المنشور

صراعٌ على السلطةِ في تونس


تدور الصراعات في تونس الآن على أملاك الدولة، القطاع العام المتشابك مع القطاع الخاص ذي النفوذ السياسي، وكما حدث في دولِ رأسماليةِ الدولةِ الشرقية بحزبِها المهيمن على الفضاءاتِ المختلفة، فإن أحزابَ القطاع الخاص الحرةِ ومعها قوى عمالية كبيرة منظمة، تسعى لهدمِ العلاقة بين الحزب المسيطر الكلي وملكيةِ الدولة التي كانت ملكهُ، وتحويلها لملكيةٍ عامة حقيقية، وهي مسألة ليست سهلة بل تاريخية.

أو ربما يجري الأمر بشكلٍ مختلف حين تسعى قوى عمالية معينة وخاصة البيروقراطية النقابية في اتحاد الشغل التونسي لاستعادةِ أملاكٍ عامة وتقوية حضور اتحاد الشغل المنظمة النقابية السياسية ذات الجذور العائدة لرأسماليةِ الدولة زمن بورقيبة وما يُسمى التجربة (الاشتراكية) لأحمد بن صالح.

ويبدو نجاح هذه الثورة مدهشاً قياساً بدولة كبيرة ذات نضال ثوري كبير وهي إيران، لكن إذا عرفنا مسارات التطور بين القطاعين العام والخاص تتضحُ المسألةُ الاجتماعيةُ التاريخية المركبة، فقضايا وصراعات المُلكية العامة بين إيران وتونس تبدو مختلفة كثيراً. فنجاحُ الانتفاضةِ الشعبية في تونس وفشلها في إيران يعودُ لعوامل موضوعية أولاً.

فالقطاع العام، رأسمالية الدولة الإيرانية، هائلٌ ومسيطرٌ على ثروة كبرى، وحجم حضور القطاع الخاص وما يتعلقُ به من حرياتٍ وتطور مستقل للجماهير محدود، فيما القطاع العام هائل الحجم وتنضوي تحت خدماته ونفوذه منظمات اجتماعية وقوى عسكرية وبوليسية قمعتْ الحراكَ الاجتماعي، ويعبر عن حجم القطاعين أحد المسئولين الإيرانيين:

(السيد عباس علي قصايي أحد أعضاء مجلس غرفة التجارة الايرانية وطهران وأحد أعضاء مجلس وضع خطط مجمع الناشطين لتقوية الاقتصاد الايراني عبر عن هذا الضعف قائلاً: إن اقتصاد القطاع الخاص في ايران ضعيف جداً، فـ 80% من اقتصادنا متعلق بمشاريع حكومية وقسم كبير من الـ 20% المتبقية يعود لمشاريع شبه حكومية). موقع إيراني.

فيما كان التطور الاقتصادي الاجتماعي يسير بشكل مغاير في تونس خلال العقود الأخيرة، فما سُمي تونسياً بالتجربة التعاضدية أو الاشتراكية بلغةِ المشرق العربي، كان سيطرة كبرى من قبل الدولة على الاقتصاد وتجسد سياسياً بهيمنة حزب التجمع الدستوري، وكان ساعده الأيمن اتحاد الشغل، لكن التجربة طورت القطاع العام والنهضة عموماً وجعلت القطاع العام أساس الاقتصاد والتنمية ولكنها كذلك قوت نفوذ البيروقراطية وأدت لخسائر اقتصادية كبيرة في النهاية وهو مؤشر الفساد المعروف في كل هذه التجارب، فيما أدت الليبرالية الاقتصادية منذ السبعينيات إلى تبدل طبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية التونسية وحققت نجاحات فيها وحريات مختلفة، وقوت الفئات الوسطى والعمالية المتطورة.

فبعد تعيين هادي نويرة رئيساً للوزراء(اتخذت الحكومة خطوات عملية لتحجيم تدخل الدولة في القطاع الصناعي وتشجيع القطاع الخاص.).
وأدى دخول القطاع الخاص إلى تطورات كبيرة في الاقتصاد وخاصة في الخدمات إلا أنه ظل عاجزاً عن تطوير الاقتصاد تطويراً واسعاً رغم المساعدات والتسهيلات التي قدمت له، وظل القطاع العام مسيطراً على الشركات الكبرى والقطاعات الإستراتيجية في الاقتصاد، وهذا ما أدى إلى استمرار نفوذ الدولة القوي.

ولعبت الخصخصة دوراً في إضعاف القطاع العام في جوانب وأنعشت الفئات الوسطى ووسعت الفساد كذلك، عبر هذا التكون لشركات المسئولين الكبار وهو ما يمثل القطاع الخاص الطفيلي المتكون من ثمار القطاع العام.

هذا التطور المتصاعد المتناقض يمثل تجربة التنمية حين تبدأ بفئات وسطى فقيرة وقيادات عمالية فتنمو معاً، وتشكل تجربة نهضوية ثم تتباين المسارات، بين مسار ليبرالي يدعم تكون الفئات الوسطى الكبيرة خاصة، ومسار يقوي وضع الطبقات الشعبية، أي مسار التجمع الدستوري ومسار اتحاد الشغل، هذان الخطان بقيا متصارعين، وتنامت الفئات الوسطى الحاكمة خاصة مع الانفتاح الواسع والعولمة ودخول الشركات العالمية والعربية، فظهر اتجاهٌ استبدادي يؤيدُ إخفاءَ معلومات الثمار الاقتصادية المشبوهة، وتكرس عبر السلطة، لكن القوى العمالية والمتوسطة المنتجة توحدت لتصحيح ذلك. 

صراع على السلطة في تونس(2-2)
 

مثلت ثورة تونس جبهة مشتركة من القوى العمالية والفئات المتوسطة لتصحيح مسار العلاقة المرتبكة بين القطاعين العام والخاص، وقد ظهر بشكل جماهيري عبر الهجوم على حزب السلطة وانتزاع مواقعه المادية الاقتصادية، وحقل هيمنته السياسي الفكري القانوني.

الرأسماليتان الحكومية والخاصة اللتان تنهضان بفضل قوى العمل المختلفة، في مستويات الإنتاج التاريخية وتطورها، تبدلان العلاقة بينهما حسب الصراعات الاجتماعية المختلفة نحو بُنية رأسمالية مفتوحة وطنياً وقومياً وعالمياً.

في الحالة الراهنة، اتضح أن المنتصرين مختلفون لتباين جذورهم الاجتماعية، وأن لديهم برامج غير متماثلة لمسار البلد المستقبلي، فظهر أن مسئولي الدولة وهم الموظفون الكبار في القطاع العام، وفي المؤسسات العسكرية والأمنية، يريدون مواصلة التحكم في أجهزة الدولة المختلفة عبر الخطوط العريضة السابقة لها، مع الإصلاحات التي استجدت في النضال العام، وعبر تنظيف القطاع العام من أشكال الفساد والمحسوبية وملاحقة المذنبين والمفسدين واسترجاع أموال الدولة التي هي أموال الشعب.

لكن الأجنحة السياسية الأخرى لم ترد أن تتم الإجراءات من حكم وملاحقات وإجراءات بنفس الأجهزة والموظفين الذين تعاملوا في الحقبة السابقة، أي أن يتم تطهير مكتمل، وأن تتشكل أجهزة جديدة هي التي تَجرد وتستقصي وتحاكم، فالعمل بنفس الأجهزة القديمة يؤدي إلى تكرار المسار حسب رأيها.
هنا تعود ذكريات الصراعات الاجتماعية والسياسية بين الجناحين المختلفين في التجربة التونسية، فجماعات التعاضدية أو الاشتراكية المؤيدة بقوة لسيطرة القطاع العام تريد تغيير أجهزة السلطة من أي اتجاه سابق حاكم، غير مميزة بين موظفين شرفاء أو موظفين فاسدين، أي تريد موظفين قياديين من جماعات الخطوط الاشتراكية والتعاضدية الصافية وهو أمر يقود إلى أقصى اليسار ومخاطره.

وهذا المنحى في حالة تفاقمه يدعو المؤيديين لسيطرة القطاع العام بشكل كلي إلى التخلص من القوى الداعمة للقطاع الخاص والتنمية الرأسمالية الخاصة، أو هو توجهٌ عامٌ لمناكفة حزب التجمع الدستوري كحزب كرس الخط الليبرالي العلماني، فيظهر هنا توجه ديني غائر لتسديد ضربة لهذه التحديثية العلمانية وإستعادة بعض نفوذ المنظمات الدينية بعد الانفتاح والحداثة الواسعة، وهي اتجاهات تأتي من مناطق الأرياف والمدن الصغيرة.

