المنشور

“انتخابات فنزويلا” مجابهة بين النهج التحرري وقوى التبعية والإفقار – مقال موريس نهرا

الانتخابات الرئاسية التي ستجري في فينزويلا يوم الأحد 7 تشرين الأول الجاري، تحظى باهتمام كبير لا يقتصر على الشعب الفينزويلي، بل وفي الخارج أيضاً، وبخاصة لدى شعوب أميركا اللاتينية.. وينجم ذلك عن الدور المحوري الذي تلعبه فينزويلا في المجابهة العامة التي تخوضها هذه الشعوب من أجل تحررها الوطني والتفلت من أسر التبعية لواشنطن وسيطرتها، والخروج من مستنقع الفقر والبؤس والتخلف الاقتصادي والاجتماعي..


ومع أن فينزويلا ليست دولة عظمى، فمساحتها تبلغ 912050 كم2 ، وعدد سكانها حوالي 29 مليون نسمة، إلا أنها مع وصول الرئيس هوغو تشافيز إلى قمة السلطة معتمداً النهج التحرري الديمقراطي وعلى خطى القائد المحرر سيمون بوليفار، تحولت من بلد عادي ضمن حديقة واشنطن الخلفية، إلى احتلال مكانة بارزة في عملية الصراع التاريخي لشعب فينيزويلا، وشعوب أميركا اللاتينية، التي وجدت في مواقف تشافيز الشُجاعة في مواجهة امبريالية الولايات المتحدة وضغوطها، تجسيداً لطموحها إلى الحرية والتقدم الاجتماعي، وتعبيراً عن إرادتها في تعاظم مسيرة نضالها التاريخي التي تجمعها مع الشعب الفينزويلي وحدة القضية والمصير المشترك..


وارتباطاً بالاهتمام الواسع بهذه الانتخابات، يتوافد إلى فينيزويلا مئات المراسلين والإعلاميين والمراقبين الأجانب. ليواكبوا هذه العملية ومجرياتها ونتائجها…


ومع أننا في لبنان والمنطقة العربية على بعد آلاف الأميال عن فينيزويلا، فإن هذه المعركة الانتخابية تعني شعوبنا أيضاً، فمعركتنا النضالية مشتركة وكل نجاح في موقع فيها، يشكل تعزيزاً لدور المواقع الأخرى.. ولم ننسَى ذلك الموقف الحازم للرئيس تشافيز ضد الحرب العدوانية التي شنها العدو الصهيوني على لبنان في تموز 2006، وتضامنه الكلي مع مقاومة شعبنا لصدّ هذا العدوان، بالإضافة إلى التضامن الثابت مع نضال الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية التاريخية، وقضايا شعوبنا الأخرى ضد مخططات السيطرة الأميركية، إنطلاقاً من إعتبار أن الحرية لا تتجزأ وتعني كل شعوب الأرض.


فهذا النهج التحرري الطبقي والوطني، والتضامني مع قضايانا، هو الذي يجعل شعبنا وكل الوطنيين والديمقراطيين والشيوعيين في الجاليات اللبنانية والسورية والفلسطينية في فينيزويلا، يقفون إلى جانب الرئيس تشافيز ونهجه البوليفاري.. ويزيد في الموقف الداعم له، كون منافسه في المعركة الانتخابية كابريليس هو من أسرة يهودية، وتدعمه بقوة، واشنطن والرجعية المحلية، وجميع الشبكات الصهيونية في أميركا اللاتينية.فنجاح تشافيز في هذه المعركة يشكل ترسيخاً لنهجه التحرري والتضامني مع قضايانا ومع شعوب القارة اللاتينية، في حين أن خصمه يمثل خطاًً سياسياً معاكساً لمصالح شعب فينزويلا وشعوبنا، وفي صالح العدو الصهيوني.


لقد أتى اكتشاف أكبر احتياطي نفطي في العالم في فينزويلا، ليزيد من شراسة الاحتكارات الأميركية الضخمة للسيطرة على هذه الثروة، التي توفر لنجاح تشافيز في السلطة، إمكانية ودوراً أكبر ليس في الداخل الفينزويلي فحسب، وإنما في محيط فينزويلا وأميركا اللاتينية بوجه عام.. فالعملية الثورية البوليفارية التي شكلت استجابة للمصالح الوطنية والاجتماعية للجماهير الفينزويلية وبخاصة الطبقات الكادحة والفقيرة، قد شكلت مثالاً وتأكيداً لما أظهرته ثورة كوبا وصمودها، بأن بإمكان الإرادة الشعبية أن تنتصر حتى في بلدان صغيرة، رغم الاختلال بالتوازن الدولي، واستمرار محاولات واشنطن ورغبة بالتمسك بأحادية القطب والسعي للتحكم بالوضع العالمي، وإقامة نظام دولي يتيح لها الهيمنة على العالم.. وتركت قوة المثال الوارد ذكره، انعكاسات كبيرة لدى شعوب تلك المنطقة، وأدت إلى نهوض جماهيري واسع للتيارات التحررية واليسارية في العديد من بلدان تلك القارة.. وقد شكل وصولها إلى السلطة بالطريق الديمقراطي والانتخابات، ضربة أليمة مزدوجة، لمخططات السيطرة الأميركية، ولعملها الدعائي الذي تحاول فيه التظاهر بأنها تساند الديمقراطية وحقوق الإنسان. فممارستها العملية ضد أنظمة وقوى وصلت إلى السلطة، بالديمقراطية وتحافظ على الديمقراطية، قد أسقطت القناع عن وجهها وكشفت دورها العدائي والتحريضي ضد الرئيس تشافيز وأمثاله أو القريبين من مواقفه في البلدان الأخرى، الذين وصلوا إلى السلطة بالديمقراطية..


وإن إخفاقات أعوان الولايات المتحدة وأتباعها أمام صعود التيار الديمقراطي اليساري في العديد من تلك البلدان، جعلها تلجأ إلى نشر المزيد من وجودها العسكري في أراضي ومياه تلك القارة، تعويضاً عن تراجع نفوذها فيها.. وأن الغرض الأساسي من هذا الانتشار هو الضغط على الأنظمة والحكومات التي تعتمد سياسات استقلالية وتحررية، والتهيئة والجهوزية لتدخل عسكري وأمني لمساندة القوى السائرة بركابها..


لقد وصل عدد القواعد العسكرية في العام 2007 إلى 17 قاعدة، وارتفع هذا العدد اليوم إلى 39 قاعدة، بالإضافة إلى 46 طرّاداً حربياً تشكل قواعد متنقلة في المحيطات.. وتنشىء قاعدة كبيرة في تشيلي، واتفاقات أمنية وتدريبية عسكرياً في دول أخرى..


وفي مواجهة الدور البارز للرئيس تشافيز في تعزيز التعاون والعمل التوحيدي لبلدان أميركا اللاتينية، بإقامة منظمات إقليمية مثل “petrocaribe,alba,unasur” تركز واشنطن على معاكسة هذه المنظمات ومحاصرة فينزويلا.. وقد زارت وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون عام 2011، الجزر الصغيرة في محيط فينزويلا، واستطاعت توقيع معاهدة معها تحت عنوان “مبادرة أمن الكاريبي” والغاية “إخراج السمكة من المياه” أي منع تأثير فينزويلا ودورها في محيطها.. وبالأمس القريب ساندت واشنطن الانقلاب الذي جرى في الباراغواي على الرئيس لوغو، المنتخب من الشعب، وقبله محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة ضد رئيس الاكوادور. هذا إضافة إلى الانقلاب العسكري في هندوراس منذ بضع سنين، وما سبقه وما رافقه من أعمال إجرام واغتيال للقيادات السياسية والشعبية؛ بما في ذلك رئيس أساقفة سان سلفادور أوسكار روميرو، بدور معروف للمخابرات المركزية CIA. وبالارتباط مع هذه الأهداف والمخططات السوداء، سعت دوائر واشنطن بما لها من أتباع واختراقات في فينزويلا لخلق مشكلات وأعمال تخريب وإجرام فردي، لإفتعال حالة من الارتباك وزعزعة الثقة في قيادة الدولة، متعاونة في ذلك مع القوى اليمينية والبرجوازية الكبيرة في شن الحملات الإعلامية وتمويلها واستخدام جميع الوسائل لمنع نجاح الرئيس تشافيز في هذه الانتخابات..


