المنشور

التجنيس السياسي…مهمة تفتيت الوطن وتكريس الطوائف!!


في البدء علينا أن نتفهم ضرورة وأهمية إماطة اللثام ولو قليلا عن ما يجري
منذ سنوات بالنسبة لعملية التجنيس السياسي وارتباطها بتغيير التركيبة الديموغرافية
في البحرين وزيادة تعقيدات المشهد البحريني من كل جوانبه، فالتجنيس لم يعد مشروعا
بل واقعا معاشا  وممارسة عملية على الأرض تعزز
شواهدها كل ما ذكرته وحذرت منه قوى المعارضة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني طيلة
السنوات الماضية، ولا مجال أمام أي منصف يمتلك حسا وطنيا مسئولا إلا أن يتحدث حوله
بحرقة وتساؤلات تتجاوز الأسئلة المعتادة لتدخل في صلب الواقع القائم ومراميه
وأهدافه والبحث مع الخيّرين من جميع فئات ومكونات الوطن لإخراج البحرين من محنتها هذه
التي لا نريد لها أن تصبح معقدة أكثر مما هي عليه حالياً من تعقيد.  على أن إصلاح الأمر ليس بالسهولة التي ربما
نتخيلها أو نتوقعها، خاصة مع ازدياد تعقيدات المشهد السياسي وتداخل عقده التي أضحت
تهدد جدياً بتفتيت وحدتنا الوطنية، إسقاطا وتحسبا لدى من يدعمون مشروع التفتيت
المجتمعي هذا، لما تحقق من نجاحات وتماسك وانسجام وطني في مراحل وحقب تاريخية لا
زال شعبنا يذكرها بكل فخر، مثلما يذكر بعظيم التقدير كل القوى الوطنية والمجتمعية
التي هيأت لها منذ مطلع الخمسينات والستينات وحتى نهاية السبعينات من القرن
الماضي، وهي مهمة وطنية تقع  مسئولية
استدعاؤها مجددا على عاتق كل المخلصين لوحدتنا الوطنية، والتي باتت تحتاج الى مزيد
من الإخلاص وبعد النظر والتيقظ باتجاه تخليص الوطن من آلامه العديدة التي  يبرز من بينها بكل تأكيد واقع التجنيس السياسي
الذي نعيش فصوله وتداعياته على أكثر من صعيد، كما أن علينا الإقرار أن تتبع تلك
التداعيات يبدو متداخلا الى الحد الذي يجعلنا نتساءل مع كل المخلصين.. ما العمل
أمام هكذا مشهد؟!


وبالعودة الى محور هذه الورقة علينا تحقيق مقاربة أولية لمحاولة فهم مرامي
وأهداف مشروع  “التقرير الكارثة”
الذي رأسه المستشار السابق بمجلس الوزراء “صلاح البندر” وفريق عمله
والذي تزامن مع تدشين ما طرح حينها من توجهات نحو الإصلاح، وهنا علينا أن نعود
قليلا الى الذاكرة لمقاربة توقيت تسلم “المستشار
البندر” لمهامه التي انحصرت على ما يبدو في هندسة المشروع الذي نحن بصدده،  فقد تسلم “البندر” منصبه في شهر
اكتوبر من العام 2002 أي في نفس الشهر الذي انتخب فيه أول برلمان منتخب بعد إلغاء
قانون وتدابير أمن الدولة، وهو توقيت يستدعي طرح الكثير من التساؤلات حول مغزى
وتوقيت هذه المهمة الخطيرة والنوايا التي ترافقت ومسيرة الإصلاح التي ابتدأت
للتو،وقد جاء المشروع الذي قسم على مراحل مدروسة تحت مسمى” البحرين الخيار
الديمقراطي وآليات الإقصاء” وقد اصطلح على تسميته شعبياً “بمشروع
البندر” نسبة الى من قاد ورسم فصوله ومحاوره، وألزمت وسائل الإعلام  المحلية المختلفة لاحقا على تسميته بالتقرير
المثير” بعد أن أصدرت  المحكمة الكبرى
الجنائية البحرينية قرارها الذي تم بموجبه حظر النشر او التداول الإعلامي بشأنه في
13 ديسمبر 2007.  لا يكفي هنا أن نستعرض
ردّات الفعل التي ابدتها مختلف قوى المعارضة السياسية والجهات الحقوقية فتلك قضية
مسلم بها ويمكن فهمها في بلد كالبحرين تتناوبه الخلافات السياسية وحالة مزمنة
من  الصراع السياسي، وتغيب فيه عوامل الثقة
المتبادلة بين أطراف هذا الصراع منذ عقود طويلة، ويزيد من استفحالها ما تشهده
البلاد من واقع انقسام وتشرذم سياسي واجتماعي غير مسبوق، اضحى يحتم علينا إعادة
قراءة ذلك “التقرير الكارثة” بكل ما جاء فيه من تفاصيل كانت تشير اليها
وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسميه في حينه بأنها مجرد تخرصات ومخاوف لا تمت
للواقع بصلة!! الأمر الذي يجعل من مهمة تقصي واقع هذا التقرير ومآلاته مهمة ملحة
لابد أن تأخذ بها قوى المعارضة وقوى المجتمع ومؤسساته وشخصياته الوطنية ليس بدوافع
تسجيل النقاط من طرف على الآخر، ولكن وبالدرجة الأساسية وهذا هو الأهم، لتحقيق فعل
وطني يرقى لأن يكون تاريخيا  بإمتياز لحماية
وصون وحدة البحرين وشعبها واستعادة ذلك السجل الناصع من التماسك والوحدة بين
مقومات المجتمع، ولوقف هذا المشروع التدميري الكارثي الذي نستشعر بكل أسف تداعياته
المرّة فصولا لم تتوقف حتى اللحظة منذ تم الإعلان عنه، أو لنقل فضحه!


