثر مرونة وأقل تحسساً من آراء ومواقف مؤسسات المجتمع المدني، ولذا فإن مراقبين يعتقدون أن الطريق ستكون سالكة في المجلس النيابي لصالح “اتحاد النقابات”، ولكن التخوف يكمن من “فيتو” مجلس الشورى، الذي قدم سوابق في مشاريع قوانين: الاستملاك، والمتقاعدين، وتحديد وزير مسؤول عن الشركات التي تمتلك الحكومة أكثر من نصفها، لذا فإن “اتحاد النقابات” معني بالتواصل مع مجلس الشورى، الذي يحفل برجال الأعمال أي أرباب العمل.
 
جريدة ” البلاد” – الجمعة 16/1/2009

اقرأ المزيد

من أجبر إسرائيل على وقف عدوانها؟

بعد 22 يوما من القصف الهمجي والغارات اليومية الجوية المتواصلة على الاهداف المدنية في قطاع غزة والتي تطاول بيوت وعمارات ومخيمات وملاجئ السكان الآمنين، بما في ذلك المدارس والمستشفيات والمساجد وسائر مراكز ومؤسسات الخدمات المدنية والاجتماعية والانسانية.. أعلنت اسرائيل على لسان رئيس وزرائها إيهود أولمرت وقف عملياتها العدوانية من جانب واحد في سابقة عدها أغلب المراقبين والمحللين السياسيين أنها الأولى من نوعها في تاريخ الصراع العربي – الاسرائيلي منذ 60 عاما.
وما إن تم سريان وقع عمليات الذبح والابادة من قبل العدو الاسرائيلي حتى انطلقت على الفور المواقف العربية المتجادلة حول من هو الطرف الفلسطيني أو العربي الذي اجبر اسرائيل في اليوم الثاني والعشرين من هجومها الوحشي على غزة على وقف اطلاق النار. ثمة موقفان عربيان لعلهما أبرز المواقف العربية في هذا الشأن:
الأول: هو موقف حركة حماس والتي اعتبرت اعلان قوات الاحتلال الاسرائيلي وقف العدوان هو بمثابة هزيمة ساحقة لإسرائيل ونصر مؤزر حققته “حماس” عسكريا بدحرها قوات الاحتلال وافشال عدوانها.
الثاني: هو موقف القاهرة التي اعتبرت ان قرار اسرائيل وقف اطلاق النار هو بمثابة رضوخ من قبل اسرائيل لطلب الرئيس المصري حسني مبارك لها بذلك.
ومن المعروف ان الاخير وجه اليها هذا الطلب قبل ساعات معدودة من اعلان أولمرت وقف اطلاق النار استجابة، حسب ادعائه، لطلب الرئيس المصري.
فأين هي الحقيقة الفعلية التي تقف وراء انصياع اسرائيل لقبول وقف عدوانها على غزة في مساء اليوم الثاني والعشرين من بدء العدوان؟
في واقع الحال، ومن دون التقليل نسبيا بدور كلا الموقفين “الحمساوي” والمصري المتقدم ذكرهما، إلا أنه من الصعوبة بمكان القول ان وقف اطلاق النار الذي اجبرت اسرائيل على قبوله من جانب واحد تم بناء على تعرضها لهزيمة عسكرية ماحقة على ايدي رجال المقاومة الممثلة في كتائب عزالدين القسام (الجناح العسكري لحركة حماس)، أو لمجرد استجابتها للطلب المصري اليها في السويعات الأخيرة بوقف اطلاق النار.
فإسرائيل التي اعتادت على امتداد 60 عاما ونيفا ضرب قرارات الأمم المتحدة الممثلة للشرعية الدولية بعرض الحائط من الصعوبة ان يقتنع المرء بانصياعها لطلب دولة عربية مهما كان وزنها لمجرد انها تقيم معها علاقات دبلوماسية وانما أرادت من اتخاذ هذا الطلب المتفق عليه وسيلة لحفظ ماء وجهها بعد ان “طنشت” قرار الأمم المتحدة على مدى نحو اسبوع.
وبعيدا ايضا عن العواطف فمن الصعوبة القول إن اسرائيل قد تعرضت لهزيمة عسكرية ساحقة ماحقة الحقت بها اشد الاضرار في الأرواح والعتاد على ايدي رجال المقاومة مما اجبرها على وقف اطلاق النار على شاكلة انصياع الولايات المتحدة لقبول وقف اطلاق النار في حربها على فيتنام، ثم اجبارها على الانسحاب من هناك، وعلى شاكلة غيرها من الهزائم العسكرية التي منيت بها الاحتلالات الكولونيالية في تاريخنا المعاصر على ايدي حركات التحرر المسلحة.
ذلك أنه ليس ثمة وجه للمقارنة بين امكانيات العدو الهائلة في الاسلحة البالغة التطور والتقدم تكنولوجيا في القتل والتدمير، بما في ذلك الاسلحة المحرمة دوليا كقنابل الفوسفور وغيرها، وبين امكانيات اسلحة رجال المقاومة المتواضعة التي يكاد يقتصر اهمها واكثرها تقدما على بضع عشرات من الصواريخ من الكاتيوشا أو “الآر. بي. جي” التي تطلق عشوائيا على الجانب الاسرائيلي ولا تكاد تذكر اضرارها في البشر والعتاد والخسائر المدنية الاخرى.
والحال ثمة عوامل عديدة ذاتية وموضوعية متشابكة هي التي اجبرت اسرائيل على وقف عدوانها على قطاع غزة نستطيع ان نختصرها في: صمود المدينة ونجاح رجال المقاومة في التمترس والتخفي عن اسرائيل من الوصول اليهم ومواقعهم جميعهم من مختلف الفصائل، والضغوط الرسمية الدولية على اسرائيل وعلى الاخص الامم المتحدة، ومنظمات حقوق الانسان الدولية، وغيرها من منظمات الضغط الانسانية العالمية وكل شرفاء العالم، والاهم من كل ذلك المسيرات الاحتجاجية المليونية اليومية في عواصم العالم الكبرى، وبضمنها اسطنبول، ناهيك عن المدن العربية، وتمرغ سمعة اسرائيل الاخلاقية في الوحل أمام العالم، ووصولها الى نتيجة أو “قناعة” بعد 3 أسابيع متصلة بعبثية حملتها الوحشية في القدرة على تركيع المقاومة وسكان غزة، البالغ عددهم زهاء مليون ونصف مليون.. كل ذلك حملها في النهاية على التسليم بقبول وقف اطلاق النار.
ويمكن القول ان المسيرات الاحتجاجية المليونية العالمية هي على رأس كل تلك العوامل المتقدم ذكرها، ذلك ان حكام تل أبيب الفاشيين الصهاينة انتابهم في النهاية شعور بالقلق المكتوم على تعرض فزاعة الضمير الأوروبي “الهولوكوست”، المحرقة اليهودية، للاهتزاز بعدما شاهد العالم بأم عينه ما أوغلت فيه اسرائيل من وحشية في سلسلة طويلة من الجرائم المتصلة التي تتضاءل “الهولوكوست” امامها في وحشيتها بافتراض صحتها الكاملة.
 