وبالرغم من هذه الحملات والصعوبات والنواقص، والتركة الموروثة، والاختراقات، فإن الرئيس تشافيز استطاع بنهجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والوطني، أن يحقق مكاسب مهمة للشعب وجماهير الكادحين والفقراء، على طريق بناء فينزويلا جديدة متحررة وديمقراطية، توظف ثرواتها في خدمة الشعب وتطور البلاد.. وفي هذا السياق فإن المؤسسة المعنية للأمم المتحدة تشير إلى أن فينزويلا هي الدولة الأقل تفاوت اجتماعي بين المواطنين في دول أميركا اللاتينية.. وأنها الدولة الثانية بعد كوبا في نسبة الطلاب الجامعيين، وفي المرتبة الخامسة في العالم..


وأن معدل البطالة في البلاد إنخفض إلى 6.2%، وهو في أوروبا أكثر من 20%.. ومعدل الفقر في فينزويلا وفقاًً لتقارير المنظمات العالمية في عام 1998، كان 43.9 % وفي الأشهر الأخيرة من عام 2011 تراجع إلى26.7% ونسبة الذين تحت خط الفقر في العام نفسه هي 7%.. وفي المجال الصحي ثمة انجازات بارزة في جعل التطبيب بمتناول الجميع.. ففي البلاد 7721 مركزاًً صحياًً حتى عام 2011، ويتخرج هذا العام 8 الآف طبيب للعمل في المناطق والأرياف..


أما في الحقل التعليمي فوصلت نسبة التعليم الابتدائي إلى 93% عام 2009، وجرى توزيع 907 الآف جهاز كمومبيوتر شخصي للطلاب، و934688 كومبيوتر محمول للأولاد عام 2011 .. فهذه الانجازات وغيرها من المكاسب بالإضافة إلى الشعور بالكرامة الوطنية والاعتزاز بالاستقلال الفعلي والتحرر من التبعية، قد شكلت وتشكل في هذه الانتخابات دافعاً أساسياً لوقوف الطبقات الشعبية وفقراء فينزويلا، والوطنيين الفنزويليين، بصلابة، إلى جانب الرئيس تشافيز وحماية استمرار نهجه البوليفاري في قيادة البلاد..


إن لهذه المعركة الانتخابية طابعاً مفصلياً بالنسبة للشعب الفنزويلي، وبعداً أميركيا لاتينياً، كمؤشر في الصراع الجاري في المنطقة والعالم.. وأن نجاح القائد تشافيز يشكل عامل نهوض جديد لشعوب أميركا اللاتينية وللمسار التحرري العام للشعوب.
اقرأ المزيد

الأمم المتحدة وفلسفة اللاعنف من أجل تحقيق كرامة الشعوب

في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2007 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة
«اليوم الدولي لنبذ العنف»، وذلك تزامناً مع ذكرى ميلاد المهاتما غاندي،
زعيم حركة استقلال الهند ورائد فلسفة واستراتيجية «اللاعنف». وكما تؤكد
أدبيات الأمم المتحدة، فإنها تحيي هذا اليوم الدولي وتدعو إلى نبذ العنف
واستخدام المبدأ كأداة لتحقيق السلم والأمن في العالم.

وخلال احتفال
الأمم المتحدة هذا العام، قال رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة فوك
يريميتش: «إن العالم الذي نعيش فيه الآن يتسم بالكثير من التعصب السياسي
وعدم التسامح، وإن اللاعنف هو أداة فعالة في تحقيق السلم والأمن في
العالم».

وأضاف يريميتش «إن حياة غاندي غير العادية من الصعب
محاكاتها بالكامل. هناك عدد قليل استطاعوا الاستمرار في اتباع المعايير
التي وضعها، ولكن المهم هو عدم التخلي عن محاولة التفكير والتصرف مثلما
فعل، والسعي إلى الارتقاء إلى مثله وتطبيق فلسفة اللاعنف في القرارات التي
نتخذها».

وتوضيحاً لشخصية غاندي، أشار وزير الشئون الخارجية الهندي
شوري كريشنا – كما أشار إلى ذلك بيان من الأمم المتحدة – إلى أن المهاتما
غاندي كان قليل الصبر لأجل التغيير، ولكنه تجنب العنف كأداة لفرض وتيرة
التغيير، وأضاف «في كلمات غاندي، وأنا أقتبس: إن اللاعنف هو أقوى من أعتى
أسلحة الدمار التي وضعتها براعة الإنسان».

الممثل الخاص للأمين العام
للأمم المتحدة في العراق مارتن كوبلر دعا في تصريح بمناسبة اليوم الدولي
لنبذ العنف كل العراقيين إلى الالتزام بحل النزاعات عبر الوسائل السلمية
فقط، وقال إنه قلق إزاء تزايد أعمال العنف التي شهدها العراق في الفترة
الأخيرة، مشيراً إلى الأرقام الرسمية التي أفادت بأن شهر سبتمبر/ أيلول
2012 كان أكثر الأشهر دمويةً في العراق منذ أكثر من عامين، حيث أسفرت
الهجمات عن مقتل أو جرح أكثر من ألف شخص. وشكلت الجرائم الدامية، التي
مازالت تلحق بالعراقيين، صدمة لكثير من الأطفال الأبرياء والأمهات والآباء
وللناس من مختلف مناحي الحياة. ودعا كوبلر كل رجل وامرأة في العراق إلى
رفض أعمال العنف هذه والتي لا يمكن تبريرها بأي حال من الأحوال، داعياً
حكومة العراق إلى معالجة الأسباب الجذرية وراء العنف وضمان تحقيق عملية
سياسية حقيقية شاملة تحترم وجهات نظر ومصالح كل مجتمعات العراق.

البروفيسور
المتخصص في فلسفة اللاعنف، جين شارب، قدم بحوثاً حول طبيعة العنف، سعياً
إلى إيجاد بديل حقيقي يعتمد على اللاعنف، ويشير في كتاباته إلى أن تبرير
العنف من خلال الحديث عن الدفاع عن الحرية والعدالة والدين والمعتقد ونشر
الحضارة، ليس الخيار الأفضل، وأن البديل للعنف هو النضال اللاعنفي بكافة
أنواعه السلمية النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويتحدّث كثيراً
عن المقاومة اللاعنفية التي قادها غاندي في الهند ضد الاستعمار البريطاني.

ويشير
شارب إلى مفاهيم خاطئة شائعة لدى الناس تقول بأن العنف هو الأسلوب الأقصر
للتغيير، وأن النضال اللاعنفي يحتاج إلى مدة طويلة لتحقيق أهدافه. وأن خيار
العنف هو خيار الأقوياء، وأن خيار النضال اللاعنفي خيار الضعفاء. وأن
النضال اللاعنفي لا ينفع مع الأنظمة الدكتاتورية التي لا تؤمن بحقوق
الإنسان وقد تنجح في الأنظمة التي تؤمن بحقوق الإنسان.

وبما أن الأمم
المتحدة تحث الشعوب على استخدام اللاعنف، فإن من واجب الأمم المتحدة أن
تطور آلياتها لحماية الشعوب التي تنتهج هذا الأسلوب لتحقيق مطالبها
المشروعة التي تحدّدها بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والأمم المتحدة
لديها إمكانات كبيرة تستطيع من خلالها أن تؤثر في مجرى السياسة الدولية
لكي تدعم بذلك أطروحتها الداعية إلى تحقيق السلام الدولي، وفي الوقت ذاته
احترام حقوق الناس الأساسية في العيش بكرامة من دون قمع واضطهاد.

ريم خليفة
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

عبدالناصر الراحل الباقي



في نفس كل عربي من جيلي ومن الجيل الأسبق شيء ما من الناصرية . على الصعيد الشخصي رويت في كتابي »ترميم الذاكرة« شيئاً عن الفكرة التي مثلها جمال عبدالناصر في ذهني ووجداني وأنا تلميذ في المدرسة، وحكيت عن الفاجعة التي مثلها رحيله المبكر بالنسبة إليّ، وهي ليست أكثر من حصة كل فردٍ منا من الفجيعة الجماعية التي عمت العالم العربي يومها .


ويوثق أحد الأفلام الروائية البحرينية التي أُنتجت في السنوات القليلة الماضية، تلك اللحظة المؤثرة من تاريخنا، حين خرج البحرينيون إلى الشوارع في جنازات رمزية وداعاً لعبد الناصر الذي ما من زعيمٍ مثله أشعر الأمة باليتم بعد رحيله، ومن سوء حظي أنني ذهبت إلى القاهرة التي عشقتها ولاأزال، للدراسة الجامعية في منتصف السبعينات، وكانت القوى الناقمة على عبدالناصر منشغلة بتصفية إرث الرجل، وهو على كل حال إرث عصيّ على المصادرة، من وجهة النظر الوجدانية والتاريخية على أقل تقدير . 