 وعلى الجانب الآخر علينا أن نحقق
فهما أكثر عمقا وشمولية وموضوعية مما هو قائم من لغط يجري تسويقه والترويج له من
قبل جهات وإعلام رسمي وشبه رسمي تمرّس كثيرا في الابتعاد عن الحقيقة، يحاول بإستماتة
أن يبتسر قضية  “التقرير
الكارثة” ودوافعه على أنها مجرد تصفية حسابات بين مكون وآخر أو بين مكونات أو
معارضة من جهة والسلطة من جهة أخرى!!  ونحن
نقول، كلا إن الأمر أكبر من ذلك بكثير ويجب أن يفهم أولا ضمن حالة انعدام الثقة
التي  تكرست ولازمت مسارنا التاريخي وحالة
الصراع القائمة في البحرين ضمن مؤشرات المصالح والثروة والامتيازات والنفوذ والاستحواذ
والهيمنة وإلغاء وتهميش الآخر وعدم قبول السلطة بأي نوع من المشاركة في صياغة
وإشادة القرار الوطني الذي ظل لعقود طويلة القضية الأبرز للحراك السياسي في
البحرين، والتي نستطيع أن نقاربها بسهولة من مطالبات وبرامج مختلف القوى السياسية
وهي التي استندت باستمرار الى ذلك الحس الشعبي الجارف التواق للاستقلال والحرية
والعدالة الاجتماعية والمساواة حتى قبل خروج سلطة الانتداب البريطاني مطلع
السبعينيات من القرن الماضي والتي استمرت حتى اليوم رغم ما ابداه شعبنا بمختلف
قواه وأطيافه السياسية من مواقف داعمة للإصلاح الحقيقي، الذي فيه خير ومصلحة
الجميع من حكام ومحكومين، وذلك ما تجلى بالضبط في فترة مناقشة حيثيات ميثاق العمل
الوطني، وكيف دفعت القوى الرئيسة الحية في البلاد جماهير شعبنا لاحقا للتصويت عليه
بنعم كبيرة، على الرغم من تباين مواقفها فيما بعد بين مشارك ومقاطع في الانتخابات البلدية
والنيابية وصولا الى مشاركتها  بشكل شبه
كامل في انتخابات 2006.  وعلى الرغم من
معرفة الجميع حينها بكثرة النواقص التي وعتها ولمستها  إن على مستوى غياب عدالة التمثيل الشعبي وتوزيع
الدوائر الإنتخابية أو حتى في ظل وجود المعوقات القانونية والدستورية واللوائح
التي تمنع وجود سلطة منتخبة حقيقية كاملة الصلاحيات كما سبق وتعهدت به دوائر
القرار الرسمي إبان الدعوة للتصويت على الميثاق، والتي يفترض أن تستند الى المبدأ
الدستوري الواضح ” الشعب مصدر السلطات جميعا”،  كل ذلك من أجل إثبات أن للجميع مصلحة في انجاح
ما جرى تسويقه من توجه نحو الإصلاح الذي كان ميثاق العمل الوطني أرضيته المتوافق
عليها، والذي لم يستثمر البتة بكل أسف من قبل السلطة التي ظلت ممسكة ومتمسكة بواقع
الهيمنة على القرار والأراضي والأملاك والأموال العامة والثروة والمصالح والنفوذ
والتعيينات والامتيازات أكثر من ذي قبل، غير مبالية بمدى حجم ونوعية التحولات من
حولها محليا وإقليميا ودوليا، وهذا الفهم 
البائس والموغل في الخطأ والتقليدية والجمود يفصح عن نهج وعقلية تحتاج بكل
تأكيد أن تفهم مسار التاريخ بصورة مختلفة ومتقدمة، لتدرك الزمن الذي عادة لا يعود الى
الوراء كما نعلم.  وبقراءة خاطفة للمحاور
العديدة التي جاءت في “التقرير الكارثة” الذي نعيش فصوله العملية منذ
أعوام، يتضح لنا بجلاء أن التجنيس السياسي هو العمود الفقري الذي استند عليه
“التقرير الكارثة” الى جانب الإيغال في ممارسات التمييز بين أبناء الوطن
الواحد!! فهو إذا نهج تجاوز كثيرا الحبر الذي كتب به يوما، كما تجاوز كثيرا بعض
مرامي وأهداف من مولوه وخططوا له وأنشأوا وهيأوا لأجله المؤسسات والطواقم والأفراد،
ومن غيروا لأجله التشريعات والقوانين والدساتير ليصبح واقعا مؤلماً وعقبة كأداء
أمام تطور مجتمعنا البحريني الساعي لتحقيق طموحاته المشروعة في العدالة والاستقلال
والتحول نحو الديمقراطية، التي لا مناص منها في ظل ما يجري حولنا من تحولات جارفة،
 ويجري كل هذا في قبالة كل الدعوات المخلصة
لقوى المعارضة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والنخب السياسية والوطنية التي
بقيت متمسكة حتى اللحظة بضرورة الإصلاح السياسي والدستوري القائم على مشروع واضح
المعالم للعدالة والمساواة التي باستطاعتها أن تقود مجتمعنا نحو الاستقرار
والتنمية والديمقراطية  القائمة على
التعددية السياسية.