صحيفة اخبار الخليج
25 يناير 2009

اقرأ المزيد

أوباما وفرصة جيدة للمنطقة

ليس الرئيس أوباما رجلاً مجرداً مثل السوبرمان بل هو رجل مرتبط بقوى شعبية ورأسمالية واسعة ديمقراطية وجدت في حزب الجنرالات وقادة شركات السلاح والنفط ضرراً لبلدها، وهي تعمل لأجل إخراج بلدها من هذا المأزق.
وهذا لا يعني كذلك عدم وجود إيجابيات في العهد السابق، ولولا ذلك لما وجد واستمر، لكن السلبيات التي وسعت الحروب وأهدرت فرص التنمية المنتجة ونشرت اقتصاد السلاح والبذخ والتهريب والمخدرات والفوائد المالية المجحفة، كل هذه أدت إلى انتفاضة الشعب الأمريكي.
ومن هنا فإن عقلية الخيال الشرقية المجردة والمجسدة في الصراع بين الإله والشيطان، الأبيض الناصع والأسود القاتم، لا تصلح في تحليل الحياة السياسية المركبة المعقدة، وهو كذلك تقسيم عنصري لوني.
وهي رؤية تنص خاصة بأن كل شيء جاء من أمريكا هو ظلام ودنس، وكل ما صدر منا فهو طهر ونور!
إن الأمر المحوري يتعلق بإرادة الأغلبية الشعبية ومدى توحدها وفهمها لاتجاه التقدم وكيف تصعدُ برنامجاً ورمزاً مركزياً تلتفُ عليه.
ويمثل الحزبان الديمقراطي والجمهوري قوى الشركات الخاصة والمنظمات المدنية والقيادات العمالية النقابية، وتلعب الشركات النفطية والعسكرية إرادة متنفذة بينها، وهي الطبقة المسيطرة على الحياة السياسية، وهي تعاود الهيمنة على الحكم بعد كل ضربة تتلقاها كصعود روزفلت وجون كيندي وكلينتون، وهو الاتجاه الاستثنائي في سياسة الحكومات الأمريكية، لكن الاتجاه السائد هو كل الرؤوساء الآخرين!
كان الصقور عموماً من الحزب الجمهوري، وهم يتسلمون الحكم عادة بعد ازدهار يصنعه الديمقراطيون ويوجهون البلد لصالح كبريات الشركات والأغنياء، ويوسعون الحروب، ولكن هذا لا يعني عدم وجود استثنائيات في الجمهوريين فنكسون أقام العلاقات الكبيرة مع الصين وصنع السلام مع فيتنام.
والصقور والحمائم الأمريكية تكون طبقة واحدة، لكن لها مستويات واتجاهات، وبعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية فإنها هي التي تتحكم في المصائر السياسية، ومدى تطور الإنتاج والصراع مع القوى الرأسمالية الكبرى في الخارج يحدد توجهاتها.
فليست هناك مسائل شخصية محضة في هذه السياسة، ويتوقف الأمر هنا على انتماء مؤسسة الرئاسة لإحدى التيارات في الطبقة السياسية المتحكمة وعلى مدى قبول المجمعات العسكرية والصناعية والمالية الكبرى بهذه السياسة.
إن الاتجاه الاستثنائي اتجاه الحمائم لا يتحقق إلا بظروف كبرى تجعل (الأمة) الأمريكية تتوحد ضد حكومة سلبية تجاه مصالحها وتعرضها لكوارث وطنية.
وهكذا فإن أوباما يغدو استثنائياً، فهو لحظة خاطفة في السياسة الأمريكية الحكومية، حين اتفقت أغلبية الشعب على تغيير حكم الرئيس بوش.
وربما بعد سنوات قليلة يُطاح به أو يتم اغتياله وغير ذلك من البرامج المعدة من قبل الطبقة الحاكمة الحقيقية!
وسوف يتفجر في وجهه الكثير من الملفات، ويظهر متطرفون في كل مكان وربما بأشكال هائلة حادة، وخاصة من منطقة المشرق، حيث هنا شبكات متخصصة ومترابطة مع الطبقة الحاكمة في أمريكا.
ستتوجه المخططات ضد الرئيس أوباما لجره لسياسة الحروب بقوة، وسيتفجر العراق بقوة أكبر من السابق، وسيبقى لبنان وفلسطين ميدانين مفتوحين لكسر (الإنسانية) الظاهرية للديمقراطيين، وجرهم لتأييد الأعمال الوحشية للصهيونية وغيرها من القوى المطلقة السراح من قبل الغرب غير الديمقراطي.
لقد فهمت حكومات المشرق الشمولية ظاهرة فوز أوباما بشكل خاطئ، فهي اعتبرتها انتصاراً لإرادتها، وليس لصعود إرادة الأغلبية الديمقراطية الأمريكية، فهي لا تفهم أن التاريخ تكتبه الشعوب، فالتاريخ لديها مؤامرات واغتيالات، ولهذا فإنها تريد تراجعات من السياسة الأمريكية ضد برامجها في التسلح والهيمنة المناطقية.
ولهذا فإن سياسة أوباما على العكس ستتوجه لتعزيز التجارب الديمقراطية في المنطقة، واستمرار ملاحقة الارهاب، ولهذا سوف تصطدم بالدول المتحجرة في سياستها.
وهي فرصة لهذه الدول في التغيير، والحوار مع العالم ومع الإدارة الأمريكية الجديدة، لتزيل بعض الصدأ في أنظمتها البيروقراطية، ولا شك إن إدارة أوباما ستطرح مبادرات جديدة في علاقاتها مع هذه الدول وتتجاوز المواقف الجادة غير المرنة لبوش وقيادته، وهذا كله سوف ينعكس على تطور الأسواق واتساع الفرص فيها والتوجه نحو الجوانب الإنتاجية.
ربما حتى بعض الدول العربية في محور الاعتدال ستتعرض لضغوط من أجل تطور حقوق الإنسان فيها، وخلق ديمقراطية قريبة من الموديلات الغربية.
كما أن سياسة التوتر مع دول الشرق الاشتراكية السابقة سوف تخفت وتتطور مشروعات التعاون.
لكن إذا لم تقم هذه الدول المشرقية خاصة بحوارات ومبادرات تعكس حسن نياتها ورغبتها في الاندماج بعالم اليوم الديمقراطي، فسوف تحدث صراعات حادة وربما مواجهات، ولن تقف القوى غير السلمية في الولايات المتحدة نفسها من دون تحريك الصراعات وإشعال التوتر في العالم.
سوف تشتعل فلسطين كالعادة لاختبار نيات أوباما ومدى قدرته على لجم العدوانية الإسرائيلية وانسحابها من الأراضي العربية المحتلة. مثلما أن منطقة إسرائيل تغدو إثارة للتطرف في إدارة أوباما وسحبها للمواقع العسكرية المتشددة وسيتكفل بعض الأطراف الإقليمية بذلك.