وقد كان تعاون حزب النهضة الديني المحافظ مع الشيوعيين المتطرفين (الحزب الشيوعي العمالي) شبيه بما يحدث لدى اليسار المتطرف وتأييده للقوى الطائفية المحافظة في المشرق وهو يعبر عن تخريب للتطور التحديثي الديمقراطي كله، وهو تعاونٌ يوجه نحو الإسقاط الكلي لحزب التجمع الدستوري بما يملكه من حضور تحديثي واسع النطاق بين الجمهور، لكن صُور الصراع بأنه نضال شامل ضد حزب فاسد بشكل مطلق وهو نفخٌ ايديولوجي للتوجه نحو ضرب الدعائم التي أقامتها البرجوازية التحديثية العلمانية التونسية لتشكيل مجتمع مغاير للإقطاع الديني وحلفائه من يساريي اللفظ والادعاء.

وهناك التوجه الاجتماعي الجدلي التركيبي بين الماضي والحاضر، الذي يجمع تجربة التجديد الديمقراطية الجبهوية بين الرأسماليين والعمال، لتشكيل مجتمع موحد تعاوني صراعي ضمن أسس الديمقراطية الوطنية، بين بقاء الملكية العامة وتنظيفها ديمقراطياً وتطور تجربة القطاع الخاص على أسس الاعتماد على الذات وتصاعد الحريات.

اتجاه الفوضى قد يساعد الجيش وضباطه الكبار على أن يهيمنوا على الحكم، والجيش كان لاعباً رئيساً وتخلص من الرئيس السابق بذكاء ولم يعادي الجمهور، فكان من أكبر الصاعدين.

الاتجاه نحو الملكية العامة والعاملين غالب وكبير بسبب ما يعطيه القطاع العام من أجور كبيرة ومن هيمنة على القطاعات الاستراتيجية في الاقتصاد، في حين لم يقدم القطاع الخاص تجربة قوية تدعم خطه السياسي، وهذه أمورٌ ستتبلور مع الانتخابات العامة ورئاسة الجمهورية القادمة.

صحيفة اخبار الخليج
28 يناير 2011

اقرأ المزيد

اليسار البحريني… الآفاق المستقبلية 2 – 2

لكي لا يفقد المرء بوصلته الفكرية والسياسية، فالأفكار والمبادئ، هي التي ترسم خارطة طريق نحو تحقيق الأهداف، فبدون فكر فلسفي علمي من خلاله تقرأ واقع بلادك، وتدرس جيداً تلك الخصائص والموروثات الشعبية المتأصلة في وجدان الشعب، تكون خارج المعادلة، ففي البحرين، أثبتت التجربة النضالية لجبهة التحرير الوطني البحرانية، صحة ما جاءت به في برنامجها السياسي الأول في عام 1962، برنامج الاستقلال الوطني والحرية، والديمقراطية، والسلم، والتقدم الاجتماعي، والذي تعاطى وبواقعية مع الظروف في تلك الحقبة الاستعمارية، كما تعاطت جبهة التحرير مع الواقع الملموس لشعبنا من اجل الديمقراطية والحريات العامة والعدالة الاجتماعية، ومن خلال تواجد أعضائها وأنصارها في التجمعات الشعبية، بما ذلك المآتم الحسينية، في المنامة والقرى.
كتب احدهم مؤخراً في الصحافة المحلية، مقالة ذكر فيها، بان اليسار الماركسي، ويقصد جبهة التحرير الوطني، كانت اهتماماتها بالخارج، بالاتحاد السوفيتي وحضور مؤتمرات الأحزاب التقدمية والعمالية، ولا تهتم بالشأن المحلي، على هذا الأخ، أن يرجع إلى أدبيات جبهة التحرير الصادرة في الداخل، لكي يتعرف جيداً أين كانت تعمل وتناضل الجبهة، والمئات من أعضائها وأنصارها لازالوا أحياء، يمكن العودة إليهم، بالإضافة الى ما تم نشره في نشرة «التقدمي» الصادرة من المنبر الديمقراطي التقدمي، استطاعت أن تتكيف مع الخصائص والأوضاع المحلية، وتكون جزءا مؤثرا في الأحداث، مدرسة في النضال الوطني يجب أن يتعلم منها جيل الشبيبة، لهذا كان اليساريون البحرينيون منصهرين ومندمجين مع شعبهم، وكان شعار المنظمة الشبابية لجبهة التحرير، «اشدب» على نشرته المركزية «الشبيبة»، «سنناضل بلا كلل ونعمل بلا توقف ونعلم ونتعلم من الشعب»، لهذا يتطلب من أعضاء وأنصار اليسار البحرينيين، أن يكونوا مع الناس ويدافعوا عن قضاياهم ومطالبهم والنصرة لهم.
اليوم في بلادنا نحتفل بالذكرى العاشرة للميثاق الذي حدث في البلاد في شباط «فبراير» من عام 2001، والذي على أثره انتهت حقبة سوداء، حقبة قانون امن الدولة السيئة الذكر، وحل محلها ميثاق العمل الوطني، وبرزت القوى السياسية للسطح «العلن»، بعد عقود من السنين من النضال الوطني السري، كان اليسار البحريني جزءا أصيلا وأساسيا من مجمل القوى الوطنية والديمقراطية المناضلة في البلاد، ففي حقبة الاستعمار البريطاني، قبل مرحلة الاستقلال الوطني في عام 1971، حدد اليسار البحريني، أهدافه وبوضوح من خلال برنامجه الذي أشرت إليه في البدء، وشخص مفهوم الدولة التي ينشدها، قيام نظام وطني ديمقراطي، يعني «الدولة المدنية الحديثة»، كان سباقاً في طرحه حتى في مرحلة التحرير الوطني، وفي مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني، وبناء الدولة، عزز مفهوم «الدولة المدنية» من خلال المطالبة بوجود الديمقراطية وسلطة تشريعية منتجة، هذا ما حدث بانتخاب مجلس وطني في ديسمبر 1973، والتي فاز فيها اليسار البحريني وحلفاؤه بثمانية مقاعد، من خلال «كتلة الشعب»، وأكد على أهمية الديمقراطية والحريات العامة والنقابات، «عمالية وطلابية ونسائية»، هذه المفاهيم النقابية والديمقراطية، ترسخت اليوم في الحياة السياسية الجديدة وان وجدت بعض المنغصات والتراجعات على صعيد حرية الرأي والتعبير في بعض الحالات «النشرات الحزبية» سحب الترخيص من بعض الجمعيات السياسية، أضرت بتطوير التجربة الديمقراطية في البلاد، اليوم تطرح أمام اليسار البحريني والقوى الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني، مهمة تعزيز الحريات العامة والشخصية وتطوير الديمقراطية، بإبعادها السياسية والاجتماعية، وتطوير مفهوم «المواطنة الحقة» في الدولة المدنية، والتأكيد على الواجبات العامة والحقوق الدستورية والإقلاع عن ممارسة التمييز والغبن في الحياة العامة.
صحيح في الفهم الماركسي لطبيعة الصراع في المجتمع، لا يمكن تجاوز الفوارق الطبقية والاجتماعية وهي موجودة وفي أحيان بقوة، حتى في البلدان النفطية، ومنها بلادنا ومن اجل تقليل تلك الفوارق والمظاهر الطبقية والاجتماعية في المجتمع، يتطلب من الدولة توفير عناصر ذلك التغيير الاجتماعي وهي قادرة على ذلك، بما تملك من سلطة قوة القرار والمال والأمن، وان لا تكون على أسس مسكنات مؤقتة، لا تغير من طبيعة تلك الظاهرة، مثال على ذلك «تقديم علاوة الغلاء» التي يتلهف إليها المواطنون من اجل زيادة دخلهم المالي و بالأخص ذوي الدخل المحدود، لابد من عملية تغيير جذري، بوضع برنامج كفيل بتغيير الوضع المعيشي المالي للمواطنين للأفضل، وتحديد المستوى المعيشي من خلال زيادة في الرواتب وتحديد سقف الأجور في القطاعين العام والخاص وبالأخص لأصحاب الرواتب الضعيفة والمتدنية.
عندما يتميز برنامج اليسار البحريني، عن غيره من القوى السياسية، وتحديداً القوى الطائفية والمذهبية، ويكون برنامجه مغايراً ومعبراً عن طموحات وتطلعات وآمال جيل الشباب ومعهم العمال والنساء والمثقفون وغيرهم من الفئات الاجتماعية الفقيرة، ويشعرون بأن هناك قوى قادرة على إحداث التغيير والبناء في المجتمع، وتناضل من اجلهم ومن اجل تعزيز الديمقراطية والحريات العامة والحقوق المدنية والمكتسبة، وتسعى وتعمل من اجل قيام مجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية، لا تساوم على الأهداف والمبادئ وتتعاطى مع القوى السياسية في البلاد ليس بصفتها قوى ديمقراطية اجتماعية بل بصفتها معبرا حقيقيا عن اليسار البحريني وتاريخه ونضاله وعن هويته وفكره، تتعزز مصداقية الطرح وبشفافية عالية لدى الناس.
ربما يسأل سائل: ما الذي يميز اليسار البحريني عن القوى السياسية الأخرى في البحرين، الإيمان بهذه الأفكار، عدم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، المساواة، العدالة الاجتماعية، وهذا الثالوث، يعني الكثير للإنسان في نضاله من اجل التغيير والبناء والإصلاح، لترابط الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فيما بينها، لهذا على اليسار البحريني، إبراز برنامجه ليس السياسي بل في المقدمة منه الاجتماعي، والاستمرار في طرح آرائه وأفكاره بوضوح للناس.
فالمصداقية والشفافية عناوين رئيسية، لكي يتعرف المرء على الأفكار والمبادئ لليسار البحريني، دون لبس أو ضبابية أو الاختباء حول عباءة أخرى، فاليساريون البحرينيون، لديهم تجارب تقاليد نضالية، بالإمكان تطوير تلك الأساليب القديمة والاستفادة من الايجابيات في الوضع الراهن، فأي هدف يخدم المواطن ويرتقي به نحو الأفضل، فهو مكسب ورصيد وطني، لا يجوز التفريط به، فالتواصل والالتقاء مع الناس والدفاع عن مصالحهم وطرح مطالبهم، ندرك جيداً بأن الطريق ليس مفروشا بالورود لكي نعبر، مثلما كان في السابق، حفرنا في الصخر لنشق الطريق لأفكار التقدم والإنسانية، واليوم على اليساري أن يمتلك الجرأة والشجاعة في الدفاع عن مبادئ وأهداف حزبه، التعامل بصدق وإخلاص مع الناس سوف تصل إلى قلوبهم قبل عقولهم، فأمام اليسار البحريني مهام كبيرة يتطلب تضحيات كبيرة.