 وأمام ما افرزته  الأزمة السياسية المستفحلة التي عصفت بالبلاد
منذ الرابع عشر من فبراير 2011 على خلفيات ما جرى ويجري في محيطنا العربي وما هيأه
الحراك الشعبي في أكثر من بلد عربي من ظروف مواتية أمام مختلف قواها المجتمعية
الطامحة لتحقيق مطالبها المزمنة والمشروعة في الاستقلال الوطني والعدالة وصيانة
حقوق الإنسان والمشاركة السياسية في صياغة قرارها الوطني، فإن القوى  السياسية الحية لدينا في البحرين انحازت  بشكل طبيعي نحو هذا الخيار الواقعي القائم على
تحقيق المطالب العادلة التي طال انتظارها بالطرق المشروعة القائمة على خيار
السلمية الذي رأت فيه محقة تجنيباً للبلاد وللنظام أيضا مغبة الدخول نحو المجهول، إلا
أن مواقع النفوذ المدعومة بلوبيات الفساد والمستفيدة من بؤس الواقع الحالي المُعاش
لم تشأ مجرد القبول بحل سياسي واقعي يجنب البحرين وشعبها ما يعترضها من متاعب
تسببت فيها تلك القوى التي نجحت في إحالة كل توجهات الإصلاح المتوافق عليها شعبيا ضمن
ميثاق العمل الوطني الى مسلسل لا يتوقف من السيناريوهات المتصلة والمتداخلة التي
غايتها الاستمرار في إعاقة المسار الطبيعي للتطور السياسي المأمول، والمضي قدما في
مشروع افقار الوطن ونهب ثرواته وتكبيله بمديونية ضخمة تجاوزت الخمسة مليارات دينار
حتى الآن، وتهميش إرادة الناس عبر استحضار وتفعيل مشاريع مشبوهة من بينها المشروع
الكارثي الذي نحن بصدده، والتي أكدت مجددا كل مخاوف قوى المعارضة ومؤسسات المجتمع
المدني إزاء ما جاء في “التقرير الكارثة” من حيثيات اقل ما يمكن أن يقال
عنها أنها  تستدعي مفاهيم ماضوية سقيمة
تقوم على احياء الطوائف والعشائر والقبائل والفئات وتكريس المذهبية والعصبيات
الضيقة وتفتيت وضرب مكونات المجتمع بعضها ببعض.  وفي هذا يقول تقرير مجموعة الأزمات الدولية
الصادر عام 2005 حول الأوضاع في البحرين استنادا الى ما جاء في حيثيات
“التقرير الكارثة” في اشارة الى الانتخابات والتمثيل الشعبي في البحرين “
أن السؤال أصبح ليس من هو الاتجاه السياسي أو البرنامج الانتخابي الذي يفترض أن
يفوز في تلك الانتخابات النيابية أو البلدية بل 
من هي الطائفة الفائزة بتلك الانتخابات؟ وهو تكريس مفضوح عززه وسعى اليه “تقرير
البندر” الشهير سعيا من القائمين عليه لإنعاش وتحفيز الطوائف والمذهبية
والعصبيات والغاء الوطن…. “.  