صحيفة اخبار الخليج
25 يناير 2009

اقرأ المزيد

حديث في الهويات

للدكتور على أسعد وطفة بحث عن «نسق الانتماء الاجتماعي وأولوياته في المجتمع الكويتي المعاصر: مقاربة سوسيولوجية في جدل الانتماءات الاجتماعية واتجاهاتها». هذا البحث مهم، خاصة إذا نظرنا إليه من زاوية أشمل تتخطى الكويت كمجتمع وبلد، فرأينا في منهجه وخلاصاته ما يعين على فهم التحولات في مفهوم الانتماء والهوية في المجتمعات الخليجية خاصة وفي المجتمعات العربية عامة، ووجدتُ فيه ما يُعين على الذهاب نحو رصد مثل هذه التحولات في المجتمع البحريني، خاصةً في مرحلة الحراك السياسي – الاجتماعي النشطة حالياً. يلاحظ الباحث أن دراسته بينت وجود فروق دالة إحصائيا في بعض المستويات، بينها على سبيل المثال: إن الإناث أكثر تشدداً وحماساً للانتماء الديني أكثر من الذكور، وان الذكور أكثر حماسة للقبيلة والوطن من الإناث، وان أبناء محافظات بعينها (الجهراء والأحمدي) بدوا أكثر حماسة للقبيلة من أبناء محافظات أخرى (حولي والعاصمة). التعميم عادة منبذوة ، فالأجدى القيام بدراسات ملموسة عن الحالات العيانية، وإجراء المزيد من التشخيصات المشابهة عن واقع الحال في المجتمعات الخليجية الأخرى، يتعين إجراء دراسات ميدانية كتلك التي قام بها الدكتور وطفة. في البحرين اليوم يحتدم نوع من الجدل حول المكونات المختلفة للمجتمع القائم أساسا على ثنائية مذهبية سنية – شيعية، وبالنظر إلى خصوبة الحراك الاجتماعي – السياسي فان المجتمع انفرز أيضا إلى قوى حداثية تتخطى الإطار الطائفي أو المذهبي الضيق، بحيث يمكن أن نطلق عليها قوى عابرة للطوائف، والى قوى محافظة، تدفعها محافظتها للمزيد من التخندق داخل الصدفات الضيقة لطائفتها أو مذهبها. تُظهر تجليات هذا الجدل حول القضايا التي يمكن أن تلتبس بجوانب شرعية أو ذات طابع ديني مثل قضية قانون الأحوال الشخصية، ففي حين تدافع الحركة النسائية والقوى الحداثية عامة عن ضرورة تقنين أحوال الأسرة والمرأة بقانون عادل يحميها من أوجه العسف في الحياة وفي المحاكم أيضا التي غالبا ما تخضع حكامها لأهواء رجال الدين من القضاة في غياب التشريع الواضح، فان القوى المحافظة تعتبر هذا الموضع خطاً أحمر على السلطة التشريعية ألا تقترب منه بوصفه حيزا خاصا برجال الدين وحدهم. ما هو جوهري في الأمر وجود هويات، أو فلنقل انتماءات توخياً للدقة متعددة للفرد الواحد، وبالتالي للفئات الاجتماعية المختلفة، وفي حال مثل هذه يتعين على السياسيين العمل على دمج هذه الانتماءات المتنوعة من أجل الوصول إلى هوية مشتركة تمثل مصالح الجماعة بانتماءاتها المختلفة، ذلك ان الهوية المشتركة لا تعني إزالة الانتماءات الفرعية أو الجانبية، لأنها في ظروف مجتمعاتنا اليوم انتماءات أصيلة ذات طبيعة ثقافية راسخة في طبقات الوجدان، بحيث يستحيل إزالتها بقرار أو برغبة. والأمر ناشئ، من بين عوامل أخرى، إلى حقيقة تعايش بُنى اجتماعية مختلفة أو متنوعة في المجتمع الواحد، ينتسب بعضها إلى مراحل تاريخية سابقة، وقد تضعف بعض هذه البنى أو تتآكل صلابتها في الواقع، لكن تأثيرها بوصفها مكونات ثقافية، يظل وطيداً وقوياً وفعالاً في الأذهان، وبالتالي فإنها قادرة على الاستمرار في تقديم هوياتها الثقافية الفرعية متحاشية الانصهار في بوتقة واحدة داخل المجتمع، لا بل وعاملةً بوعي وبدرجة مُلفتة من التنظيم في مقاومة عملية الاندماج.
 
صحيفة الايام
25 يناير 2009

اقرأ المزيد

هل نحن نعيش في كوكب غريب؟!