صحيفة الايام
28 يناير 2011

اقرأ المزيد

العربُ ولحظة جديدة في التاريخ

تخلف العربُ كثيراً عن اللحاق بركبِ التاريخ العالمي، وهذا بسبب انهم قبائل بدوية انساحتْ في عروق الأرض وتغلغلتْ في تضاريس الشعوب القديمة، والأديان السابقة، ولم يكن لها تراث غزير متجذر، وهوية صلبة سوى الإسلام واللغة والثقافة. وإذا كان الأولُ مفتوحاً لكل الأمم فإن الثاني والثالث مقصوران على العرب.
تشتتُ العربِ في التاريخ والجغرافيا لم يجعلهم قادرين على اللحاق بتدافع الأمم الحديثة على صدارة المسرح العالمي، التي تتطلبُ مركزيةً في التاريخ والجغرافيا، والتي تتحول إلى سوقٍ جبارة متحدة، وقوى عاملة بشرية متطورة متعاونة، فالعرب يعيشون في تفكك على مستوى الأنظمة، والأنظمةُ نفسُها مفككة في بُنى إنتاجها، لكن الضغط المتواصل للعولمة وتشكل سوق عالمية كبرى متداخلة بحدة، يجبرُ الأممَ على التوحد، وقد سارعت أممٌ عديدة إلى تفكيك أشكالها السياسية الفضفاضة القديمة، ومركزة أسلوب إنتاجها، وفجرت ثورات اقتصادية داخلها.
الكثيرون لا يعرفون العاصفة الاقتصادية السياسية التي تهدر، وعجزُ العربِ عن استيعابِ الثورة الاقتصادية التقنية السياسية الديمقراطية، يصيرُ لهم مثل الكوارث القدرية وحروب داحس والغبراء، ويظهر لنا أناس يتكلمون عن الانفجارات الاجتماعية بأسباب واهية كثيرة فهم لا يعرفون التاريخ المعاصر وأسبابه الغائرة.
إن كل أشكال الهدر الاقتصادية مثل الفساد والبذخ تتحول إلى كوارث على الشعوب العربية، لأنها بحاجة إلى كل قيمة نقدية من أجل تفجير الثورة الاقتصادية التقنية العلمية التي هي بأمس الحاجة إليها، وهذا الهدر يحس به العمالُ لأنهم لا يرون ما ينتجونه يتوجه لتغيير حياة المنتجين والإنتاج، وهما أساس توحيد العرب ونقلهم للحداثة.
وتداخلت أخطار العولمة وتحدياتها مع فشل التجمعات السياسية الفوقية العربية، وعدم إنجازها المقاربة بين الشعوب العربية وتطوير أوضاعها وتوحيد أسواقها ومواقفها، فأحستْ أمةٌ كاملة بالهوان والضياع، في عصر الأمم الكبرى، ولا عجب أن تقوم شعوبٌ صغيرةٌ بالثورة والتوحد والنضال من أجل أوضاع عمالها وجمهورها الفقير، في وقت توجهت فيه القوى الفوقية للاهتمام بمصالحها المغرقة في الذاتية.
من دون نضال العمال من أجل تطور أوضاعهم، أي تطور مصانعهم ومعرفتهم وإنتاجهم وأسرهم وطبقاتهم ووطنهم، لا يكون ثمة صعود للعرب على مسرح التاريخ المعاصر، الذي هو تاريخ الإنتاج والآلات والأسواق الكبيرة المشتركة وصعود العيش المشترك الأفضل.
كذلك لا يمكن لهذا الصعود أن يتم من دون تطور الملكيات الصناعية الخاصة كفرع محوري للاقتصاد وديمقراطية الرأسماليات الحكومية ومن دون تغلغل ثروة المعرفة الحديثة في الجماعات والأفراد وتنامي الصلات الاقتصادية المتطورة بين الدول العربية.
إن العربَ يشكلون صلات تشبه الصلات التي كونتها الشعوب الأوروبية في بدء عصر الثورة الصناعية وتشكل الأمم الأوروبية وسيادة الحداثة، من حيث تأسيس القواعد الديمقراطية والصناعية، وتوحد كل شعب وتلاقي الصلات القومية بين أمة مفككة تصعد لتكون قارة إنتاجية.
ولهذا فإن نضالات الجماهير العربية الآن من أجلِ أجورِها وأوضاعها وتطور بلدانها الديمقراطي ليست موضةً، أو عمليات فوضوية، بل هي الوحدة القاعدية والتغيير من أسفل، والتوحيد على أسس شعبية عقلانية.
هي عملياتٌ موضوعيةٌ لا تصدر عن قرارات وحرائق في البناء والأجساد، بل هي حاجات تتشكل في أعماق الشعوب، وظروفها، ولا تصدرُ عن لجنة مركزية أو عن قائد فذ، وهي للتخلص من طفيليات معرقلة لتلك الأهداف.
الغربُ المحافظُ المهيمن وليس الغرب الديمقراطي العمالي، لا يريدُ للأمةِ العربية التوحدَ، وأن تتصاعدَ قوى قواعدها لتطوير رأسماليات منتجة ديمقراطية تبني أمةً كبيرةً ذات أسواق هائلة وقوى إنتاجية عظيمة، فتنضمُ للأممِ الروسيةِ واليابانية والصينية والهندية والجنوب شرق آسيوية، التي شكلت قواها المتحدة، وحينئذٍ يتواصل تقلص أسواق الغرب، وتزداد الضربات للأمة العربية لأنها تملك موارد نفطية كبيرة، فتُضربُ من الصهيونية ومن بعض القوى التي يُفترض انها إسلامية وعربية.
لكن العديد من مراكز الأمة العربية مازالت راقدة، لم تتشكل فيها السببيات التي تشكلت في تونس من حيث عدم الهيمنة الكلية للإدارة الحكومية الاقتصادية السياسية، ووجود قوى عمالية وبورجوازية خاصة حرة واسعة، وثقافة علمانية إسلامية ديمقراطية، لكن ذلك يحدث وبصور مختلفة والمخاطر التي تعوق ذلك هي الفوضوية والمغالاة الدينية والحداثية والعنفية.


صحيفة اخبار الخليج
26 يناير 2011
اقرأ المزيد

توحيد المزايا.. أم خطة إنقاذ عاجلة؟!

كل الشكر للنقابي حسن الماضي عضو مجلس ادارة الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية الذي حمل على عاتقه ملفا من بين اهم الملفات، وفضل ان يطوف به ومنذ فترة منتديات الجمعيات السياسية والديوانيات والمجالس الشعبية بحثا عن مساندة شعبية توقظ وعي الجميع بمخاطر ما ينتظرنا جميعا وما يتربصنا من تبعات جراء إهمال هذا الملف الذي أجد انه يعني كل بيت وكل فرد في مجتمعنا البحريني، لما له من انعكاسات خطيرة لا ترتبط فقط بمستحقات المتقاعدين وحقوقهم المشروعة في حياة كريمة أكدها الدستور وميثاق العمل الوطني، وانما ترتبط ايضا بكون هيئة التأمينات الاجتماعية من المفترض أن تكون هي المستثمر الأكبر في هذا البلد بالنظر الى حجم ما تديره من أموال واستثمارات تفوق بالفعل حتى استثمارات الحكومة ذاتها.