وهنا تبرز أمام قوانا السياسية وشخصياتنا الوطنية اسئلة ملحة لا سبيل
لتأجيلها، ومهمة كبرى بل ومقدسة يكمن في روحها كيفية استعادة وحدتنا الوطنية بعيدا
عن تلك المشاريع المشبوهة والعمل بدوافع وطنية خالصة يجب أن تبتعد عن انحيازات
الطوائف ودعوات الانقسام لتدخل في صلب بناء الوطن الذي تنتفي فيه العصبيات
وممارسات الكراهية وتتحقق فيه العدالة للجميع وهو أفضل رد حضاري يمكن أن تواجه به
حركتنا الوطنية أصحاب تلك المشاريع المشبوهة والمدمرة.


 



 

اقرأ المزيد

الأزمات تطول وتتعقد لابتعادها عن الحل العملي

هل يمكن حل الصراع الذي انفجر بقيادة أكبر قبيلتين في جنوب السودان أن
يعالج بطريقة مختلفة، غير تلك التي أوردتها وكالات الأنباء أمس، من أن
المتمردين بقيادة نائب الرئيس السابق رياك مشار (الذي ينتمي إلى قبيلة
النوير) يسعون إلى التوصل إلى «مصالحة شاملة» مع رئيس الجمهورية سلفا كير
(الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا)، بما يحقق «سلاماً جادّاً لكلا الطرفين
ولكل شعب جنوب السودان».

لنتصور لو أن سلفا كير، وبدلاً من المصالحة،
قرر إزالة جميع المنتمين إلى قبيلة النوير ومن معها (ولنقل إنهم يمثلون
نصف المجتمع) في الجيش وفي جميع القطاعات المهمة في الدولة. ربما أن سلفا
كير سيلجأ إلى اتهام أبناء قبيلة النوير بالخيانة شبه الدائمة، وأنهم
مرتبطون بأبناء القبائل الذين يشبهونهم خارج البلاد، وأن يباشر بتشييد أكبر
عدد من السجون في كل مكان من أجل ملئها بأبناء النوير.

فيما لو فعل
ذلك، فإنه سيضطر إلى استهلاك معظم الدخل الذي ربما سيحصل عليه مستقبلاً من
النفط (عندما يتم استخراجه وتصديره) من أجل إخضاع نصف المجتمع المستهدف،
ومن أجل اكتشاف المؤامرات التي يحيكها أبناء نصف المجتمع ضد الحكومة، وربما
سيحتاج إلى مستشارين وشركات علاقات وأناس من كل نوع ومن كل حدب وصوب
لإثبات أن كل ما تقوم به الحكومة لا يهدف إلى إخضاع نصف المجتمع (كما يدّعي
أبناء قبيلة النوير)، وإنما إلى حماية أمن الوطن من الخونة واتباع
الأجندات الخارجية، الخ.