حضرتْ هذه التداعيات في ذهني وأنا أطالع ما جاء في أوراق المفكر العبقري الراحل جمال حمدان التي أعدها شقيقه في كتاب . تتحدث الأوراق، كما يفهم من العرض الذي نقلته الصحافة، عن قضايا مفصلية تتعلق براهن مصر ومستقبلها، وبالدور المنوط بها، ويبدو أن بصيرة جمال حمدان التي تنطلق من قراءته المتأنية لواقع الحال، جعلته أميل إلى التشاؤم إزاء المستقبل، ولكننا سننظر إلى هذا التشاؤم من قبيل أنه الباعث على شحذ الهمم لتفادي السيناريوهات السيئة .


لكن من بين أهم الإضاءات التي تضمنتها الأوراق، هي تلك الإشارة النابهة إلى مكانة ودور جمال عبدالناصر والناصرية في تاريخ مصر المعاصر، فحسب جمال حمدان، فإن جمال عبد الناصر هو أول، وللأسف آخر، حاكم يعرف جغرافيا مصر السياسية . أكثر من ذلك يرى حمدان أن الناصرية هي المصرية كما ينبغي أن تكون، وفي كلمات قاطعات يقول: »أنت مصري، إذاً أنت ناصري«، حتى لو انفصلنا عن جمال عبد الناصر أو رفضناه كشخص أو كإنجاز . ويضيف: »كل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج على الناصرية، لأنه لو فعل ذلك سيخرج عن مصريته، فالناصرية هي بوصلة مصر الطبيعية، لأن المصري »ناصري قبل الناصرية وبعدها ومن دونها« .


مرت ذكرى رحيل جمال عبدالناصر هذا العام، ومصر تكاد للتو تفرغ من نتائج انتخاباتها الرئاسية التي حملت إلى الرئاسة رجلاً من التيار الأشد خصومة للناصرية، تيار الإخوان المسلمين، لكن أحد المتنافسين الرئيسين في تلك الانتخابات آتٍ من التجربة الحزبية للتيار الناصري، نعني به حمدين صباحي الذي وإن لم يفز، وحتى لم يتمكن من التأهل إلى الدور الثاني من الانتخابات، لكنه حصد من الأصوات ما أظهر أن قاعدة شعبية عريضة في مصر مازالت ترى في نهج وفكر عبدالناصر، طريق مصر نحو الخلاص . ولعل في هذا مصداقاً لما تحدث عنه جمال حمدان، بمعنى أن من صوتوا لحمدين لم يكونوا ناصريين بالمفهوم الحزبي والفكري، وإنما كانوا مصريين بالحدس العفوي الذي ربط عزة مصر ومجدها بالمرحلة الناصرية تحديداً . والفكرة هنا في مغزى التجربة وروحها، وهما الباقيان اللذان يجدر استلهامهما، أما الحيثيات والتفاصيل فإنها تظل ماضياً لن يعود .
اقرأ المزيد

برامج على المحك



بعض الباحثين حللوا الشق الاجتماعي  الاقتصادي في برامج القوى الإسلامية التي صعدت إلى السلطة، أو حققت نجاحات لافتة في الانتخابات التي شهدتها بعض البلدان العربية، ولاحظوا أنه من حيث الجوهر لم تقدم هذه القوى برنامجاً مختلفاً عن ذلك الذي كانت الأنظمة السابقة تطرحه، من حيث العلاقة مع قضايا التنمية والتبعية، ومعالجة المشكلات المعيشية الحادة كالفقر والسكن وفرص العمل والتأهيل المهني وغيرها . 


لذا، فما يبدو نجاحاً قد يتحول مع الوقت إلى مأزق، حين تنتظر الجماهير الغفيرة التي منحت أصواتها لهذه القوى تحسناً ملموساً في أوضاعها فلا تجده، وحين تشعر القوى الحديثة بأن ما تحقق بفضل تحولات مديدة في مجتمعاتها من منجزات تتعرض لمخاطر المصادرة من قبل القوى الصاعدة مؤخراً، وحين يطرح المجتمع على نفسه أسئلة كبرى عن مآل الأمور . 


منذ شهور خلتْ سمعتُ زعيماً يسارياً مصرياً يروي أنه التقى في إحدى المناسبات، أحد قيادات حزب الحرية والعدالة “الإخوان المسلمين” في مصر فهنأه على النتائج المتقدمة التي كان ” الإخوان ” قد أحرزوها في انتخابات مجلس الشعب، قبل أن يجري حله عشية الانتخابات الرئاسية، فبادره الزعيم الإخواني بالإجابة: ” تُهنئنا على ماذا؟ هذه النتائج ألقت علينا أعباء كبيرة، فحجم المشكلات في البلد كبير، وعلينا أن نثبت قدرتنا على تقديم الحلول لها” .


هذا القول يختصر فكرة جوهرية تحتاج إلى شرح طويل، ذلك أن أقوى سند قُدم ويُقدم لبعض القوى غير الديمقراطية في بنيتها الفكرية والسياسية، هو إبقاؤها في خانة المعارضة، وعدم الدفع بها لأن تضع ما تعد به من برامج على محك الاختبار الفعلي، لأنه من السهل جداً رفع الشعارات المعارضة، والذهاب بها إلى أقصى الاحتمالات، لكن المعضلة تنشأ حين يصبح المعارضون في السلطة، حيث يتعين عليهم إثبات أنهم قادرون على تصحيح الأخطاء والتجاوزات التي كانوا ينتقدونها .


إزاء وضعٍ كهذا، يتأكد صواب الفكرة التي نحن بصددها، وهي أن الرهان في هذه الحالات هو على الآليات الديمقراطية نفسها، لكي توفر فرص تغيير الخيارات الخاطئة، وتمكين الناس أنفسهم من إعادة توجيه المخرجات الانتخابية في مدار آخر، وهو يضع على عاتق القوى الديمقراطية تحدي قيادة التحرك ليس فقط من أجل التغيير، وإنما أيضاً من أجل ألا تمس الآليات الديمقراطية للتغيير، ومن ضمنها الانتخابات الحرة والشفافة .


للهروب من الاستحقاق الديمقراطي ثمة من كان يُردد ومايزال، أن لنا ديمقراطيتنا، ولا يمكننا مجاراة شكل الديمقراطية في الغرب، ويذهب الغلو ببعضهم ليقول انظروا ماذا فعلت الديمقراطية في لبنان: لقد أحرقته، لكن ليست الديمقراطية هي من أحرق لبنان، وللدكتور سليم الحص مقولة مأثورة في هذا المجال هي: ” في لبنان الكثير من الحرية وفيه القليل من الديمقراطية” .


الراحل الدكتور إسماعيل صبري عبدالله ردّ مرة على الأطروحات القائلة إن ديمقراطية الغرب لا تناسبنا بحجة دامغة، حين قال ما معناه: فليكن الأمر كذلك، شريطة ألا يكون البديل هو غياب الديمقراطية . ليست الشعوب هي من يتحمل غياب الثقافة الديمقراطية، إنما الحكومات، فالتطاول على فضاءات المجتمع المدني الحديث ومصادرتها كاملة، حال دون المجتمع في أن يكون قوة متكافئة مع الدولة، يراقبها ويُصحح أخطاءها، ما أسهم في تمكين القوى غير الديمقراطية في المجتمع، ومكنها من جني ثمرة التغييرات .
اقرأ المزيد

أريك جون آرنست هوبسباوم في ذروة المجد – عادل حبه



في عام 1856، تحدث كارل ماركس بما يأتي:” أنا أعرف البطولة التي اجترحتها الطبقة العاملة الانكليزية في نضالاتها منذ منتصف القرن الماضي. إن هذه النضالات المجيدة قد سجلت في دائرة الغموض من قبل المؤرخين المنحدرين من الطبقة الوسطى” قال كارل ماركس ذلك في مرحلة كان المؤرخون الانكليز الليبراليون فيها يتسيدون على هذا المجال المعرفي دون سواهم. ولكن هذه الحالة تغيرت بفعل التغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية التي طرأت على العالم، وتحديداً على القارة الأوربية ومن ضمنها بريطانيا، لينشأ جيل جديد وبعقلية ونظرة جديدة من المؤرخين المتأثرين بنظرة كارل ماركس وتفسيره للتاريخ.