انصبت كل الأقلام والموضوعات السياسية هذه الأيام حول محنة غزة، منها كتابات هادئة وهي القليلة، ولكن الأغلب مال إلى الشعرية والسردية الانفعالية ، بل ومالت كثيرا نحو فن الشتيمة واللعنة والتنديد، في عالم المصالح والدول التي لا يجذبها كثيرا المشهد الإنساني المؤلم وهي تشهدها من بعيد، وتحديداً المتحاورين في أروقة الأمم المتحدة، فالمنحازون لإسرائيل لم تؤنبهم ضمائرهم إزاء مناظر النساء والأطفال وهم أشلاء مقطعة في مدرسة كانت تحت مظلة وحماية الانروا، فمثل هؤلاء لا تشدهم الجثث الممزقة ولا عويل البشر، وهم يحملون فلذات كبدهم، وإنما ينطقون بجمل تبدو أكثر من عديمة الإحساس ، حين نجد إن الهم الأكبر لديهم هو مصير الجندي الإسرائيلي» جلعاد شاليط « وكأن دمه وشكله مصنوع من طينة أخرى تختلف عن طينة البشر، إذ تناست السيدة كونداليزا رايس – والتي ستغادر مقعدها مع جوقة الرئيس بعد أيام – غير أنها لم تخف – غطرستها وانحيازها للموقف الإسرائيلي بالكامل ، بل ولا يهم الولايات المتحدة في مجلس الأمن أن تمتنع عن التصويت، حتى وان وقف العالم في ضفة أخرى عنها، فهي أيضا بلد مصنوع من طينة أخرى تختلف عن طينة البشر .
لكم كان غريبا أن تتناسى وزيرة خارجية الدولة العظمى أكثر من 11 ألف أسير في السجون الإسرائيلية، بل والمخجل والغريب إن جزءاً من هؤلاء السجناء هم نساء وأطفال وعائلات بأكملها حشرت في زنازين ضيقة بالمعتقلين الذين فاضوا عددا عن سجن غوانتانامو السيئ السمعة، وسجناء كانوا أعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني فلم تحترم إسرائيل شرعيتهم وحصانتهم النيابية . كل ذلك لا يهم بقدر ما يهم السيدة الراحلة أن تعزف حتى اللحظة الأخيرة أغنيتها القميئة عن حماية إسرائيل من الصواريخ أكثر من حماية أولئك الذين يقتلون أمام مرأى العالم بدم بارد فلم تكن أعذارها وحججها في مجلس الأمن إلا حجج واهية. كان واضحا ترتيب تل أبيب توقيت الهجوم بأسرع ما يمكن قبل فوات الأوان فقدوم اوباما قد يضع عصا غير مريحة في وجه ساسة تل أبيب، فقد كانت إدارة بوش تبصم على كل ورقة تقدمها إسرائيل للبيت الأبيض، إذ أغمض الرئيس الأمريكي عن كل ما واعد الفلسطينيين به عن وعوده بان الدولة الفلسطينية سيتم الإعلان عنها مع نهاية عام 2008، مؤكدا إن رحيله سيكون مع خاتمة ذلك المطاف، ذلك المطاف الذي انتهى بين قذائف الموت على غزة ووسام كارزاي في كابل وحذاء الزيدي في بغداد، الذي مهما اختلفنا أو اتفقنا حول حجمه ونوعيته في المحلات التجارية، فانه بالمعنى الدلالي والتاريخي ،سيظل في الذاكرة الإنسانية وفي الأرشيف الكوميدي والحكايات النادرة سياسيا. ومع ذلك فليس تفاهة وحكايات البيت الأبيض وفضائحه أهم من حكاية الحذاء، ففي الوقت الذي تقذف إسرائيل حممها وقنابلها من الفضاء في سماء غزة ، وتدمر كل شيء دون أي حس إنساني أو احتراما للمواثيق الدولية، تناقش الصحافة الأمريكية كيف اخفت سيدة البيت الأبيض المرتحلة ، عن «سرقتها» الأطباق والأواني التي أمرت بإحضارها لكي تناسب موائدها الملكية ومظاهرها الارستقراطية، ولكون الأطباق المذهبة والكؤوس الكريستالية كانت كلفتها الرسمية ناهزت 485 ألف دولار، فان غواية المطبخ وصالة الاستقبال والطعام بدت مغرية لنقلها من البيت الأبيض لبيتها وهي تغادر المكان الذهبي بسجل مخجل، فمن المعروف إن كل محتويات البيت الأبيض مهما كانت كلفتها وحجمها، فان نقلها سهوا أو بقصد تعتبر جريرة أخلاقية، لا يجوز للسيدة الأولى وحرمها المصون إتباعه، خاصة وان العائلة ليست في الأساس من العائلات الفقيرة في تكساس.
من تابع تلك الحكاية المخجلة في الصحافة الأمريكية ، يرى مدى التهكم والامتعاض إزاء تصرف السيدة لورا بوش، التي نست أنها قضت ثمان سنوات في عشها الذهبي ، ولا يحق لها أن تحمل من هناك معها غير ممتلكاتها الشخصية والمدفوعة فواتيرها وفق اللوائح الرسمية المعتادة. لكم بدت بالمقارنة لوحة غزة الصامدة بكبرياء الفقراء المحاصرين والجياع وبكائهم أفضل بكثير، من سيدة البيت الأبيض التي لم تفكر في تلك اللحظة إلا بنقل ممتلكات عامة لا تخصها دون حياء، فيما لم يجد أهل غزة ما ينقلونه من ممتلكاتهم الشرعية الممزقة والمحروقة البائسة التي تعمد الجيش الإسرائيلي بتدميرها وحرقها ، وبذبح الأطفال الذين كانوا يشكلون للأمهات والآباء أهم وأغلى قيمة إنسانية من تلك الأواني والأطباق المذهبة القادمة من الصين. هل يحتاج العالم اليوم لدلائل اشد على جرائم الحرب والإبادة أم سيعود المجتمع الدولي للمناقشة والتبرير لاسرائيل بان ذلك لا ينطبق على سكان قطاع غزة لكونها ليست دولة ؟! إن كارثة غزة ومذابحها الدموية ينبغي أن تهز الوضع العالمي في أركانه، بحيث تقتضي حالة غزة الوقوف مجددا وبعمق حول شرعية مجلس الأمن الدولي – ودوره الحقيقي والعادل – الذي تشكل ذات يوم على أساس القوة والحرب وتوزيع كعكة المهزومين على الأقوياء ، وبات منحازا حتى يومنا هذا على أساس المصالح أكثر من انحيازه للعدل والحقيقة. ما تفعله إسرائيل في قطاع غزة وناسها في هذه اللحظة من كراهية وعداء ومن شحن داخلي مشبع بالعدوانية، ليست موجهة لحماس وحدها وحسب – كما تتذرع للإعلام والرأي العالمي، وإنما هناك ممارسات واضحة لتصفية قضية وتنفيذ مخطط يستكمل كل السيناريوهات التاريخية التي مارسها أسلاف الدولة العبرية ، التي بنيت على الدم والجريمة وظلت تتواصل على نهجها ، فمن يتوقون للسلام في المنطقة لا يمارسون تلك الوحشية على شعب اعزل بحثا عن قوى تعتبرها خطرا على أمنها وسلامة حدودها، فمن يتوق للسلام بالفعل يدرك طريقه وبوابته المشرقة دون حاجة إلى قذائف واستعراض للقوة لكل الجيران والعالم ، بل ويتحدى المجتمع الدولي بغطرسة ودون حياء.