في أمسية أقامها المنبر الديمقراطي التقدمي مؤخرا تناثرت فيها بواعث الخوف والقلق لدى الحضور وهم من مختلف المشارب، استطرد حسن الماضي في شرح حجم ما يعترض التأمينات الاجتماعية من مخاطر حقيقية لازلت اجهل سلبية التعاطي الرسمي معها على الرغم من ان هذا الملف سبق ان اثير بقوة في الفصل التشريعي الأول عندما شكلنا حينها لجنة تحقيق في فساد هيئتي التأمينات الاجتماعية وصندوق التقاعد، حينها عاشت البحرين من اقصاها الى اقصاها في متابعة حثيثة لما طرح تحت قبة البرلمان آنذاك من ارقام وحقائق مفزعة وفساد امتد لأكثر من ربع قرن من الزمان وعلى مدى ثمانية شهور، كانت فيها الصحافة ووسائل الإعلام تنقل معظم ما يدور ويقال في مجلس النواب الى الناس حيث خيمت مشاعر القلق من المستقبل على الجميع، رفعت بعدها المعالجات المطلوبة والتوصيات وتبعتها التعديلات على قانون التأمينات الاجتماعية بأمل ان تنشغل الحكومة بإصلاح الأوضاع في الهيئتين، وكان من بين ثمار توصياتنا تحقيق الخطوة الرائدة بدمج الهيئتين والتوجه نحو دمج المزايا للصناديق الثلاثة الخاص والعام والعسكري سعيا لتمتين الوضع المالي للهيئة وتمديد عمرالصناديق الثلاثة، وإعادة هيكلة مجلس الإدارة وإرجاع الكثير من الملايين والعقارات الضائعة والمضيعة، حيث غابت ابسط قواعد المحاسبة والرقابة وفعلت القرارات الفوقية وغير المدروسة فعلها في مالية الهيئتين، وكانت صرخة وجع واستغاثة تحمل في تموجاتها مخاوف الناس، وكم تمنينا ان يصل صداها بعيدا لتوقظ بفعلها ضمائر من يعنيهم الأمر!
في تلك الأمسية استعرض المحاضر معاناة ممثلي العمال داخل مجلس الإدارة وآليات التصويت وتمرير القرارات فيه، كما استعرض غياب الرقابة الداخلية وإدارة الاستثمار وهذه الاخيرة كم وكم تحدثنا فيها مطولا على ما اذكر مع الحكومة وعبر الندوات وفي وسائل الإعلام، وبعد مرور أكثر من سبع سنوات من المؤسف ان نسمع ما يجعلنا اكثر قلقا على أوضاع الهيئة الجديدة! فهل من العقل والحكمة ان تدار الهيئة التي تبلغ احتياطياتها قرابة الأربعة مليارات دينار من دون وجود طاقم إدري واستمثاري محترف؟ وهل عقمت بلادنا أن تلد من يكون قادرا على إدارة تلك الاستثمارات بفاعلية، لتجد إدارة الاستثمار ضالتها في موظفين من ذوي التخصصات البعيدة كل البعد عن مجال الاستثمار.
سعادة وزير المالية من جهته أجاب على سؤال لأحد الأخوة أعضاء كتلة المستقلين البرلمانية حول توحيد المزايا ووضع الهيئة بما يوضح حجم البيروقراطية وبطء الإجراءات والقرارات وآليات عمل الهيئة، حيث الاجتماعات التي تمتد لسنوات وشهور، وحتى القرارات المنتظرة منذ فترة لازالت تتطلب المزيد من الاجتماعات والتوافقات التي ربما تأتي او لا تأتي، اضف الى ذلك عدم حسم ما إذا كان الصندوق العسكري سوف يضم للهيئة أم لا، وهل سيؤخذ باقتراح الحكومة الجديد حول السن التقاعدي، وغيرها الكثير ما يتطلب عملا سريعا من قبل مجلس إدارة الهيئة الجديد، في الوقت الذي ينتظر فيه الآلاف من المواطنين من المتقاعدين وغيرهم قرارات سريعة ووضوح لرؤية الهيئة ولتوجهات الدولة حيال مسألة غاية في الأهمية، حيث لا ينتظر الزمن كثيرا في العادة، علاوة على ذلك فان اهمية وجود نظام تقاعدي تحتاج الى اكثر من الحديث حول زيادة الاشتراكات وحدها، فمتانة النظام التقاعدي هي ضمانة استراتيجية باتت مطلوبة، كما لا يمكن تحت اي ظرف التعاطي مع أموال ومدخرات الناس وحقوقهم عبر اجتهادات عابرة، بل عبر رؤية واضحة تتكامل وأهداف الدولة على اكثر من مستوى..

باختصار نظامنا التقاعدي برمته يحتاج الى رؤية جديدة وصناديقنا التقاعدية تحتاج الى خطة إنقاذ سريعة قبل ان يصبح الحل متعذرا والكلفة مضاعفة على الجميع!


صحيفة الايام
26 يناير 2011
اقرأ المزيد

أنا فهمتكم..!

 
 

 
فهمت بعد كل هذه السنوات حاجتكم للتغيير وفهمت رفضكم للتسلط السياسي والأمني الضاغط عليكم وعلى حرياتكم، فهمت إلى أي مدى عانيتم من قمع ومن محسوبية، ومن فساد، وبطالة مزرية ومن ضيق نفس الحرية.

 
فهمت نبذكم للتعددية الديكورية، والانسداد السياسي ولواقع التعبير وحرية الإعلام والصحافة، وفهمت الآن إنها أدنى الصحافات العربية وأكثرها رثاثة على صعيد المهنة والمحتوى، فهمتكم وفهمت إن الشعارات البراقة التي طرحتها عليكم خلال سنوات طويلة لم تغريكم، ولم ترسِ واقعاً جديداً، واعلم اليوم – اليوم فقط اعلم وافهم بأنكم دفعتم ثمناً باهظاً، ودفع الوطن ثمناً أفدح من سنوات التعطيل والتأزم والفقر والبطالة والفساد.

 
فهمتكم.. وفهمت إن أقارب وقوى وشخصيات انتفعت وتعدت وتمادت وسرقت وفسدت وأفسدت ومنعت من سقى الياسمين من أن يفتح ويزهر، وإنكم عوملتم لا كمواطنين بل رعايا من الدرجة الثانية ان لم تكن العاشرة.

 
فهمتكم.. والله فهمتكم.. وفهمت إن الفساد هو الخصم الأكبر لكم.. وانه كما ارتفعت كلفة الفساد زاد عدد الفقراء واتسعت معاناتهم.. وفهمت بان أوجه الفساد تعددت وشملت وزارات وشركات ومؤسسات كبرى، وأدركت بان خزينة الدولة وجيب المواطن جهتان صبت في قناتيهما الكثير من المرارات والمزيد من ضنك العيش للمواطن.

 
فهمتكم وفهمت إلى أي مدى عانيتم من التدخلات في التعيينات.. تعيينات المحاسيب وأهل الثقة وفهمت بأن الموازين قد اختلت، فلم يوضع أصحاب الكفاءات والاختصاصات والتخصصات في الصدارة، ولم يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وأدركت إلى أي مدى اغتيلت المقاييس وأهدرت المعايير، وأصبحت الأفضلية للطالح قبل الصالح، والفاسد قبل النزيه.

 
هل تصدقوني حين أقول لكم إنني تفاجأت مثلكم.. وارجو أن تعذروا جهلي بأوضاعكم.. وارجو أن تكافئوني بمعرفتكم بعد أن فهمتكم أخيراً، وأدركت لماذا انقسم مجتمعنا على نفسه بين من يملكون ومن لا يملكون، بين أبناء الأكابر من أصحاب المال والجاه والسلطة وأبناء الشوارع من البسطاء والكادحين وأولئك المقهورين الذين ازدادوا قهراً على الدوام أمام ما طرحناه من شعارات عن تكافؤ الفرص ومجانية التعليم والمواطنة والمساواة وغيرها من الشعارات والمسكنات التي كنتم تبتلعونها قسراً كل يوم.. ومادمت قد فهمتكم جيداً الآن.. وفهمت إلى أي مدى انتم محبطون.. يائسون.. منكسرون، فإنني عليه لن اسمح بان تذهب تضحياتكم هباء أو تترك لدهاقنة السياسة وانتهازييها ركوب موجة المتاجرة بها، ولن اسمح بأن يكون منهج الفساد هو الشائع في كل الأنحاء ليحمي الفاسدين ويسبغ ستره عليهم ويمنح كل واحد منهم شهادة مواطن صالح. وستكون الظروف مواتية الآن لنصلح حالكم ونصلح ما أفسده الدهر..