ولقد برز من بين كل هؤلاء على الساحة الأوربية والعالمية في
بداية القرن العشرين ما يعرف بمجموعة المؤرخين الماركسيين البريطانيين.
وبادر هؤلاء المؤرخون إلى كتابة التاريخ “من الأسفل إلى الأعلى”، وتركوا
تأثيراً كبيراً على الحوارات والجدل الذي جرى حول التاريخ الأكاديمي في
مواجهة التاريخ الشعبي. ودخلت الدراسات الخاصة بالطبقة الدنيا وتاريخ عامة
الناس، دراسة التاريخ “من أسفل إلى أعلى”، في صدر مواضيع الجدل والحوار
الذي جرى آنذاك. فركز المؤرخون الماركسيون البريطانيون على بسطاء الناس،
مما غير الطريقة التي كان يجري التعامل بها مع التاريخ في السابق. فبالنسبة
إلى “هيل” و إي. بي. ثومبسون، من مجموعة المؤرخين الماركسيين البريطانيين‘
فإن “التاريخ ليس هو عبارة عن كلمات مدونة على الورق، ولا ملوك متعاقبين
ولا رؤساء وزراء، وليس مجرد أحداث، فالتاريخ بالنسبة لهؤلاء “هو الحلو
والدماء والدموع وانتصار الناس العاديين”. واعتمد هؤلاء المؤرخون على مقولة
وردت في البيان الشيوعي لكارل ماركس “إن تاريخ كل المجتمعات القائمة، هو
تاريخ الصراع الطبقي”، ولذا اعتبروا أن تاريخ بريطانيا ما هو إلاّ “الصراع
بين الطبقة الدنيا والطبقة الحاكمة “. واعتبر هؤلاء المؤرخون “إن عامة
الناس هم لا يقفون في خلف الأحداث، بل انهم رواة التاريخ، وهم ليسوا العمال
ومنتجي النعم المادية والمتمردين فحسب، بل أيضاً هم رموز الثقافة وأصحاب
الرؤى”. ويعتقد هؤلاء المؤرخون أنه من الواجب تلبية الحاجات الإنسانية
الأساسية مثل الطعام والمأوى قبل التعامل مع السياسة والدين أو الفن.
فالمؤرخون الآن أكثر اهتماما بدراسة حياة الناس المهمشين من الاهتمام
بتأثير العوامل الاقتصادية على مر العصور. واعتقد هيل، على سبيل المثال، أن
الحرب التي جرت في انكلترا في القرن الثامن عشر لم تكن حرباً أهلية فحسب،
بل ثورة احتماعية بكل معنى الكلمة، شأنها في ذلك شأن الثورة الفرنسية
والثورة الروسية.


ويعتقد المؤرخون الماركسيون البريطانيون أن النخب الحاكمة تخشى التاريخ،
وتحاول فرض سيطرتها على المؤلفات والدراسات التاريخية من أجل الابقاء على
العامة بعيداً عن مسار الأحداث التاريخية. ولكن ظهور المجموعات الماركسية
البريطانية كسر هذا الاحتكار مما أدى إلى بروز عمالقة في كتابة التاريخ في
بريطانيا. ولعلنا نشير إلى قمة وأوج من تصدر هذه المجموعة، وهو المؤرخ
البريطاني أريك جون آرنست هوبسباوم، الذي غادر هذه الدنيا في أحد مستشفيات
لندن قبل أيام، في 1 تشرين الأول 2012، عن عمر ناهز الخامسة والتسعين. 


ولد أريك هوبسباون في اسكندرية مصر في التاسع من حزيران عام 1917 من أب
انكليزي وأم نمساوية. ودرس في فترة ما بين الحربين العالميتين في أحدى
مدارس فيينا قبل أن يضطر إلى السفر إلى برلين عام 1931 بعد رحيل والديه.
وانضم في برلين عام 1931 إلى عصبة الشباب الشيوعي الألماني وتعلق بالافكار
الماركسية. واضطر بعد سنتين من تسلم هتلر السلطة إلى الهرب إلى بريطانيا
واستقر في العاصمة لندن في عام 1934 وانضم هوبسباوم إلى الحزب الشيوعي
البريطاني في عام 1936، واصبح لاحقاً ضمن المجموعة الحزبية المتخصصة بكتابة
التاريخ عام 1946- 1956 في مطلع شبابه قدم للدراسة في مادة التاريخ في
جامعة كمبريدج، وحصل على شهادة الدكتوراه من نفس الجامعة. وفي أثناء الحرب
العالمية الثانية شارك في الخدمة العسكرية حتى نهاية الحرب عام 1945 ثم
تولى التدريس في كلية بيركبيك في لندن، التي لم يُستخدم فيها رسمياً بسبب
آرائه السياسية حتى عام 1971 ومن المفارقة أنه أصبح رئيساً لها في عام 2002
وحتى رحيله. كما عمل هوبسباوم محاضراً زائراً في جامعة ستانفورد وفي معهد
ماساشوسيتس للتكنولوجيا وفي جامعة كونويل، اضافة إلى التدريس في بعض
المعاهد الفرنسية والمكسيكية..وفي عام 1956 احتج هو وعدد من مفكري الحزب
على الغزو السوفييتي لهنغاريا. واستقال جميع أعضاء اللجنة المتخصصة
بالتاريخ من الحزب، باستثناء هوبسباون الذي ظل محتفظاً بعضويته في الحزب
الشيوعي البريطاني حتى عام 1991، عام انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي عام
1956، اعتبر “هوبسباون” الحركة في هنغاريا وبولونيا “ثورات العمال
والمثقفين ضد بيروقراطية النظام السياسي الشيوعي الكاذب”، ووجه رسالة يدين
فيها بقوة غزو هنغاريا. وتعاطف لاحقاً مع ربيع براغ عام 1968 كما ادان موقف
الحزب الشيوعي الفرنسي السلبي ازاء انتفاضة الطلاب الفرنسيين. وأصبح
لاحقاً نجماً بارزاً في الفرع البريطاني “للشيوعية الأوربية”، ليبدأ نشاطه
في نقد التجربة السوفييتية.


وفي عام 1978 قدم هوبسباون محاضرته المثيرة للجدل “الطبقة العاملة
البريطانية بعد مئة عام من كارل ماركس”، والتي نشرت في مجلة “ماركسيسم
تودي” اللندنية. وقد أشار في المقال إلى “أن الطبقة العاملة تفقد دورها
المركزي في المجتمع، ولم يعد باستطاعة الأحزاب اليسارية مخاطبة هذه الطبقة
فقط”. لقد تناول المؤرخ هوبسباون في مقالاته وأبحاثه ومحاضراته الكثير
والكثير من المواضيع. فقد تناول كمؤرخ ماركسي “ثنائي الثورة”، أي الثورة
السياسية الفرنسية والثورة الصناعية البريطانية. ورأى في تأثيرهما كقوة
محركة للتيار السائر نحو الرأسمالية الليبرالية القائمة اليوم. كما تناول
ما سمي بـ”مجتمع قطاع الطرق”، وهي الظاهرة التي سعى هوبسباون إلى أن يضعها
ضمن حدود ذات صلة بالسياق المجتمعي والتاريخي، وليس كما تؤكدها الفكرة
التقليدية على كونها شكلاً عفوياً وغير متوقع من التمرد البدائي. ونشر
العديد من المقالات في عدد من مجلات الشباب، والتي تتناول البربرية في
العصور الحديثة ومعضلات الحركات العمالية والصراع بين الفوضوية والشيوعية
وتاريخ الماركسية والأمم والقوميات والديمقراطية والإرهاب والعولمة وحول
التاريخ والقرن الجديد والناس غير العاديين والكثير غيرها. كما غطى في
مقالاته وأبحاثه الأحداث التاريخية بدءاً منذ الثورة الفرنسية عام 1689
وانتهاء بالحرب العالمية الأولى عام 1914 


ولكن أوج إبداع هذا المؤرخ العبقري، هو رباعيته المشهورة، “عصر الثورات” و
“عصر الرأسمال” و “عصر الأمبريالية” و “عصر التطرف”. وشكل هذا المؤلف الضخم
عصيرة كل معارفه وأفكاره التي استندت إلى الفهم المادي التاريخي الماركسي
للتاريخ. لقد رحل هذا المؤرخ الكبير، ولكنه خلف وراءه إرثاً تاريخياً
كبيراً من المؤلفات والافكار التي أثارت ومازالت تثير الجدل حولها وحول
مؤلفها، بين مؤيد لأفكاره وناقد لها. فقد أشار الناقد نيل فيركوسون إلى “أن
هوبسباوم هو بدون شك واحد من أعظم المؤرخين من جيله…فرباعيته، التي بدأت
من “عصر الثورات” وانتهت بـ”عصر التطرف”، تشكل أفضل بداية لكل من يسعى إلى
دراسة التاريخ الحديث”. كما عرف الناقد أيان كيرشو كتاب هوبسبان “عصر
التطرف” بأنه “يشكل تحليلاً بالغ المهارة لتلك الفترة من التاريخ العالمي”.
ويصف المؤرخ البريطاني ديفيد بريس-جونس هوبسباوم أنه “بدون شك عالي
الثقافة وخلاق، ولم يقدم خدمة ملحوظة للتاريخ فحسب، بل كمؤرخ مهني سعى إلى
التمسك بالحقيقة الموضوعية”.