صحيفة الايام
25 يناير 2009

اقرأ المزيد

لماذا لا نخاف؟


ينتابنا الخوف كلما تذكرنا كيف قادت الصراعات الطائفية والمذهبية إلى أفدح أنواع التفكك الداخلي والمعاناة والتدمير والحروب الأهلية، وهناك بالطبع من يستغل هذه الصراعات لحسابات ومصالح لا تتحقق إلا في ظل تفاقم الاختلافات والصراعات.
لا نريد أن نشبه البحرين بتلك الدول ولكن لماذا لا نخاف وما يزال من بيننا من يريد لهذا الوطن الدخول في نفق الطائفية وفي عتمة العداء والكراهية بين أبناء هذا الوطن او هذه الجزيرة التي عرفت بـ «حليوه»؛ لان هذه الجزيرة التي تغتسل باشعة الشمس في سلام واسترخاء فوق مياه الخليج الدافئة لم تشهد قط تلك الصراعات والاختلافات، بل عرفت أناسا أشداء فيما بينهم اتحدوا وتحدّوا الصعاب والأهوال وهم في عرض البحر وعلى ظهر السفن تراقصوا على أهازيج الغوص دون أن يعرفوا للطائفية اتجاهاً وفي عتمة الليل المثقل بالإسرار تستوطن الأحلام قلوبهم البيضاء الناصعة، وعندما يحل الشتاء تجد هؤلاء الرجال والنساء والأطفال يعانقون النخيل تحت زخات المطر وهم يزرعون بذور الأمل في أرضها الخصبة التي أنشدت أجمل قصائد الحب والربيع والحرية.. نعم لماذا لا نخاف والخطابات الاصولية المتطرفة تستغل مناخ الحريات والمنابر الإسلامية لإغراض طائفية خطيرة.
وأمام هذا المشهد الطائفي الذي يود كسر مرايا الحب بين الطائفتين الكريمتين لا نعرف من أين نبدأ؟ هل نبدأ من ذلك الذي لا ندري ماذا يريد من إساءته لإحدى الطوائف البحرينية الكريمة والكل يعرف انه يريد للبحرين العيش في دهاليز الظلام والاستعباد وللأبدع الخطرة والإقصاء كما تفعل محاكم القرون الوسطى، او نبدأ من ذاك الطارئ المتهور الذي يشعر بالزهو كلما انقسمت هذه الجزيرة الى معسكرين متصارعين دون ان يخشى عواقب الفتنة المدمرة!!
وهنا، يمكننا القول أن الدعوتين في الأصل دعوة واحدة مآربها إشاعة العنف والكراهية والتعصب.
وعلى هذا الأساس ألا يحق لنا أن نتساءل: لماذا كل هذا الانجرار وراء الطائفية؟ لماذا الولاء لغير الوطن؟ لماذا لا يجرم مثيرو الطائفية وأعداء الوحدة الوطنية؟ ما هي واجباتنا نحو الوطن؟ لماذا حقوق المواطنة متعثرة؟ كيف نعالج الطائفية والعنف من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ لماذا كل هذا الصمت تجاه الخطابات التحريضية؟ أليست هذه الخطابات خطابات تنافر وتفرقة وتمزيق للنسيج الاجتماعي؟
من هو المستفيد الفعلي من هكذا خطابات؟
ولاشك فإذا كانت هذه الخطابات الفوضوية التحريضية المتزمتة تعكس حالة ما وصلت إليه من عداء تجاه الوطن وتجاه الآخر، فان تداعيات هذه الحالة خطيرة جداً، وبالتالي كيف نتجنب هذه التداعيات وهذه الحالة؟ سؤال لا يزال مطروحاً طالما هذا الوطن يرفض التعصب الطائفي والكراهية والعنف، وطالما أيضا نريد لهذه البلاد الاستقرار والعيش والتآخي في ربوع العدل والمساواة والتسامح والتعدد واحترام الآخر.
 
الأيام 24 يناير 2009

اقرأ المزيد

أن يكون للحياة مغزى


مرة انصرف سلامة موسى للتمعن في سيرة عدد من المشاهير الذين عمروا طويلاً، وعاشوا حياة مديدة حافلة. كان الكاتب مهتماً بمعرفة الأسباب والعوامل التي أطالت أعمارهم، كأنه يريد لقارئه أن يسترشد في توجيه حياته ما في دروس حياة هؤلاء من عبر، فإن لم يجد القارئ في حياة هؤلاء القدوة فلعله يجد فيها ما يدعو للتنبه.

وجميع من اختارهم كانوا من المسنين الذين استمتعوا بالدنيا، وليس المقصود هنا استمتاع الملذات المألوفة من ثراء أو سلطان أو شهوات، وإنما المقصود ذلك الاستمتاع الراقي الذي لا ترتفع إليه سوى النفوس الناضجة التي عني أشخاصها بتربيتها. من الشخصيات التي تحدث عنها سلامة موسى كان الزعيم الوطني المصري سعد زغلول الذي مات بعد السبعين لكنه لم يعرف شيخوخة الذهن أو النفس. أصبح سعد محامياً بعد أن تجاوز الثلاثين، ولكنه وجد ثقافته ناقصة فعاد تلميذاً ليدرس اللغة الفرنسية والقوانين الفرنسية ويتقدم لامتحان الدبلوم وهو في الأربعين. وحين عطلت الجمعية التشريعية في مصر أثناء الحرب العالمية الأولى التي كان سعد زغلول رئيساً لها أبى أن يتقاعد ويتثاءب، وكان قد تجاوز الستين، فعمد إلى اللغة الألمانية يدرسها وهو في تلك السن، حيث عاد تلميذاً للمرة الثالثة، في السن التي يحال فيها الموظفون اليوم على المعاش.

تحدث سلامة موسى أيضاً عن الأديب الايرلندي الأصل برنارد شو الذي ألف وهو في التسعين من عمره كتابا في السياسة والاجتماع. يذكر أن برنارد شو توقف عن تناول طعام اللحم منذ أن بلغ الثمانين من عمره واقتصر على الطعام النباتي، ولم يدخن أو يتعاطى الكحول قط، لكن سلامة موسى يعتقد أن حياة الكفاح التي عاشها شو هي السبب الأكبر أو الرئيسي لحيويته العجيبة التي ظل محافظاً عليها في عمره الذي كاد يبلغ مائة سنة.

 كلاماً مشابهاً قاله الكاتب عن المهاتما غاندي زعيم استقلال الهند، الذي كان نباتياً مثل برنارد شو، لكنه كان يضيف اللبن إلى طعامه المكون من الفواكه والخضراوات، وكان نحيفاً ضامراً لا يزيد وزنه على أربعين كيلوغراماً. لكن سر غاندي النحيف الذي يبدو عليلا عاش متقد الذهن حتى شارف على الثمانين من عمره هو أن حياته كانت سجلاً من الكفاح والتسامح الديني. يعتبر غاندي تولستوي الروسي وثورو الأمريكي الموحيين له في فلسفته إزاء الحياة، لم يكن غاندي متعصباً لدين أو فلسفة، كان الإيمان بالنسبة له هو ذاك الشعور الذي يبعث التفاؤل بمستقبل البشر والاقتناع أن الدنيا في تطور وارتقاء، كان غاندي الذي يستيقظ في الساعة الرابعة صباحاً وينام بعد العاشرة ليلاً يجاهد في جهات متعددة من أجل تكريس قيم الحياة الكريمة الحرة للمواطن الهندي، ومن أجل توحيد الهند واستقلالها وحريتها. يريد سلامة موسى، المصلح والنهضوي والتربوي وأبدع كتّاب المقالة العرب في النصف الأول من القرن العشرين أن يحملنا على إدراك جدوى ألا نعيش في خواء الذهن والنفس وعطالة الجسم. أن تكون لنا في هذه الحياة قضية وهدف نبيل نكرس جهودنا وطاقاتنا في سبيله، ما يجعل لحياتنا مغزى وطعما، وما يجعلها ثرية، معطاءة، مثمرة.
 