 
لن اصادر حرياتكم العامة.. وسأحترم إرادتكم ورغبتكم بالخبز والحرية، ولن تكون هناك ديمقراطية تفصل من اجل تكريس حكم شخص واحد، ولن اسمح بالتعذيب والتجويع.. سأرفض شتى وسائل الإذلال وسأحترم حرياتكم الشخصية وحرية الصحافة ولن أضيق الخناق على المدونات ولن احجب المواقع الالكترونية ولن اجعل أحداً خارج إطار المحاسبة.. ولن اتبع سياسة الأبواب والنوافذ المغلقة وسأتصدى لكل أشكال الفساد حتى إذا كان يشمل الأقارب والانسباء ولن تكون هناك حصانة أو تحصينات وقائية لفاسد أو مفسد أو متجاوز للقانون.

 
سأزيح ستار السرية والعتمة والانغلاق وسأسمح بفتح الملفات المغلقة من نهب وسرقات وتعديات واعتداءات من الأهل والأقارب وشبكة المنتفعين والمخبرين الذين استنزفوا الاقتصاد واضروا التنمية.. ولن يلغى أي مشروع ولن يعطل أي استثمار لا تتكسب منه العائلة المصونة ولا تأخذ نصيبها منه عمولة أو رشوة أو شراكة صورية أو قسرية.

 
لم يفت الوقت بعد.. المهم إنني فهمتكم الآن.. والمهم أن تفهموني الآن.. وصدقوني حين أقول إنني تفاجأت مثلكم.. تفاجأت بهذا الحجم من الآلام والآهات والحرمان والمعاناة.. اعذروا جهلي واغفروا لي.. وتعالوا نعمل سوياً لنعيد الاعتبار لقيمة الإنسان.. هذه القيمة التي أهدرت، فقد تعلمت بأنه لا يتبقى للأوطان شيء إذا سقطت قدسية الأرواح فيها، وغابت هيبة الضمائر، وتراجعت قيمة العقول.. صدقوني إن قلت لكم بأنني فهمتكم الآن وسبحان مغير الأحوال.. ولكن اخشى ما أخشاه بان الفهم الآن لم يعد يجدي نفعاً.

صحيفة الايام
26 يناير 2010
اقرأ المزيد

الحابل والنابل



في الظاهر تبدو الخطابات التي سادت القمة الاقتصادية العربية أشبه بالصحوة الرسمية تجاه معضلات الوضع المعيشي في البلدان العربية، حين توارت أو اختفت مفردات وعناوين متداولة لصالح ابراز الحديث عما تواجهه شعوبنا العربية، وخاصة الشباب، من أوجه معاناة على الصعيد المعيشي بصفة خاصة، وعلى صعيد التنمية في مفهومها الشامل المتكامل بوجهٍ عام.
لكن ما يجب التحقق منه هو: هل ما يبدو في الظاهر يعكس تحولاً جدياً؟؟
ذوو الذاكرة الجيدة لا يمكن أن ينسوا الموجة التي اجتاحت عالمنا العربي عشية وغداة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 عن ما عُرف في حينه بـ»وصفة الإصلاح»، بل لعل الأمر لا يحتاج الى ذاكرة جيدة، فالحديث يدور عن أمرٍ لم تمض عليه سوى سنوات معدودات.
يومها أصبح الاصلاح هو كلمة السر الجديدة التي تلهج بها الألسن، حيث بات الجميع في العالم العربي معنياً به، بما في ذلك الحكومات التي تلكأت طويلاً أمام رغبات شعوبها أن تُُصلح أحوالها، فاذا بها هي نفسها تصبح داعية للاصلاح وناشطة في عقد الندوات والمؤتمرات حوله.
وفي حالٍ كهذه يختلط الحابل بالنابل، فلا يكاد المرء غير المتابع أن يميز بين من ناضلوا في سبيل الاصلاح وضحوا من أجله بدفع ضريبة ذلك بسنوات أعمارهم التي أهدرت في السجون أو في المنافي، وبين بعض الحكومات التي كان أي أمر من الأمور التي تندرج في إطار الاصلاح رجساً من عمل الشيطان في نظرها، غير مترددة في إخراس كل من تُسول له نفسه مجرد الهمس به.
كان واضحاً يومها ان دعاة الاصلاح الجُدد في عالمنا العربي، الذين هم سبب الفساد والقمع وعلتهما، تصرفوا مع موجة الاصلاح تلك على طريقة إحناء الرأس للعاصفة حتى تمر، بدل الوقوف ازاءها فتطيح بهم أنواؤوها القوية، وهم في ذلك كانوا يحتكمون الى غريزة السلطة، وهي غريزة أُمتحنت في المحن، التي دلتهم أن هذه الموجة شأنها شأن كل عاصفة لا يمكن أن تدوم طويلاً، فسرعان ما ستنجلي الغمة، وتعود الأمور الى نصابها المألوف وكأننا «يا بدر لا رحنا ولا جينا».
اليوم، بعد التغيير الذي شهدته تونس نحن ازاء موجة مشابهة، فالخطابات التي سادت في شرم الشيخ، تشير إلى أن الجميع بات متيقناً مما كان عليهم أن يتيتقنوا منه منذ زمن طويل بأن البطالة والغلاء والتأهيل المهني وسواها من تحديات معيشية تقصم ظهر الغالبية الساحقة من الشباب العرب المحبطين والشاعرين بانسداد الآفاق أمام أعينهم.
إبان موجة الدعوة للاصلاح التي سرعان ما هدأت دون أن نشهد إصلاحاً جدياً طالب الكثيرون أن تجري المبادرة للاصلاح من داخل بلداننا، قبل أن تفرض وصفة الاصلاح الأمريكية المحمولة على الدبابات على هذه البلدان.
وإذا كان هناك من يتعظ فليجعل من التغيير التونسي حافزاً للمعالجة الجدية لبواعث الانفجار التي يمكن أن تجعل من نموذج تونس نموذجاً مُعمما، فيما بالوسع تفادي التضحيات واراقة الدماء بخطوات جريئة حان أوانها.