لقد رثى رئيس الوزراء العمالي السابق توني بلير هوبسباون ووصفه بأنه” عملاق
التاريخ السياسي التقدمي، والذي ترك تأثيره على كل القادة السياسيين
والأكاديميين. كما نعاه الزعيم الحالي لحزب العمال أد ميلباند واصفاً أياه
” كمؤرخ استثنائي، أخرج التاريخ من برجه العاجي ليلامس حياة الناس
العاديين”. ونعاه السيد مارتين شولس، رئيس البرلمان الأوربي الذي قال فيه”
أنه رجل من طينة نوعية استثنائية وغير عادية من الوضوح”. 



طريق الشعب
اقرأ المزيد

تحديات القوة الاقتصادية الصاعدة لمجموعة ” بريك “



ما مدى جدية وصدقية التحليلات التي تذهب إلى أن دول مجموعة »بريك« (البرازيل، روسيا، الهند، والصين تعاني خللاً اقتصادياً، وهيكلياً تحديداً، وهو يتعلق بشيخوخة سكانها، وتحديداً أيضاً بقوة العمل غير النشطة اقتصادياً لديها، أو ما تسمى بالفئة العمرية المعتمدة على برامج الضمان والرعاية الاجتماعية، وهي الفئة العمرية من 65 سنة فما قوق .


بلاريب هو تحد حقيقي، خصوصاً بالنسبة إلى روسيا أولاً والصين ثانياً . الصين التي تحصد جزئياً بعض مما ورّثته لها سياسة تنظيم النسل الصارمة (ابن واحد لكل عائلة)، وروسيا نتيجة لانخفاض معدل الخصوبة لديها، واتساع فجوة معدل الإحلال الطبيعي بين الوفيات والولادات الجديدة، وتدهور المستويات المعيشية لدى قطاعات واسعة من الشعب الروسي بسبب التفجير الاجتماعي الهائل الذي أحدثه سقوط الاتحاد السوفييتي وتناثر وتبعثر أجزائه . يضاف إلى ذلك أن روسيا تعاني معضلة أخرى وهي نزف الأدمغة وذلك طوال عقد التسعينات من القرن الماضي، حيث جفت مصادر تمويل مراكز وبرامج الأبحاث ما نتج عنه هجرة أكثر من مئة ألف من خيرة العلماء والباحثين للعمل في الخارج حسبما أفاد بذلك »بنك كوميرسانت« الروسي في أحد تقاريره لشهر نوفمبر الماضي وذلك استناداً إلى تقديرات أكاديمية العلوم الروسية . حتى ان فلاديمير بوبوفكين مدير وكالة الفضاء الروسية أرجع سبب سقوط أجزاء من محطة ميريديان الفضائية في الثالث والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول الماضي في سيبيريا نتيجة لفشل عملية اطلاق صاروخ سويوز، أرجعها إلى تسرب قوة العمل العلمية من برامج ومراكز الأبحاث الفضائية والعلمية . وإذا أضفنا إلى ذلك أن حوالي نصف مليون عامل روسي سوف ينضمون هذا العام إلى قائمة المتقاعدين، وهو ما يعني مضاعفة عجز صندوق التقاعد بما يعادل 3% من إجمالي الناتج المحلي الروسي، فإن تأمين السوق بما يحتاجه من امدادات قوة عمل حيوية يغدو تحديا حقيقيا . وهو ما ينطبق على البرازيل (عضو مجموعة »بريك«) التي يرتفع فيها عجز صندوق التقاعد بواقع 10% سنوياً بحسب وزير الضمان الاجتماعي جاريبالدي أفيس، ما دفع الرئيسة البرازيلية دلما روسف لسن تشريع يخفض مساهمة المرافق العامة في صندوق التقاعد .


كل هذا أو معظمه صحيح، خصوصاً في ما يتعلق ببعض الأوضاع الخاصة بشيخوخة السكان خصوصاً في حالة روسيا والصين كما أشرنا . ولكن من الواضح أيضا ان هناك مبالغة في إظهار هذا الجانب على انه أكبر من عائق للنمو المستقبلي لدول »بريك«، حسبما تذهب الميديا وبعض الدوائر الاقتصادية في مؤسسات المال الغربية لحد وصف المشكلة بالكابح الذي سيلتهم أكثر من نصف متوسط معدلات النمو المرتفعة في هذه البلدان لاسيما الصين .


بل إن تكثيف التغطيات الإعلامية على هذا الجانب من الاختلال الذي هو هيكلي بلاشك نظراً لاتصاله بأحد عناصر ديناميات نمو الدورة الاقتصادية وهو هنا سوق العمل ومرونته في تأمين إمداد الاقتصادات القومية لهذه البلدان بحاجتها من قوة العمل النشطة، وغيره من جوانب ومكامن الضعف في اقتصادات بلدان »بريك«، يشي بأن ذلك عمل مقصود ويندرج في اطار الحرب الاقتصادية الباردة بين الاقتصادات المتقدمة بقيادة أمريكا والاقتصادات الصاعدة بريادة الصين . ذلك أن الدأب الإعلامي على التشكيك في مستقبل النمو في بلدان »بريك« يرمي في أحد أهدافه إلى عادة توجيه ونشر الاستثمارات العالمية المباشرة وغير المباشرة، بما يؤدي إلى انحسار حجم هذه الاستثمارات المتدفقة سنويا على هذه البلدان .


حتى رئيس إدارة الأصول في مجموعة جولدمان ساخس نفسها جيم أونيل يقر بأن الحجم الضخم لاقتصادات دول »بريك« الأربع (البرازيل، روسيا، الهند والصين) »سوف يؤمن بقاءها في وضع المهيمن الإيجابي على الاقتصاد العالمي واتجاهات نموه« . ويضيف »بأنه حتى لو تباطأ نموها فإنها ستظل تتخطى الدول المتقدمة على مدى العقود المقبلة، بما سيرفع حصتها في إجمالي الناتج العالمي إلى 40% بحلول عام ،2050 وان حجم اقتصادات الدول الأربع سوف يتخطى حجم الاقتصاد الأمريكي بحلول عام ،2015 أي بعد ثلاث سنوات من الآن .


ثم إن مشكلة الشيخوخة السكانية ليست حصرا على دول »بريك«، فخمسة من عشرة أكبر اقتصادات في العالم هي اقتصاد اليابان والمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا تندرج ضمن أكبر الدول ذات المعدل العمري العالي للاعتماد على برامج الضمان والرعاية الاجتماعية، بحيث تنوء اقتصاداتها بأثقال متطلبات الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي .


ولا ننس أن دول رأسمالية قيادية مثل فرنسا التي تواجه هي الأخرى هذه المشكلة بين سكانها الأصليين فتعوضها عن طريق الاستقدام (استقدام العمالة الرخيصة من الدول النامية خاصة الدول التي كانت فرنسا تستعمرها حتى الأمس القريب)، وتجسدت هذه المشكلة في عجز صندوق الضمان الاجتماعي عن الوفاء بالتزاماته تجاه اعداد المتقاعدين المتزايدة، فكان أن اتخذت الحكومة الفرنسية قرارا برفع سن التقاعد إلى 65 سنة بدلاً من 0_ سنة . وهو بالتأكيد أحد الخيارات المتاحة أمام دول »بريك« التي ستلجأ إليه على الأرجح ضمن حزمة إجراءات سوف تتخذها من بينها مثلا زيادة الأتمتة والمكننة وذلك بالاعتماد أكثر فأكثر على الصناعات كثيفة التكنولوجيا، خصوصاً أنها اقتصادات تتمتع بالحيوية وبقوة عمل عالية الانضباط خصوصا في ما يتعلق بالصين والهند .