الأيام 24 يناير 2009

اقرأ المزيد

الصحراويون والزرع


قال ابن خلدون عن العرب إنهم قوم غير محبين للحضارة، فكلما أسرعوا إلى مكان أسرع الخراب إليه، وحين فتحوا البلدان حولوا جدران القصور إلى أثافٍ توضع تحت القدور للطبخ وألواحها إلى خشب للنار.
هذا الفهم هو مطلق ولكن لو كان ابن خلدون قد قال إن هذا لا ينطبق على كل العرب بل على الأعراب، على (الصحراويين) لكان ذلك أصوب من هذا التعميم.
وقد قال الشاعر الجاهلي امرؤ القيس (ترى بعرَ الأرامِ في عرصاتهِا وقيعانها كأنه حبُ فلفل)، فشبه البعر بالفلفل، ورفع الجماد والبقايا إلى ثمار زرع.
وتجد ان البلدان التي كانت عامرة بالنخيل والشجر والينابيع تتحول بعد سنين أو قرون إلى صحارى من تحكمهم إلى فلوات، كأن الصحراويين يستدرجونها لطبيعتهم الاجتماعية.
المظاهر العابرة من قصور وأسواق ومبانٍ عامرة تصير بعد مدة إلى خرائب، فهم يحملون طبيعتهم الصحراوية أينما يولوا في أقطار الأرض، وكان النداء الرسولي 
  الذي حفظوه وما استوعبوه والقائل إنه حتى لو جاء يوم القيامة وبيد أحد غصن لابد أن يكمل عمله ويزرعه، والتوجيه الآخر بأن الأرض الخلاء، الصحراء، ملكٌ لمن يزرعها، وليست أراضي مسيجة وأعطيات تـُعطى.
وفي العصور الوسطى وفي المشاعيات الشعبية الإسلامية كثـُر زرع الأرض الصحراوية، وكثرت القرى حتى صارت بالآلاف، والمؤرخون لا يصدقون ذلك ويعتبرونه من الخيال العامي.
وأيضاً هناك تلك الوصايا الجليلة بضرورة أن يتمدن الأعراب ويكفوا عن العودة للبوادي والصحارى، ولكن كانت الرحلة عكسية فهم يذهبون لبلدان متطورة قليلاً ويجعلونها مثلهم.
يحمل الصحراويون بضاعتهم الاجتماعية وهي الأسرة الكبيرة والأولاد الكثيرون، وكراهية العمل اليدوي ووضع النساء في مؤخرة الخيام، وحفظ النصوص وعدم استخدام العقل والحكم المطلق والعراك المستمر على السلطة أساس إنتاج الإبل والغنم والثروة.
المدن التي يؤسسونها قاحلة، كأنها خيام من حجارة وطابوق، لا يفكرون في المياه إلا لشربهم ولدوابهم، والشوارع خالية من مظاهر الجمال، ويفضلون الأشجار البلاستيكية، أو يقلعونها ببساطة ويدفنون بها الشواطئ، فيضاف قتل الشجر مع قتل البحر، ومن أجل أبنية طابوقية كريهة أخرى.
فظهر استيراد الشجر والنباتات الخارجية التي لا تعيش في المناطق الصحرواية.
تظهر بوادر الكوارث الصحراوية مع التوسع اللاعقلاني في الأبنية على حساب الطبيعة، ومن أجل تراكم النقود وتفريغ الإنسان، محاولة تجميع البشر في بقع ضيقة محاصرة هو من أجل بضعة فلوس من تقليص مصاريف الكهرباء والمياه، ولهذا فإن الكهرباء والمياه هما أول من يشوط في هذه السياسة (الذكية) المقتصدة.
في المدن الكبيرة تقاوم الأنهار والزراعة والثقافة العلمية كالقاهرة الزحف الصحراوي، بصعوبة شديدة، تبدو بعض الأشجار كغابات صغيرة في الشوارع، وتحتضن البنايات كالجدائل، وتصحو العصافير فيها في الظهيرة، ونهر النيل يغذي الجميع، والإرث الحضاري القديم والخصب النهري يقاومان رغم كل شيء، لكن التلوث والسياسة النفعية اليومية وتكوين المدن العربية بشكلٍ صحراوي أضعفت القاهرة.
إذا كانت المدن العربية الإسلامية قد تكونت بشكل صحراوي، أي عبر قرارات الفاتحين العرب لتكون المدينة بقرب الصحراء، فإذا هُزمت القوات رجعت إلى البادية كظهير عسكري لا يُهزم، لكن من جاءوا بعدهم حافظوا على الشكل الانتقالي العابر للمدن العربية، مثلما جعلوا الأشياء الانتقالية والملحقات في الدين ومضافاتها السياسية الكسروية والرومانية بديلاً عن الجوهر الاجتماعي النضالي في الدين.
في تجربة بني عبدالقيس القبيلة الكبرى التي استوطنت إقليم البحرين نجد الصحراويين ينتقلون للزراعة والتحضر على مدى أجيال، ويؤسسون القرى والجزر الزراعية ذات التجربة الأخاذة وهم المحاصرون بين البحر والصحراء، غير قادرين على صنع عاصمة عربية كبرى، فالمدينة لديهم ظلت قرية.
لكن كان هذا أحفل بالعطاء، لأن الحراك الاجتماعي من قبل العامة ظل متدفقاً، ومع هذا فإن البدوي حين يغدو فلاحاً، فهو يجلب عادات البدوي فيه، مثل الكسل والعنف والغزو والرغبة في الحصول على الثروة جاهزة، يعمل قليلاً ثم يترك كل شيء للقدر، والنصيب، وقد فارقوا أفكار الجزيرة العربية البدوية لبدوية فلاحية، قدسوا الأشجار لأنها العيش ثم بصقوا عليها لأن العيشَ جاء من مصدر آخر.
ومع هذا فإن الزراعة لم تنهر بفعل كل هذه العوامل، بل تدمرت عبر فعل (الحداثة) الاستعمارية، عبر جلب كل المنتجات من الخارج، ومن دون رؤية القرى البحرينية – البحرانية كمدن، فتضخمت وتغيرت من دون الأسس التي قامت عليها من قبل الفاتحين العرب، فهي ليست مدناً ومع هذا أقحمَ كلَ شيء فيها.
كانت القرية البحرينية هي صديقة النبع والشجرة، في ذلك الحصار الصحراوي الغباري الحار، ولكن الفاتحين الغربيين لم يفهموا سيرورة المدينة الخليجية عامة، كأنهم في مدنهم الباردة في أغلب فصول السنة، رغم أن ثمة جهوداً منهم في الاهتمام بالزرع والخضرة عموماً.
القرية الخليجية محاصرة بفعل البحر والصحراء، مواردها المائية قليلة، وحين حصلت على كمية كبيرة من النقود لم يُخطط توزيعها بشكل عقلاني بل أقحمت القرية في المدينة بشكل حاد، فقامت المدينةُ المقامة بشكل اصطناعي بإزالة القرية الزراعية، وزاد الأمر حدة حين تحولت المدينة الخليجية إلى مدينة عولمية فيها كل أمم العالم واقتصادياته، ومع هذا فإن الطواقم ظلت صحراوية، وظلت تنظر للزرع والماء والبيئة الجميلة كملاحق تافهة بالمدينة العملاقة الخاوية من الحضارة العميقة.
لاحظ كيف انحشرت مدننا الخليجية العربية على رؤوس البر المتغلغلة بين البحر، وهي القرى التي كانت هاربة من الصحراء والتي تحاول الإطلال على التجارة والانفتاح الخارجي مع وجود خلفية زراعية وراءها، لكن العقليات الإدارية حولتها إلى مدن (كبرى) محشورة في البحر وزادتها بضرب البيئة البحرية وترك الصحارى تزحف على المدن من خارجها وداخلها.
 