صحيفة الايام
26 يناير 2010
اقرأ المزيد

«فاماه» لا تعرف المجتمع المخملي

ان من الواجب أن اختار وانشر موضوعا عن يوم المرأة البحرينية في شهر ديسمبر من عام 2010 وليس في سنة جديدة تخفي لنا فيها من المفاجآت الكثيرة «الحلو والمر» وعلى مدى شهور كنت ابحث عن موضوعي، عن تلك المرأة التي تستحق أن أقول فيها نصوصا قريبة من القلب، إذ سيتولى غيري من المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدنى وأقلام خصصت نفسها للمناسبات!! بتسليط الضوء على نساء عملن في أمكنة مختلفة وأعطين الوطن والتنمية والمجتمع ما يمكنهن فعله وبحجم الظروف المتاحة، ستهتم تلك الموضوعات بمستويات مختلفة من النساء من اجل تكريمهن وبقول كلمة حق فيهن، إذ تستحق كل امرأة في البحرين ذلك التكريم، سواء كان تكريما شكليا مستعجلا أو تكريما حقيقيا تستحقه فعلا تلك المكرمات بعيدا عن روح المجاملة، إذ من الضروري أن تكون هناك معايير وتصنيفات لجهود المرأة البحرينية، التي منحت حياتها للعمل والمجتمع والأسرة وفي النهاية للوطن. كنت أفتش عن موضوعي الحيوي، فإذا به يقف أمامي منتصبا كتمثال، كانت هناك «فاماه» واقفة بعكازها وشيخوختها عند مسجد أبي بكر في العشر الأواخر، تنتظرنا أنا وأخي لكي تقول لنا تعزيتها القلبية في فقدان شقيقنا الأكبر، كانت لحظاتها صعبة في صيف حار فيما النساء يندفعن مزدحمات نحو الصلاة، ومع ذلك غفرت لنا تأخرنا لتقول كلمتها الجميلة «انتم عيالي» فهل قليل على أم الحي كله وتاريخه أن نقّبل رأسها احتراما في تلك الأمسية الحزينة. امرأة عرفتها كل زاويا الحورة وجدرانها وبيوتها الناعسة في صيف رطب، كنا نقضي صبية وفتيان أمام بابها في ذلك الزقاق، فتندفع أصواتنا لها في الداخل وهي جالسة تطبخ وجبتها، بيت ظلت «المرفاعة» فيه تحتضن الصافي المقلي، ليتسلل بعضنا ويسرق تلك السمكات من بيت امرأة كانت تكدح طوال نهارها من اجل لقمة الأطفال، الذين تركهم المرحوم فجأة في عنقها وهي في ربيع شبابها، كان كل شيء في حياة «فاطمة» يانصيب، فزواجها وهي صغيرة يانصيب، إذ لم تكن تدري أين يسوقها قدرها؟ وكيف ستنتهي محنتها كأرملة في عمر مبكر وبدزينة من الأطفال. 
كيف كان عليها أن تواجه مأساة الفقدان في أزمنة بعيدة؟ حيث لا توجد مؤسسات خيرية ولا مجتمعية ولا صناديق ولا حتى راتب شهري للتقاعد، كل ذلك في بحرين الأمس كان معدوما، وعلى المرأة / الأرملة أن تتقبل وضعها الهش والمطحون في طين المعاناة، بموقف صلب الإرادة، صامت الملامح ودون ادعاء، موقف مكابر وجليل في كيفية إطعام وكسوة أطفالها في بيت بسيط في كل شيء إلا تلك البقرة الحلوب، التي صارت احد الأعمدة الهامة لساعد فاطمة العنيد وإرادتها الحديدية. مثل كل جيلها من النساء ستذهب فاطمة لبيت زوجية لم تكن تختاره أو بإمكانها أن ترفضه، فهكذا كان زواجها يانصيبها الأبدي لرجل لن تعرف كيف سيكون شكله وطبيعته وطباعه.
السعادة كانت مفردة هلامية في ثقافة مجتمع الأمس، والتعاسة مفهوم مجرد وقاموسي اعتدن عليه نساء البيوتات الفقيرة، فكن يضحكن ويعملن ويثرثرن دون خوف أو خشية من الغد القادم، إذ تركن مصيرهن لجملة واحدة هي «رحمة الله» فهي التي تظلل سقفهن البائس حتى وان نام الصغار يتضورون أو يشعرون ببرد قارس. كل شيء على الكفاف والجفاف في بيت فاطمة الصبورة المعاندة، فكان عليها أن تفكر بمهنة إضافية إلى مهنة بيع الحليب من بقرتها للجيران، في زمن لم يكن فيه «الهوم دليفري» home delivery واقعا حاضرا كما هو في يومنا، حيث في كل زاوية هناك خدمات متنوعة، وحدها ابتكرت فكرة تقديم خدمات لكل بيوتات الحورة بطريقتها السلسة وبطيبتها النادرة وبقلبها الفياض بالمحبة، بأن تحمل قفتها من الصباح الباكر في زحمة الشتاء وقسوة الصيف، فتمضي مشيا على أقدامها من الحورة حتى سوق المنامة، تاركة خلفها الشمس نائمة في بحر الحورة من جهة الشرق، مستمتعة بخيوط الصباح الفضية الأولى وهي تجرجر نفسها نحو السوق للتزود من المئونة حسب الاحتياجات الشعبية والعائلية، فقد كانت الطلبيات متنوعة، إذ لا يمكن أن ينتعش بالثرثرة والنميمة في مجلس «ام فلان» إن لم تكن «حبة الخضرة» والنقل والسنبل وحب الفساد حاضرة لإزجاء وقت عبثي في حوش نسائي تتطاير منه حكايات الأمس الرائع. كانت فاطمة الممول الدائم لتلك البيوت والدكان الصغير المتجول في الأزقة وفي البيت لمن أراد أن يتزود من السمبوسة والروتي، بل وكن النساء يهمسن لها بطلبيات الرازجي والمشموم والياسمين والحناء، بل ولا توجد حدود لما يردن النساء سرا للأزواج والبنات المتطلعات لزوج منتظر، مشموم فاطمة وياسمينها رافقنا عمرا طويلا، إذ عايشتها كيف تقطع تلك الطرقات مثلما تقطع خطاها دروب الحياة الوعرة. كن العائلات ينتظرن صبحا ومساء حليبها، وزوادتها من تلك المؤونة الضرورية لزمن كانت النساء فيه لا يعرفن الخروج بأكثر من مسافة بيوت الجيران، ولم يكن قادرات على الوصول لدكاكين شاحبة وشحيحة إلا من علب الخوخ والكرز والأناناس، والذي لا يمكن شراؤه من تلك الدكاكين إلا عندما يأتي زائر مفاجئ وعزيز من مسافة بعيدة وغير متوقعة. 
كنت أراها مثلما كنت اسمع أخبارها في الغربة إنها ما تزال مكابرة برغم خيوط الزمن في وجهها، اختفت تلك النضارة ولكن الابتسامة ظلت تنبع من وجهها قادمة من أعماق القلب، فنساء زمن فاطمة لم ارهن يضعن الماكياج ولا يعرفن الصالونات، فهي بطبيعتها خلقت كادحة وستموت كادحة، عاشت مكابرة وستموت مكابرة تنشر فرحها على كل بيوت الحي. كبرنا نحن مع فريقنا العربي، الذي كان بيتها هو الفرع الثاني للمقر، وكل صبية الحي يجوبون في حوشها أو يقفون أمام بابها المطل على الشارع الرئيسي، ومن هناك ستأتي فاطمة بكل مشمومها وياسمينها وبيعها اليومي لكي «تشكه» بيديها للصبية الذين جاؤوا بالكأس والدرع للحورة، لتقول لهم «رفعتم رأسنا» فيما نحن فرحين برأسها الوفي وهي تنثر على اللاعبين مشمومها وتزغرد وكأنما الحورة في زفاف جماعي لا يتكرر. 
ظل المشهد في ذاكرة وأحاديث جيل كامل، حيث انتصارات مباريات الدوري يومذاك تذكرك بعودة جيوش إغريقية من ايثاكا في حروب طروادة. لقد تضوع يومها فضاء الحي المفتوح رائحة مشموم متناثر من يديها وعلقت بعضها على الأعناق، فكان لنا فرحا عظيما في نادي العربي، النصر ومشموم فاطمة. ألا تستحق نوعية فاطمة وساما من طراز مختلف يلتفت إليه النواب ومؤسسات المجتمع المدني فهن موجودات في الأحياء ولكنهن منسيات، ربما لأنهن لا يمتلكن سجلا تجاريا ولا ينتمين للمجتمع المخملي.


صحيفة الايام
25 يناير 2011
اقرأ المزيد

العمال وتطوير الرأسمالية


لعل التجربة التونسية تعطينا مساراً لتطور الرأسمالية في العالم العربي بشكلٍ سلسٍ و”نقي”، فالجذورُ الفلاحية الواسعة وكثافة الفئات الأخرى فهذه جوانبٌ محدودة، ويعطينا التطور التونسي شغيلة عمالية واسعة وحداثة وحضورا سكانيا تحديثيا وشريحتين كبريين عامة وخاصة من الرأسمالية في صراعٍ وتعاون لتشكيل مجتمع الحداثة الذي هو بالضرورة ضمن التشكيلة الرأسمالية.

وهذا مختبرٌ علمي لمسائل التطور الاجتماعي لا نجدهُ بحثيا في موقع آخر، فلن تتشكل الاشتراكية إلا بصورة بعيدة، ويلزمنا في كل بلد في العالم الثالث تطوير الرأسمالية والصراع معها.

من الجوانب الرئيسية المهمة في تونس هو أن الرأسمالية الحكومية استغلتهم وطورتهم معاً، إن مجتمع الحداثة المنشود لدى حزب الاستقلال الدستوري، ونحن لا نتكلم هنا عن حفارِ قبورٍ بل عن قوةٍ وطنيةٍ صراعية، خلاقةٍ، هو مطورٌ للعمال، وقد جعلهم أكبر قوة اجتماعية مؤثرة بحراكها النضالي وبأصواتها الانتخابية.

لكنهم اعتبروا أداة، قوى اجتماعية مخفضة الأجور، ملحقة سياسيا بذلك الحزب، إلى أن بدأت تستقل مع الشرائح الوسطى والصغيرة في حراك متصارع متداخل.

وفي حين لدينا فئات وسطى مغمورة بفيوض النفط في الكويت لكن العمال جزءٌ من المتفرجين والباحثين عن الغنائم الاستهلاكية والمرتبطين بتقاليد بدوية. إن وضعهم الاجتماعي لم يهيئ لهم دورهم بنائيا في التحول الديمقراطي العميق.
أو مثل الفئات الوسطى اللبنانية لديهم فيض من المعرفة لكنهم مذيلون لإقطاعيات متخلفة مذهبية وتابعة لدولٍ خارجية كذلك.

والفئات الوسطى المصرية أكثر الفئات تحركاً من أجل الديمقراطية عربيا لكن مسيطر عليها من قبل آلة بيروقراطية عظمى وطبقة عمال متخلفة.

إن المسألة ليست مسألة انتحار وحرق، المسألة في وجود طبقة عمالية واعية ساندت الفئات الوسطى الديمقراطية وعملية التطور الاجتماعي بشكل طويل وافترقت عنها في محاور سياسية واجتماعية معينة، حين توجه هذه الفئات غالبية الفيوض النقدية لأهدافها وليس لتطوير البلد ككل وقواه البشرية وتقدمه المشترك.

المختبر التونسي واسع جغرافيا وبشريا، والتقدم المشترك يعني تطوير العملية الرأسمالية الوطنية بحيث تنمو جميع القوى بمقادير، تنصب في نسب التطور الرأسمالي المعين في كل حقبة، فالتشبع في السياحة والصناعات الخفيفة وإنتاج المواد الخام، وتحولات العملية الرأسمالية العالمية، وضرورة التجديد في إنتاج السلع، تفرض على المتابعين للشأن التونسي إحداث عملية تحول كبيرة في الاقتصاد، وهذا التحول لا يأتي من دون تبدل في شروط الإنتاج الراهن، وخاصة في القوى البشرية العاملة التي وقفت عند مستوى قديم متخلف.