ولذا فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن »المباراة« التنافسية الجارية بين الدول المتقدمة (الولايات المتحدة وحليفاتها الدول الأوروبية الغربية) وبين دول مجموعة »بريك« لن تبقى في ميدانها الاقتصادي الصرف، وإنما ستتعداه إلى الميدان السياسي . اذ ستجد الرأسماليات التقليدية نفسها غير قادرة على مجاراة فريق »بريك« اقتصاديا فتضطر لنقل »المباراة« إلى ميدان آخر هو اللعب على الحساسيات الإثنية والقومية والدينية في هذه البلدان من أجل اشغالها وتشتيت تركيزها التنموي بهدف إبطاء نموها . وهذا الخيار لن يتأخر كثيراً .
اقرأ المزيد

شعبوي آخر في البيت الأبيض



الولايات
المتحدة في أزمة حقيقية بعد أن تأكد بالنتائج التراكمية لمؤشرات أدائها
الاقتصادي، تدهور موقعها العالمي على الصعيد الاقتصادي . وجاءت الأزمة
المالية التي أصابت البلاد في العام 2008 لتكشف عن حجم تلك الاختلالات التي
لم يعد النموذج الاقتصادي المعتمد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية،
يستوعب محاولات العلاج التي بُذلت حتى الآن لاستعادة زمام المبادرة
والمنافسة الاقتصادية في السوقين المحلي والعالمي .


وعلى
ذلك، فإن آخر ما تحتاج إليه الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الراهن
وفي السنوات القليلة المقبلة، هو قيادة رجل مثل ميت رومني مرشح الحزب
الجمهوري لانتخابات الرئاسة المقبلة، يحاول أن يصل إلى سدة الرئاسة تارةً
عن طريق تقريع وشتم منافسه الرئيس باراك أوباما، وتخويف وتنفير الناخب
الأمريكي منه، وتارةً ثانية عن طريق الهزء بنحو نصف الشعب الأمريكي (نسبة
ال 47% من الشعب الأمريكي التي أعطت تأييدها للرئيس أوباما في استطلاع
الرأي الذي أُجري مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الجاري) وتحقيرهم بوصمهم بالكسل
وبأنهم عالة على المجتمع، لأن تأييدهم للرئيس أوباما مبنيٌ على الامتيازات
الاجتماعية التي يتلقونها . . وتارةً ثالثة عن طريق تسييس واستغلال الدين،
وأخيراً وليس آخراً، عن طريق »التعري السياسي« أمام اللوبي الأمريكي
الصهيوني المترامي الأطراف كما هو دأب جميع مقدمي أوراق اعتمادهم للترشح
إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية في تقديم فروض الطاعة والولاء ل»إسرائيل«،
حيث حرص في خطاب تتويجه مرشحاً رسمياً للانتخابات الرئاسية في مؤتمر الحزب
الجمهوري مساء الخميس 30 أغسطس/ آب الماضي، على التحدث عن أصله وعائلته
وكنيسته المورمونية وإيمانه بمذهب المورمون، واستنكر ما أسماه تخلي الرئيس
أوباما عن الحليفة »إسرائيل« وتخفيفه العقوبات على كوبا، وعدم نصب الصواريخ
في بولندا ضد روسيا . . واعداً بتغيير هذا الوضع وبأن »بوتين سيرى ليونة
أقل وتشدداً أكثر«! . . إلخ، من التهجمات الشخصية الرخيصة، وترداد العبارات
الاستعراضية المبتذلة التي لا تنبئ على الإطلاق بأية بشرى سارة للأمريكيين
.


فهل
هذا هو كل ما استطاعت النخبة الجمهورية الاهتداء إليه والدفع به إلى
الجمهور كخيار انتخابي يمكن التعويل عليه في تقديم حلول أكثر ابتكاراً
وفاعليةً من منافسة الرئيس أوباما للمشكلات الهيكلية الجسيمة التي تواجهها
أمريكا اليوم وغداً؟


نعم
من الواضح أن هذا هو الخيار الذي يريدونه، وهذا هو النهج الشعبوي الداخلي
والإمبريالي التوسعي الخارجي المصممون على إعادة العمل به، كما كان الحال
إبان ولايتي الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وذلك برسم حشد رموز هذا النهج
في مؤتمر الحزب الجمهوري الذي عقد في ولاية فلوريدا الجنوبية، مثل الرئيس
السابق جورج دبليو بوش ووالده الرئيس الأسبق جورج والكر بوش وجون ماكين
وكوندوليزا رايس، الذين أعطوا دعمهم الكامل للمرشح ميت رومني في »فزعة«
جمهورية صاخبة .


قد
تؤدي صفقات تمويل الحملة الانتخابية الخيالية للمرشح الجمهوري إلى فوزه في
الانتخابات . وحينها سيعود العمل بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية
المتطرفة وعسكرة السياسة الخارجية، تماماً كما وعد المرشح الجمهوري، حيث
أكد »أنه سينظر في تعديل النفقات العامة، إلا أنه لن يقلص النفقات
الدفاعية« . أي أن توجيهات نظرية ميلتون فريدمان النقدية Monitorism النيوليبرالية
التي تنادي بخفض النفقات الحكومية باستثناء النفقات العسكرية، ستعود إلى
الواجهة بقوة، مخفورة من جديد، بالنزعة الحربية المنبئة بتصعيد بؤر التوتر
الدولي .


مع
أن السياسات الاقتصادية المتطرفة لليبراليين الجدد (التوصيف السوسيو
اقتصادي لأنصار المذهب النقدي الفريدماني)، أو المحافظين الجدد (توصيفهم
السياسي الأيديولوجي)، هي المسؤولة عن تحويل الفائض في الموازنة الأمريكية
العامة الذي صنعته إدارة الحزب الديمقراطي إبان ولاية الرئيس بيل كلينتون
إلى عجز هائل، وهي المسؤولة عن جبل الديون التي تفوق إجمالي ناتج البلاد
السنوي، وهي التي قادت بصورة محتمة إلى كارثة الأزمة المالية/ الاقتصادية
في العام 2008!


هذا يعني أن الجمهوريين باتوا أسرى لخزانات الأفكار      Think Tanks المعروفة
بميولها النيوليبرالية المتطرفة، وأنهم لم يعودوا قادرين على مغادرة
نسختها المتوحشة والإتيان برئيس من خارج صومعتها . . في تصميم واضح على
فرضيتها ورؤيتها بأن مقاربتها هذه تحقق المصالح الاستراتيجية للولايات
المتحدة وتعيدها إلى موقعها الريادي بين الاقتصادات العالمية، وهو ما يخالف
الواقع على الأرض . وبحسب مدير الحملة الانتخابية للرئيس أوباما، جيم
ميسينا، فإن ما عرضه الحزب الجمهوري في مؤتمر تنصيب ميت رومني مرشحاً للحزب
في انتخابات الرئاسة، وعلى لسان رومني نفسه، إنما يمثل، على حد تعبير
ميسينا »خططه الفعلية التي ستعيد بلادنا إلى الخلف« . . وأن رومني »سيحقق
خمسة تريليونات من التخفيضات الضريبية للأثرياء تدفعها عنهم الطبقات
الوسطى«!


الولايات
المتحدة ومعها العالم بأسره لا يحتملان رئيساً أمريكياً شعبوياً جديداً
(الشعبوية مذهب سياسي يتوسل الدوغما، أي التبلّد الفكري، لدغدغة عواطف
العوام وكسب تعاطفهم وتأييدهم)، أخذاً بعين الاعتبار المنعطف التاريخي
العصيب الذي يجتازانه في الوقت الراهن، فالولايات المتحدة ومعها العالم
بأسره، بحاجة إلى رجلٍ عاقل ذي بصيرة وحكمة يقوم بجردة حساب لمسيرة بلد
»باع« نفسه للعالم بشعار ساحر وبراق هو »الحلم الأمريكي« . . للوقوف على
مواطن الضعف والقوة والخطأ والصواب من أجل مساعدة بلاده ومعها العالم
لاجتياز التحديات الجسيمة التي تواجههما .
اقرأ المزيد

«سيادة القانون» ترتبط بالأمن والتنمية وحقوق الإنسان

شهد اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر/ أيلول 2012
اعتماد جميع الدول الأعضاء (193 دولة) إعلاناً تاريخياً بشأن «سيادة
القانون» على الصعيدين الوطني (داخل كل دولة) وعلى الصعيد الدولي. وأهمية
الإعلان الدولي أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة توصلت إلى تفاهم مشترك
لتعريف مفهوم سيادة القانون، وأن هناك ترابطاً وثيقاً بين ثلاثة أركان
يعتمد عليها هذا المفهوم.