أخبار الخليج 24 يناير 2009
 

اقرأ المزيد

أسـوأ رئيس في‮ ‬التاريخ الأمريكي‮!‬


الفترة الانتقالية للولاية الرئاسية الأمريكية الواقعة بين فوز مرشح الرئاسة في الانتخابات وبين تسلمه فعلياً مقاليد الحكم في البيت الأبيض بعد حلفه اليمين في مراسم تتويج وطنية احتفالية، وهي فترة ليست بالقصيرة إذ تمتد من 4 نوفمبر لغاية العشرين من شهر يناير – هذه الفترة هي في الواقع فترة تصريف أعمال بالنسبة للرئيس المنتهية ولايته يفترض أن لا يُقدِم خلالها على اتخاذ قرارات، سياسية أو اقتصادية، مصيرية وتوريثها خليفته، وذلك مراعاة لأصول وقواعد الحكم الرشيد، حتى وإن كان لازال يتمتع بكامل صلاحياته الدستورية. وهي أيضاً فترة تقييم وجرد حساب كاملة وليست جزئية كما هو الحال بالنسبة لفترة المائة يوم الأولى التي يقضيها الرئيس الجديد في إدارة دفة البيت الأبيض والتي جرت التقاليد في الحياة السياسية الأمريكية أن يتم تقييم أداء الرئيس خلالها ومدى نجاعته وتوفيقه في التعامل مع القضايا المطروحة أمامه. فما بالك بفترة ولاية تمتد لدورتين انتخابيتين أي ثمان سنوات كما هو الحال بالنسبة للرئيس بوش، ناهيك عما يميز فترة ولاية هذا الرئيس من أحداث جسام حافلة من ثقل حروبه الممتدة على ما أسماه بالإرهاب وأزمة الكساد العظيم التي ورَّط فيها اقتصاد بلاده والاقتصاد العالمي ترتيباً. كل الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية على امتداد القرن العشرين، تصرفوا كأباطرة روما الذين ما يكاد الواحد منهم ينتهي من معركة حربية حتى يزج بجيش الإمبراطورية في معركة حربية جديدة. فلقد كانوا قادة حربيين بامتياز، هذا بخلاف تورطهم في ما قُدِّر الكشف عنه من فضائح ومؤامرات. ويستطيع المرء بكل سهولة تعداد الحروب التي أشعلها أولئك الرؤساء، الراحلون منهم والأحياء، وسرد وقائع الفضائح التي تيسر كشف النقاب عن تورطهم فيها. ولكن هذا ليس موضوعنا على أية حال. إلا أن سجل الرئيس جورج دبليو بوش المنتهية ولايته تواً، في هذا المضمار، قد فاق وقائع سجلات نظرائه الرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه في تسطير هذه المآثر. وهذا ما يفسر تكالب أجهزة الميديا العالمية على ‘القبض’ على هذه السانحة التاريخية لتسليط الأضواء على التركة التي خلفها هذا الرئيس وأركان إدارته.  فأفردت محطة سي إن إن التلفزيونية الأخبارية الأمريكية مساحة لتلقي رأي الجمهور في أنحاء العالم حول ما إذا كان الرئيس بوش هو أسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدة. كذلك فعلت الشيء نفسه الـ بي.بي.سي. وغيرها من أجهزة الميديا الغربية. ومن سوء طالع الرئيس بوش أن تخبئ له الأقدار المفاجأة التي لم تدر بخلده مطلقاً، ونعني بذلك حادثة قذفه بالحذاء من قبل الصحفي العراقي منتظر الزيدي أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقده في بغداد برفقة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. وكأن الزيدي أراد – وإن لم يقصد – أن يجعل ختام ذلكم السجل الحافل لفخامة الرئيس الأمريكي، ‘مسكاً’! فلعل الحادثة برمزيتها تختزل المآل الذي سينتهي إليه حكم التاريخ على سليل آل بوش الذين لازالوا يطمعون في العودة للبيت الأبيض. لهذا كان متوقعاً أن يهرع الرئيس بوش مسرعاً في محاولة لتحميل، أو على الأقل لتلطيف، صورته التي تلطخت في خضم التغطيات الإعلامية المتكالبة على نجمه ونجم إدارته الغاربين وإعمال المشرط تشريحاً وتقييماً له ولإدارته، فعقد لهذا الغرض مؤتمراً صحافياً وداعياً مع الصحافيين في البيت الأبيض يوم الاثنين 12 يناير 2009 ، أتبعه بخطاب وداعي ألقاه يوم الخامس عشر من نفس الشهر. في المناسبتين بذل الرئيس بوش محاولات أخيرة لعكس الصورة التي شكلتها ممارساته على أرض الواقع في أذهان الرأي العام الأمريكي والعالمي. فكرر بعناد ما دأب على وصفه بإنجازات إدارته وهي: – تحويل أفغانستان إلى ديمقراطية فتية بعد أن كانت في قبضة حركة طالبان التي كانت تمنع النساء من الذهاب إلى المدارس. – إقامة الديمقراطية في العراق بعد إطاحة النظام الديكتاتوري هناك. – حماية بلاده من الهجمات الإرهابية بعد تلك التي تعرضت لها في الحادي عشر من سبتمبر 2001  . – مكافحة مرض نقص المناعة المكتسبة في أفريقيا.
طبعاً يستطيع بوش أن يقول ما يشاء عن نفسه وعن إدارته وأن يعطي لنفسه ولإدارته درجة ‘+A’ في تقييم حصاد السنوات الثمان التي قضَّاها في البيت الأبيض. فهذا لن يجدي شيئاً ولن يغير من الحقيقة التي باتت شاخصة أمام القاصي والداني ‘بفضل’ أفعال بوش لا أقواله. ثم إن من المضحك أن ينبري المسئولون لتقييم أنفسهم وتقييم أدائهم. فهذا لا يستقيم قطعاً مع شروط التقييم الموضوعية، ناهيك عن قواعد المنطق وأبنيته الإمبريقية.  فالتقييم يفترض أن يتم من قبل الآخرين الذين هم في وضع يؤهلهم لإجراء مثل هذا التقييم والحكم على مجمل مؤشرات الأداء المتصلة به سواء السلبية منها أو الإيجابية. فالرئيس بوش يستطيع أن يدعي وينسب لنفسه الفضل في إقامة نظام ديمقراطي فتي في أفغانستان، حتى وإن كان هذا الإدعاء أجوفاً يُذَكِّر بزهو الزعماء السوفييت وتفاخرهم بإقامة نظام اشتراكي في بلد معدم مثل أثيوبيا أو اليمن الجنوبي أو بنين أو أفغانستان نفسها في أعقاب الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979.
 وبالمناسبة فإن نظام الحكم الذي أقامه الأمريكيون في أفغانستان ويفاخرون به، هو نظام لا يشرِّف أربابه أنفسهم الذين لم تصدر بحقهم شهادة دولية واحدة تستأهل المفاخرة، فجل تقارير الهيئات والمنظمات الدولية توصم نظام كابول بالفساد الضارب بأطنابه في شتى مناحي مؤسساته. ناهيك عن أن النظام لا يسيطر سوى على العاصمة كابول. وحتى هذه السيطرة مقيَّضة بفضل قوات حلف شمال الأطلسي.
أما العراق فإن بوش وصحبه نجحوا فعلاً في إقامة أخطر نموذج لدولة التشطير الطائفي والعرقي والشعبوي في منطقة الشرق الأوسط. فيا له من نموذج ديمقراطي، وهذا ما هو متوقع على أية حال من إدارة أمريكية كرست نفسها لإعادة استحضار أدوات الصراع القروسطية من جنس الحرب الصليبية التي أومأ إليها بفصاحة يحسد عليها الرئيس المنتهية ولايته نفسه. أما في شأن الأزمة المالية التي تسببت وتخبطت فيها إدارته والتي سرعان ما انتقلت إلى الإقتصاد الحقيقي لتنقل عدواها سريعاً إلى الاقتصادات العالمية جمعاء، فإن من المضحك أن يتحدث بوش عن مأثرة تصديه لتصدعاتها وتداعياتها عوضاً عن تحمل مسؤولية حدوثها بشجاعة والإقرار بسوء وفساد الإدارة اللذين أديا إلى وقعها الكارثي الذي يفترض أن لا يمر دون كشف المسؤولين عنها ومحاسبتهم وتقديمهم للعدالة. وفي شأن السؤال عما إذا كان جورج بوش الابن هو الأسوأ في تاريخ الرئاسيات الأمريكية، نكتفي بنقل ما نقلته صحيفة ‘ايزفيستيا’ الروسية قبل أيام عن بعض الدوائر الأمريكية القريبة من البيت الأبيض، وهو أن الرئيس المنتخب باراك أوباما عمد في الأيام الثلاثة الأخيرة من ولاية الرئيس بوش للتهرب من الرد على مكالمات الرئيس بوش المنتهية ولايته، بعد أن سأم من نصائحه بشأن إدارة بعض ملفات السياسة الخارجية الأمريكية. وجاء فيما نقلته الصحيفة عن تلك الدوائر أن الرئيس السابق جورج بوش قد عاد لمعاقرة الخمرة بسبب حالة من الاكتئاب ألمت به فجأة.  
 