وفيما لا تستطيع الطبقة العاملة اللبنانية أن تشارك حتى في إحداث السلم الأهلي وهزيمة المنظمات الطائفية المستولية على الوجود الكلي لهذا الشعب المغيب، يغدو العمال التونسيون في موقع مختلف، بسبب الطبيعة الوطنية الديمقراطية التي شكلها حزب الاستقلال الدستوري في عقود سابقة.

ثمة أهمية كبيرة لوجود برجوازية وطنية توحيدية فهو تراث وواقع يجب عدم نسيانهما، وبضرورة تطويرهما تأريخا نقديا، وواقعا تعاونيا صراعيا.

ومن هنا فإن انزلاق اليسار المتطرف مع القوى الدينية لضرب حزب الاستقلال الدستوري وهما قوتان هامشيتان ترفضان العقلانية وحكم القانون التحديثي لأنهما تمثلان قوى هامشية في المجتمع، يعبرُ عن توجيه المجتمع نحو التطرف والفوضى وبقاء المجتمع التقليدي وعدم تطوره لديمقراطية حديثة إلا عبر الجمل الحادة.

إنهما قوتا البرجوازية الصغيرة الفوضويتان، وفي زمن المشاعر والحدة وخداع بعض العمال تتمكنان من تخريب بعض جوانب التطور إن لم تفشلاه كله، إذا كانت الجماهير فاقدة للوعي.

والقطاع العام أو الرأسمالية الحكومية ضرورية مع مواجهة الفساد فيها، وبالتالي فإن شراكة تعاونية حقيقية على أسس القانون القابل للتطوير دائماً عبر المؤسسات التشريعية مطلوبة أكثر من أي وقت مضى.

ولكن هذه الجوانب الخداعية تسهل الأمر للقوى المحافظة القديمة ولقوى الجيش الطامحة للسلطة أن تستغل انفلات الأمن فتعيد الموال القديم نفسه.

أخبار الخليج 22 يناير 2011

اقرأ المزيد

ملائكيـــــــة..


ماذا يحدث عندما نلغي ما هو أدنى، باسم ما هو أعلى؟
أعني بالأعلى، ما ننسبه إلى الألوهية أو الآخرة أو المبدأ أو الأخلاق أو الوطن أو القانون أو المُثل أو الحزب أو الجماعة، والأدنى ما ننسبه إلى الإنسان من حياة دنيوية واحتياجات طبيعية ورغبات بشرية، أو ما ننسبه إلى تجاربه من فكر ومعرفة وفهم وممارسة .

نقول أعلى لأن الأولى طالما مثلت في تاريخ حياة الإنسان أصلاً لوجوده، وطالما شكلت مقدساته ويقينياته التي يدير باسمها صراعاته وحروبه وخلافاته، أو يدفع حياته ثمناً لها، أما الأدنى فهي غالباً ما تعتبر وجودات ثانوية يمكن أن يُستغنى عنها ويُضحى بها باسم الأولى ومن أجلها.

في كتابه «هل الرأسمالية أخلاقية؟» يسمي «سبونفيل» إلغاء الأدنى باسم الأعلى ملائكية. الملاك هنا لا يشير إلى مفهوم ديني بقدر ما يشير إلى مفهوم تجريدي، من حيث أن الملاك يمثل حالة «عليّة» في العادة، لكنها كممارسة الغائية، ليست مختصة بالأنظمة الدينية، بل تجدها في الأنظمة الإلحادية والشيوعية وفي الأنظمة القومية والفاشية بنفس الدرجة. فكلها تشترك في الإلغاء، وفي خلط الأعلى بالأدنى، وفي عدم القدرة على التمييز بين مجاليهما. الأمر الذي يترتب عليه تقديم خطاب عقلاني تافه بالمعنى الباسكالي.

****

تبرز الملائكية في مجتمعنا عبر خطابات تلغي إرادة البعض باسم الدين. مثال: في مقتبس من خطاب مناهض لقانون تنظيم مكبرات الصوت في المآتم والمساجد، معتبراً اقرار القانون محاولة لتقزيم للدين، يقول «اذا قزم الدين في هذا البلد وهو أعز ما يكون على مواطنيه الشرفاء الأصليين، فقد قزم كل صوت حر، وألغي كل حق، ووئدت كل حركة إصلاح».

الأعلى هنا هو الدين الذي يمثله هذا الخطاب، والذي يقدم نفسه أنه الصوت الحر، وكل الحق، وحركة الاصلاح في المجتمع. والأدنى الذي يلغيه هذا الخطاب قانون التنظيم، ومن يقول بالحاجة إلى قانون التنظيم. الخطاب ليس فقط يلغي القانون، لكنه يلغي أيضاً كل من يؤيد هذا القانون ويعتبره مقزِّماً للدين، وصوتا غير حر، وحركة ضلال، ولا حق له، ولا شرف، ولا أصل.

كذلك تبرز الملائكية عبر خطابات تلغي الإرادة السياسية للبعض باسم الدولة أو الحكم أو القانون. مثال الخطابات التي توصل رسالة اعلامية مفادها أن «الاصوات التي تدعو لفتح ملفات الفساد وتمارس نقدها العلني للدولة تقوم بالتحريض ضد النظام الحاكم وتبث الكراهية للنظام الحاكم». أو تلك التي تؤكد بأن «عدم إصدار بيان تنديد بشغب الشوارع تحريض على الإرهاب». أو تلك التي تقول «أن رفض قانون معينً يعني التشكيكك في شرعية الدولة والمؤسسات».

الأعلى في هذه النماذج هو النظام الحاكم أو الأمن أو الدولة. والادنى هو المعارض أو صاحب الرأي المختلف. هذه الخطابات ليست فقط تلغي إرادة المختلف وحرية تعبيره عن رأيه، بل تلغي المجتمع المدني والحياة المدنية، وتلغي الحيز العام الذي يصوغ فيه أفراد المجتمع اختلافاتهم ويعرضون فيه حقائقهم ويشكلون فيه رؤاهم المتعددة والمتباينة.

****

هل يمكن أن يقينا الأعلى من الوقوع في تفاهة الخلط؟
نعتقد أحياناً أن الحديث باسم حكمة الأعلى، يمكن أن تكسب حديثنا حكمة وحصانة وحصافة ويقيني من الوقوع في التفاهة والخلط. يمكن القول إن أكثر الحماقات أو التفاهات نرتكبها بسبب هذه الثقة. الثقة في أن الأعلى يمنح كلامنا شيئاً من علوه، حضور الأعلى يغنينا عن حضور الأدنى. يعمينا عن أن نرى الأدنى فنلغيه. ليست الأيدلوجيات فقط من يقوم بذلك، ولا الحركات الأصولية هي فقط من تقوم بذلك، بل حتى المشيخات تلغي الأدنى باسم الأعلى حين تستخدم الأعلى ذريعة لضرب الأدنى، فتقول إن دولة القانون أولى من حق الناس في الاعتراض، وأن الوطن أسمى من الاحتجاج.

التفاهة هنا ليست راجعة إلى أن الأعلى تافه في ذاته، لكنها تعود إلى أن الأعلى تافه في استخدامه، بمعنى أننا نستخدمه استخداماً تافهاً.

ما يجعل لهذا الاستخدام معقوليته وحضوره في وسائل الاعلام وفي الشارع السياسي أو الديني هو غياب الحيز العام. الحيز العام هو المكان الذي ليس في الدولة «النظام» ولا في حيز الأفراد الخاص «الجماعة أو الطائفة». هو المكان الذي يقع بين الدولة وبين الحيز الخاص، يتيح للآراء أن تتداول وتعبر عن اختلافاتها بحرية وبأمان. في هذا الفضاء المفتوح يمكننا تعرية التفاهات وكشف الخلط الذي تمارسه هذه الخطابات على اتباعها.

الحيز العام إذا ما تم التضييق عليه من قبل السلطة السياسية أو الدينية، كثرت التفاهات التي تضج بها خطاباتنا الدينية والسياسية والاجتماعية.

وكلما تم الغاء الحيز العام باسم الدولة، تراجع الأفراد إلى وكر حيزهم الخاص، وصار متنفسهم جماعتهم أو طائفتهم، وصارت هي «الأعلى» بالنسبة لهم، التي تلغي كل ما سواها.