الأركان الثلاثة المترابطة مع سيادة
القانون هي تحقيق الأمن، وتحقيق التنمية، واحترام حقوق الإنسان. بمعنى آخر،
فإن أي نص تشريعي لا يحقق الأمن والسلام، ولا يمهد الطريق نحو التنمية،
ولا يحترم حقوق الإنسان، فليس هو القانون الذي تنشده الدول الأعضاء في
الأمم المتحدة.

وقبل أن يعترض بعض القراء، أعلم أن عدداً غير قليل من
الدول التي وافقت على هذا الإعلان التاريخي لديها قوانين قمعية لا تحترم
حقوق الإنسان ولا تخلق البيئة الحميمية للتنمية. ولكن المهم أن هذا الإعلان
التاريخي طرح على مستوى الأمم المتحدة ووافقت عليه الدول، تماماً كما
وافقت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948.

الأمين
العام للأمم المتحدة بان كي مون دعا جميع الدول الأعضاء إلى الالتزام
بتطبيق القانون على الصعيدين الوطني والدولي على حد سواء، وأشار إلى أنه لا
مكان للانتقائية في تطبيق القرارات والمقررات والقوانين. وأضاف قائلاً «لا
يمكننا أن نسمح للمصلحة السياسية الذاتية بتقويض العدالة». واقترح الرئيس
الجديد للجمعية العامة للأمم المتحدة فوك ييرميتش أن تستلهم الدول الأعضاء
كلمات الفيلسوف مونتسكيو «إن أقوى الدول هي التي تحترم قوانينها، لا من باب
الخوف أو المنطق، بل من باب الحماس والتمسك بها».

أحد المفكرين يشير
في إحدى كتاباته إلى أن إمكانية أي بلد في اللحاق بركب البلدان
الديمقراطية المتطورة سياسياً واقتصادياً تعتمد على وجود (أو عدم وجود)
ثلاثة أنواع من المؤسسات السياسية في ذلك البلد. النوع الأول من المؤسسات
يعطي الدولة قوتها، والنوع الثاني يحمي سيادة القانون، والنوع الثالث يجعل
الحكومة مساءلة ومحاسبة من قبل الشعب. فقد تكون هناك دولة قوية، ولكن حكم
القانون فيها ضعيف، بل قد يخضع القانون لرغبة المسيطرين على الحكم يفعلون
به ما يشاءون، وقد تكون هناك «دولة مؤسسات»، ويكون هناك «حكم قانون»، ولكن
الحكومة تصعب مساءلتها ومحاسبتها.

الأمم المتحدة في اجتماعها الأخير
في نيويورك ورطت جميع الدول الأعضاء باعتماد إعلان يقول إن القانون له
أركان محددة (أمن وتنمية وحقوق)، وإنه لا يوجد أحد فوق القانون، وإن الجميع
متساوون أمام القانون، ولهم الحق بالتمتع بحمايته… ومؤسسات المجتمع
المدني الساعية لخدمة مجتمعها لديها إعلان دولي آخر يدعم شرعية عملها نحو
سيادة القانون الملتزم بحقوق الإنسان.

منصور الجمري
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

ورَحَلَ إريك هوبْزْباوْم – محمد عبدالله محمد

طافَ عليَّ خبرٌ مبتور عبر الأثير، لم أدرِك فروة رأسه. الخبر يتحدث عن
وفاة أحد أشهر المؤرخين والفلاسفة المعاصرين. تساءلت: من الموافَى به حفرته
لوقت حِمَامِه (كما قالت بنت الأوس)؟ لكن وبعد أن عادَت ساقية الخبر مرة
أخرى، متبوعة برسالة من صديق على هاتفي الجوَّال، تبيَّن لي أن المعنِي في
الخبر الأول هو المؤرخ الإنجليزي الكبير إريك هوبْزْباوْم.

الحقيقة،
أن هذا الرجل لم يكن بالنسبة لي مؤرخاً لامعاً فقط، بل هو صديق حميم، ألتقي
به كل يوم مرتين أو ثلاث مرات تقريباً! نعم، هو ليس صديقاً لحمِياً
ومباشراً، أزوره وجهاً لوجه، فهو أولاً يكبرني بـ ثمانية وخمسين عاماً،
ويعيش في بلد يبعد عني أميالاً وأميالاً، لكن صداقتنا التي هي «من جانب
واحد»، انعقدت واستمرت من خلاله متابعتي الحثيثة لكتبه التي لا تقدَّر
بثمن، وأيضاً لشخصه ولآخر نشاطاته، التي ختمها بتأليف كتاب قبل وفاته بعام،
على رغم كهولته.

هوبْزْباوْم ليس صاحب فضل علمي على مدن فينا وبرلين
ولندن فقط، وإنما على عواصم العالَم كله؛ لأن فضله الحقيقي هو في ما أحدثه
من نهج علمي، والتزام أخلاقي بما كان يؤمن. وهو ليس عضواً في
الأكاديميتيْن البريطانية، والأميركية للفنون والعلوم، وأستاذاً في جامعة
بيربك والمدرسة الجديدة للبحوث فقط، بل هو أكبر من كل هذه الأمكنة، التي
تضيق سعتها عن سعته.

أقول هذا لأنني أدرك أن الجامعات لا ترتقي ولا
تزدهر بحيطانها ولا برفاهها، وإنما بشخوص الكادر التعليمي الذي بجوفها،
وبالمناهج الأكاديمية، والسَّمْت العلمي الذي تنتهجه. وفي الواقع، أن إريك
كان كادَراً ومَنهَجاً وسَمتاً علمياً بحد ذاته، استظلت به كل تلك المهابط
العلمية، والأكاديميات في أوربا والولايات المتحدة الأميركية، ذات الشهرة
العالية.

قد لا أتجاسر إذا قلت إن رباعيَّتِه التاريخية المرموقة
(عصر الثورة 1789 – 1848 / عصر رأس المال 1848 – 1875 / عصر الإمبراطورية
1875 – 1914 / عصر التطرُّفات 1914 – 1991) هي الزاوية الرئيسية لفهم
عالَمنا وتاريخنا وحاضرنا مستقبلنا السياسي والاقتصادي والايديولوجي.

هذه
الموسوعة، التي تصل صفحاتها إلى الثلاثة آلاف ومئة وخمسين صفحة، تحوي أهل
تفصيلات القرون الثلاثة الأخيرة. وهي القرون التي شهدت أهم الثورات
السياسية والاجتماعية في العالَم، وكذلك شهِدَت تشكُّل الاقتصاديات
الرأسمالية والشيوعية واندلاع الحروب والصراعات الايديولوجية الأكثر دموية.

إن
اقتناء مثل هذا الكتب ليس مهماً فقط، بل هو ضرورة قصوى من أجل خلق ذاكرة
نشطة، وغير مبتورة لنا جميعاً، نستطيع من خلالها إدراك الأمور كما يجب.
فالمشكلة التي نعاني منها هي أننا لا نعرف كيف أصبحنا كما نحن عليه الآن،
جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً.

إريك اختصر علينا مقطعاً زمنياً لم ندركه يمتد إلى ثلاثمئة وخمسين سنة.

ووفَّر
علينا عناء البحث والتنقيب في بطون آلاف المراجع المعتقة في خزائن
دهريَّة، عمرها يمتد إلى مئات السنين. هذا الجهد العظيم هو لا يقدَّر بمال
ولا بشكر ولا بثناء، بل قدره يكمن في أن نقرأه ونستوعبه.

أكثر ما
ميَّز هذا الرجل هو أمران: الأول: منهجه العلمي، الذي كان يمتاز بتعميق
الحدث التاريخي، عبر ضمِّ جزئيات الحدث الهامشية إلى البؤرة، ثم إحالة
الهامش والبؤرة معاً إلى فضاء الفلسفة، والربط المعرفي، وهو ما جَعَلَ من
بحوثه تجانب السَّرديَّة المحضة لصالح التفسيريات المعمَّقة للتاريخ.