الوطن 23 يناير 2009
 

اقرأ المزيد

لماذا‮ ‬غادرتني‮ ‬يا كبدي؟‮!‬


مهداة إلى الأمهات في غزة  يقتلني غيابك أيها الطفل.. لماذا غادرتني وتركتني لحلــكة الفقد وحدي أهذي؟  كلهم غياب دونك أيها الطفل.. وحدك تملأ روحي وتحيي قلبي وتفتح الأبواب والنوافذ لهواء ينعش رئة الكون.. بلد يغادره الأطفال يا كبدي.. بلد عقيم شائخ لا روح فيه ولا قلــب ولا هواء.. بلد تخلو بيوته من الأطفال.. بلد مهجور يسكنه الغياب والموت.. بلد تخلو أحياؤه من الأطفال.. بلد تلهو فيه الأشباح بظل غياب الروح.. يا كبدي.. لم أعد أطيق المشي في الشوارع.. فلا شيء يقلقني عليك فيها..  كنت دليلي وكنت ضالتي وكنت خلايا دبيبي في جسد الدرب.. بلد لا يأخذني نحو حضاناته ورياضه ومدارسه يا كبدي كل صباح وظهيرة.. بلد ماتت فيه الأنشودة والرفقة.. مات فيه كورال الصخب الجميل.. غادره السؤال العابث والشقي.. لم يعد فيه الانتظار جميلا.. لم يعد هناك انتظار..  ما جدوى أن أقصد الحديقة دونك والأزهار والفراشات غادرت الحياة حزنا وألما على فقدك؟ يا زهرة القلب وزهوته.. ابعث في غفر تيهي روحا في العرائس والدمى والألعاب كي أسلو بظل وجودك قربي..  ما جدوى أن أرتاد الأسواق وكل الدمى والألعاب والعرائس تحولت في حشود الجموع شاهدا على فجيعة الفقد؟  ما جدوى الأسواق وقد أوصدت أبوابها لأنك يا كبدي صرت الدمية التي يتقن صنعها كل مفجوع في هذا البلد؟  فسد الحلوى يا كبدي في خزانتي.. فقد غادرني العيد مذ غادرتني..  فقدت الحلوى يا كبدي.. مذ أتلفت خزانتي..  دعوت قدماي تتعثران في الساحة التي كانت معدة للفرح والبهجة.. قتلتني الخيبة حين رأيت الحزن يوزع دموعه على قبور الأكباد.. عدت إلى غفر تيهي فوجدته موصولا بساحة الفقد..  يا لهذي البلد.. ينعب فيها البوم كل يوم كي تستيقظ فجيعة الفقد..  يا كبدي.. قصدت الترع والبحيرات والبحار والأنهار علني أحظى بقطرة ألمح فيها ظل طفوك وغطسك.. فوجدت الجفاف يبكي فقدك ويشكو فقده القطرة..  ناجيت الغيم عله يفرج عن مطر تساقط منه يا كبدي جنيا.. فوجدت دخان الفجيعة يهب الغيم سمومه ويهبنا يأس المطر..  تبعت طيفك يا كبدي.. وجدتك شيخا ضل حلم طفولته فراح يجاهد من أجل أن تهبه دمى الطفولة مفاصلها التي وهبها إياها في طفولته..  يا كبدي.. ما جدوى أن أظل جالسة والحضن يتيم دونك؟  ما جدوى أن أظل واقفة أراقب خطو مجيئك والفقد قرر ألا تجيء ولا أنتــظر؟  يا كبدي.. في أحشائي طفل ينمو.. أناغيه فيضحك تارة ويبكي تارة أخرى.. هل قدر لي أن أكون حبلى بذاكرة فقدك؟     
 
الوطن 23 يناير 2009

اقرأ المزيد