****

هل الملائكية انتصار للأعلى؟ هل تعزز وجود الأعلى؟ أي هل الغاء الانسان باسم الله يعزز وجود الله، والحياة الدنيا باسم الآخرة، والفرد باسم الجماعة، والمواطن باسم الوطن، والعامل باسم العمل، والتعددية باسم الوحدة؟
على عكس ما تتمناه الملائكية، فإن الغاء الأدنى هو الغاء للأعلى. فإلغاء الإنسان هو الغاء لله. لأن وجود الله مقترن بوجود الانسان الذي هو صورته التي تشبهه على الأرض. الله لا يُعرف إلا بمعرفة الإنسان. كذلك الغاء المواطن باسم الوطن هو الغاء للوطن. لا وطن بلا مواطن. وكل ما يتعلق بالمواطن هو عينه ما يتعلق بالوطن.. وهكذا.. إلغاء الأدنى باسم الأعلى، يجعل الأعلى يبدو وكأنه وجود اقصائي قاس بغيض غاضب شرس دموي عنيف. في حين تعزيز قيمة الأدنى باسم الأعلى يجعل الاعلى يبدو متسعاً محباً رحباً متسامحاً ومثالياً. فما ترانا نختار؟
 
الأيام 23 يناير 2011

اقرأ المزيد

هدايا وشظايا..!


قبل أن تستقبل كنيسة الإسكندرية شظاياها وجثثها وضحاياها كان العالم يحتفل بتوديع عام 2010 بأمنيات كبيرة وصغيرة، يكون فيها الشعب التونسي هو أكثر من استقبل هدايا ثمينة لا تقدر، هدايا ليست قادمة من سانتو كروز ولا منظمات خيرية غربية ولا عالمية تفرح قلوب ضحايا الفيضانات في استراليا والبرازيل ولا موتى هايتي، إذ بعد أن نكبهم الزلزال استلمتهم الأوبئة فكانت الكوليرا حاضرة ولكنها ليست على طريقة ماركيز وروايته عن الحب في أزمنة الكوليرا، وإنما كوليرا تفتك في الألفية الثالثة، بعد أن اعتقد العالم المعاصر انه قضى عليها.
 
كانت الهدايا تطير في العالم الغربي عبر البريد، تفتحها العائلات فرحة وسعيدة بدنيا الله المسالمة بروح التسامح، فقراء عالمنا‍‍، يضجون تحت وابل الرصاص والدم وقبضات فرق الشغب والسجون والملاحقات، كانت الهدايا هناك والشظايا في العالم العربي والإسلامي تفوح برائحة الدم والبؤس، وكأنما هناك عالمين منقسمين بين الأثرياء والفقراء، تجسدت صورته واضحة في عالمنا نحن، فلم نستلم الهدايا ولا العطايا الإنسانية في بيوت الفقراء والمحرومين، وإنما بعثوا لنا بطرود من المتفجرات والتفخيخ والقتل والإرهاب، هكذا استيقظنا منذ بداية شهر ديسمبر حتى السابع عشر منه، لكي نشهد نهاية فصل الاعتصام والاحتجاجات العمالية في تونس بفاجعة البوعزيزي ليذكرنا احتجاجه بالنار بأنها تشعل نورا كما هي تلك العبادات الزرادشتية التي تمنحنا قبس من نور كرمز للخير في مواجهة الظلام، كانت نار البوعزيزي تشتعل في جسده ولكنها تتوهج في طرقات وأحياء وقرى تونس، تشتعل هناك في الجزائر وجوارها، تنفخ برمادها المتطاير نحو الجغرافيا العربية الساكنة ولكنها المكتومة بالغيظ والغضب، يذكرنا البوعزيزي التونسي بأولئك البوذيون عام 1963 الذين كانوا يحتجون على اضطهاد حكومة سايغون في جنوب فيتنام، فكانت شظايا التعنت الأمريكي وحلفائه في تلك الحكومة تفتك في شعب وثوار فيتنام من السماء والأرض دون رحمة في أقسى حرب تحررية عرفتها حضارتنا في قرنها المنصرم، وكانت الشظايا الفيتنامية – الأمريكية تتطاير في اتجاهات متعددة لتحمل لنا هدايا جديدة معنوية وتضامنية هزت البيت الأمريكي والمجتمع المدني، فتحركت القيثارات غناء وتفجرت الحركة الشبابية العالمية احتجاجا على كل ما يدور في فيتنام، فكانت هدية الإنسانية من فيتنام المتفجرة، بأن طريق النور والحرية لا يمكن أن يشعله القديسون والأبطال وحدهم وإنما هبة شعب متحد بوقفة متماسكة لا تلين حتى آخر المشوار من المسيرة الكفاحية.
 

كان الدرس الفيتنامي حاضرا في جسد البوعزيزي ولا وعيه دون أن يرتدي ملابس الكهان البوذيين، فقد كان لكفره «السياسي» وتمرده سببا واضحا هو الجوع وانتهاك الكرامة في الأوطان . ما زالت الساعات والأيام القادمة تحمل لنا في صناديق البريد هدايا متعددة الأشكال وشظايا متعددة الأوجه، فنحن بين فردوس الأمل نعيش الحلم ونحن بين جحيم الموت نتوقع الشظايا أن تأتينا من احد الجانبين، شظايا ورصاص السلطة وشظايا الفوضى والإرهاب والتطرف، فتسقط الأوطان تحت قبضة الشيطان المجهول!!
 
هكذا حاولت فلول الحرس الرئاسي التونسي فعله بعد رحيل الرئيس، لكي تقدم للعالم صورة مرتبكة عن الانتفاضة السلمية المدنية، التي واجهت الرصاص الحي بصدور مفتوحة وإرادة قوية صلبة أقوى من الرصاص . كانت لحظتها الشظايا الإجرامية في مواجهة الإرادة الشعبية، والتي صارت بعد الفراغ السياسي عرضة لتلك الأقنعة والوجوه الملثمة والسيارات المتحركة المشبوهة والعناصر السرية، التي تقاتل في لحظتها الأخيرة بيأس وانكسار وخوف وهروب .

عندما تتفكك الدولة القمعية تواصل في رمقها الأخير الأجهزة الخاصة كحلقة ضيقة في النظام, باتباع سياسة الأرض المحروقة وتقديم صورة مشوهة عن الانتفاضة السلمية بأنها انتفاضة نهايتها الفوضى والخراب، لكي يبدو المشهد لوحة مأساوية وبكائية على المنهزمين، فقد راهنوا على أن تلك الفوضى ستجلب لهم نصرا مجددا وعودة إلى أروقة التعذيب والسلطة، من مارسوا الترويع في الناس ليلا ونهارا في تونس لم يحسبوا حسابا واحدا، أن هذه اللعبة انتهى زمنها، وعندما يسقط النظام فان من الصعب أن تستطيع حلقاته المفككة استعادة رباطة جأشها ولملمة وحدتها «المهنية» فمثل هؤلاء في هذه اللحظة التاريخية يكتشفون انهم كانوا مجرد أزلام نظام تخلى عنهم وكان يدفع لهم أجورا من ميزانية بلد مسروق وفاسد. يصبح مثل ذلك الإنسان لحظتها إما منكسرا حد التكفير واليأس وطلب المغفرة أو يكون حقودا معاديا يواصل تعنته وسلوكه المتوحش لكي يبرهن أنه مخلصا للنظام المنهار والمتفكك وفي ذات الوقت يدافع عن وجوده، تناسخ روحه ووجوده مع الاخر/ النظام القمعي.

في مثل هذه اللحظة تتفكك الفرق الخاصة لحماية النظام وتصبح مجموعات متناثرة تسعى للهروب ولكن دون فائدة ولا مساعدة، منتظرين لحظة الحظ العاثر بين فكي الغضب والانتقام الشعبي والانتقام الذاتي، فيما بينهم إذ يحاول كل طرف تحميل المسؤولية الطرف الاخر.

أخيرا كانت الهدية الكبرى للعام الجديد للشعب التونسي هو خلاصه من حكم لم يكن إلا صورة سوداء في ذاكرته وشظايا مقيتة انتزعت روح 60 تونسيا من الأبرياء، واجهوا القمع بصدر مفتوح وإرادة عنيدة، انتصرت في نهايتها حتى وإن كانوا لن يشهدوا ذلك الفرح مع شعبهم، ولكنهم سيكونون دائما وأبدا في ذاكرته الجميلة كمعنى للبطولة، فالموت يخلق التدمير ولكنه ينتج حياة جديدة رائعة.

أشعار ستخلدهم وأغنيات وشوارع ومنعطفات، ستصبح عنوانا لتلك الأسماء النبيلة من طوابير شهداء تونس الجديدة. البوعزيزي لم يقرأ شكسبير ولكنه عاش مثله هذا الخلود الإنساني حين ردد مثله «يجعلوننا نجوع، وعنابرهم محشوة بالقمح. يصدرون المراسيم للربا، ليدعموا المرابين. يلغون كل يوم أي قانون شرع ضد الأغنياء، ويأتون كل يوم بالمزيد من الشرائع الجارحة، لغل الفقراء وكبحهم. إن لم تلتهمنا الحروب، التهمونا هم» . مأساة كريولانس – شكسبير
 
الأيام 23 يناير 2011

اقرأ المزيد