عندما
كان يتحدث عن ثمانينيات القرن الثامن عشر، في كتاب «عصر الثورة»، فإنه
يُصرُّ على ذكر أن طول الفرد في إحدى مقاطعات ساحل ليغوريا يقل عن متر ونصف
المتر، وذلك لكي يشرح طبيعة الجيوش في تلك الحقبة، وكيف أنها كانت تجاهد
للبحث عن أصحاب القامات الطوال.

وفي كتابه «عصر رأس المال»، فإنه يرى
ضرورة أن يذكر، كيف أن أسمال الفرنسيين كانت عبارة عن لحى وربطات عنق
منسابة وقبعات عريضة ورايات ثلاثية الألوان، لكي يجعل القارئ في أجواء
المشتركات التي خلقتها الثورات بين الأوروبيين، ثم إحالة ذلك لشرح ظروف كل
بلد على حِدَة.

وفي كتابه «عصر الإمبراطورية»، فإنه يجادل في تعريف
البرجوازية، وآلية ارتقاء العوائل، وانتمائها التالي لأي شكل من أشكال
التعليم، وعلاقة كل ذلك بالطبقة الحاكمة، والتعريج نحو الثروات وميول
الناخبين، لكي يجعل القارئ يعيش تفصيلات تلك السنين، وما بها من تعقيدات.

وعلى
رغم أنه يتحدث عن سنين ما بعد العام 1914 في كتابه «عصر التطرُّفات» إلا
أنه يتحدث عن حرب القرم (1854 – 1856) وحرب اليابان وروسيا (1904 – 1905)
عندما يريد التدليل على فادحة الحرب الكونية الأولى، ثم حديثه عن أن هذا
النوع من الحروب الدموية ولَّد ما يُسمَّى بأدب المغامرات.

الأمر
الثاني، وهو المتعلق بشخصية هوبْزْباوْم نفسه، حيث التزامه الفكري
والأخلاقي. فعلى رغم أنه من أسرة يهودية، إلاَّ أنه شديد النقد لإسرائيل.
وقد نشَرَ رسالة في «الغارديان» مطلع يناير/ كانون الثاني من العام 2009 مع
الأديب المسرحي المرموق هارولد بينتر تدين بشدة المجازر الإسرائيلية في
غزة.

أيضاً، لم يمنعه انتماؤه الماركسي، وعضويته في الحزب الشيوعي
البريطاني، أن ينتقد التجربة الستالينية في الحكم، كونها تعبِّر عن
الاستبداد السياسي، وهو ما يخالف أصول الماركسية، التي قامت على تحرير
الشعوب من الهيمنة والديكتاتورية والنازية والعنصرية.

لقد كَسَرَ
هوبْزْباوْم وهم انتماء الطوائف والأديان إلى الحكم غير الرشيد والقمعي
الذي تتماثل معه في العقيدة، وكرَّس ثقافة أن الشعوب يجب ألا تقف مع
حكوماتها لمجرَّد أنها تنتمي إليها في المعتقد أو للهوية العرقية، لأن
المعيار ليس الدِّين ولا العرق، وإنما ميزان العدل، ووجود حكم ديمقراطي
يحترم حقوق الإنسان.

وقد كانت الهيئة المسمَّاة بـ أصوات يهودية
مستقلة تعبيراً قوياً منه على التمايز الذي أوجده هوبْزْباوْم بينه وبين
الدولة العبرية، ضارباً بمسألة الانتماء اليهودي لأسرته عرض الحائط مقارنة
مع احترام حقوق الإنسان، كون ذلك الانتماء هو شكل من أشكال الظلم، الذي يجب
أن يقف معه الرجل في كل الأحوال. وهذا الأمر هو من أهم وأنقى الصراعات
التي يخوضها المرء مع نفسه.

لقد طبَّق هوبْزْباوْم مقولة الفيلسوف الفرنسي الكبير فولتير: «لا يكون الإنسان حراً إلا عندما يَودُّ أن يكون» وقد أصاب فيها وأجاد.

محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية
اقرأ المزيد

نقطة التقاطع كمخرج من الأزمة

مقالان
رصينان قرأتهما أمس في صحافتنا المحلية، يلامسان جوهر الأزمة المستمرة
والتي أوشكت على دخول عامها الثالث، دون وجود مؤشرات يُعول عليها، على قرب
الخروج منها، بل على العكس فما هو ماثل أمامنا من ممارسات ومن خطابات تدل
على أن أفق الحل ليس قريباً، وهذا أمر سيجر على البلد والمجتمع المزيد من
الخسائر والتضحيات، تضاف إلى ما خسرناه ونخسره جراء استمرار وتفاقم هذه
الأزمة.


 المقالان
اللذان نحن يصددهما هما للزميلين محمود القصاب وعبدالله الأيوبي، ففي حين
يتقصى مقال القصاب جذور الأزمة وآفاق حلها، يتوقف الأيوبي أمام حقيقة أنه
لا مخرج من الأزمة الراهنة إلا بالحوار الهادف لوقف النزيف الذي يتعرض له
الوطن.


 المطلوب
لإخراج البلد من الأزمة الراهنة، حسب محمود القصاب، هو «إعادة التوازن»
السياسي والاجتماعي الذي يعاني من خلل مزمن وفاضح، وهذا يتطلب إجراءات جادة
وحاسمة، لا تحتمل أية مماطلة أو تسويف، من أجل ضبط وتصحيح مسار المعادلة
السياسية والاجتماعية في البلد لتأخذ طريق العدل والإنصاف والمشاركة
للجميع، عبر عقد اجتماعي سياسي متوازن، وهذا يتطلب صهر طاقات الشعب
البحريني بكل مكوناته السياسية والاجتماعية بالتوافق بين كل هذه الأطراف،
وأن أيّاً منها لا يستطيع أن ينتج أو يفرض حلاًّ سياسيّاً بمفرده.


مدخل
نقطة التقاطع الوسطية التي يطالب بها القصاب هي الاتفاق على مبدأ
الإصلاحات اللازمة والضرورية، بما يحقق مطالب الناس العادلة والمشروعة في
شراكة سياسية حقيقية، لكي لا تستمر هذه الأزمة مفتوحةً على الزمن وتجعل
البحرين ساحةً مكشوفةً لكل أشكال التدخلات الخارجية المرفوضة من قبل كل
الحريصين والخائفين على مستقبل البلد وعلى وحدته وسيادته الوطنية.


أما
الأيوبي فيطالب بأن يضع جميع الفرقاء مصلحة الوطن ومستقبل أبنائه في مقدمة
الأهداف، ليس بالأقوال وإنما بالأفعال من خلال خطوات عملية يمكن أن تأخذنا
إلى نقطة التقاطع الوسطية التي يدعو اليها  القصاب، والتي تتمثل  برأي
الأيوبي في الأرضية القادرة على حمل جميع الأطراف، لدفع الجهود الصادقة
والمخلصة لمعالجة الجروح التي أثخنت جسد هذا الوطن على مدى أكثر من عام
ونصف العام، من دون أن نرى في الأفق سوى دعوات، يمكن وصفها ببالونات
الاختبار، مع أن الوضع ليس بحاجة إلى مثل هذه البالونات، وإنما إلى خطوات
عملية ودعم صريح وقوي لأي مبادرة أو خطوات، من أي جهة كانت، هدفها المساعدة
على إخراج بلادنا من الحالة التي تمر بها حاليا.


الأيوبي
كما القصاب يرى أن هناك حقيقة لا يمكن تغييرها والالتفاف عليها أو عدم
الاعتراف بها، وهي أن هذه الأرض تحتضن شعبا متعدد الأعراق والأديان
والمذاهب، وجميع هؤلاء يجب أن يستظلوا بمظلة العدالة والمساواة، لهم جميعا
حقوق وعليهم واجبات، وأن أي مكون من هذه المكونات يعتقد أن بإمكانه العيش
من دون علاقات مع المكونات الأخرى، أو أنه يجب أن يقف على درجة أعلى من
الدرجات التي تقف عليها المكونات الأخرى، فهو لا يعيش في وهم فقط، وإنما
يتسبب على المدى البعيد في زرع مسببات عدم استقرار وتطور البحرين.
اقرأ المزيد