بالطبع فإن مثل هذا السيناريو ليس عقلانياً
ولا يمكن أن يصمد مهما كانت الجهود المبذولة في هذا الاتجاه، وسيكتشف أنه
ضيّع الثروات والفرص من دون نتيجة. سيكتشف، آجلاً أم عاجلاً، أن الأفضل
يكمن في اعتماد إطار وطني جامع لكل أبناء الوطن على أساس المساواة، واحترام
الحقوق الأساسية التي تنص عليها العهود والاتفاقيات الدولية… وهو ما
نأمله لكل بلداننا المبتلاة بأزمات تطول وتتعقد كثيراً لابتعادها عن الحل
السياسي العملي والعادل.

منصور الجمري

اقرأ المزيد

«الأردوغانية» كنموذج للإسلام السياسي – منى فضل

لطالما أسهب خبراء سياسيون ومحلّلون في الحديث والترويج للإسلام السياسي
التركي وتقديم نظامه «كنموذج للمنطقة العربية»، بعضهم كان ولايزال ينظر
إليه بانبهار وإلهام لجهة التنمية الاقتصادية وإنجازاتها وتطوّر الممارسة
الديمقراطية المّميزة بتعدّد الأحزاب وتداول السلطة والانتخابات النزيهة
وتحجيم دور الجيش وتدخله في السياسة وما إلى ذلك. ترى هل رؤيتهم في محلها؟

بموضوعية
وللوهلة الأولى كان الأمر يبدو كذلك، إلا أن تطوّر الأحداث الإقليمية
وتداعياتها على الداخل التركي وتعاطي النظام معها أخلت بالرؤية الانبهارية.
أسباب ذلك عوامل متعدّدة، بعضها يتعلق بماهية النظام السياسيّ وبنيته
وممارساته التي تميّز بعضها بطابع الاستئثار بالسلطة، وبعضها الآخر ذو
علاقة بسياسات استراتيجية تحكم مصالح القوى الكبرى وتوازن نفوذها، ودلالة
ذلك في الآتي.

منذ انغماس النظام التركي في القضايا الإقليمية وبصورة
مباشرة في الأزمة السورية وموقفه إزاء ما حدث في مصر بعد ثورة يناير، أجمع
المراقبون على أنّ ثمة تحوّلات وتراجعات يمر بها النظام، ولاسيّما أن
«السياسة الأردوغانية» لم تحقّق رغبتها بإسقاط بشار الأسد، وخصوصاً أن
تركيا استعدت عدةً وعتاداً للمشاركة في توجيه أية ضربة عسكرية له. أضف إلى
ذلك تراجع موقع حليفها «الجيش الحر» الذي تدعمه وتعول عليه لصالح القوى
التكفيرية، إلى جانب خسارة مضافة بعد الإطاحة بحكم «الإخوان المسلمين»،
حلفائها في مصر، ممن كانت تأمل أنّ يشكلوا لنظامها البوابة والمرتكز الداعم
لمشروعها في الهيمنة الإقليمية على المنطقة العربية.

بيد أنّ العنصر
الذي أماط اللثام أكثر عن تلك التحولات والتراجعات جاء من شرارتين،
أولاهما احتجاج بيئي في العام الماضي سرعان ما تحوّل إلى انتفاضة «تقسيم –
جيزي» التي تولدت إثر قيام الحكومة بقطع أشجار حديقة تاريخية عامّة،
تمهيداً لتشييد ثكنة عسكرية عثمانية ومركز تجاري مكانها، في إطار خطّة لهدم
مركز أتاتورك الثقافي وبناء جامع إلى جانب نصبه وسط ساحة تقسيم. حينها عمّ
الاحتجاج الشعبي المدن تجاه هذه السياسة تحت شعار: «كل مكان تقسيم، كل
مكان مقاومة»، ما أجبر رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان على الإذعان لمطالب من
استهزأ بهم ووصفهم بالرعاع واللصوص، مستخدماً القوة المفرطة التي أدت إلى
مقتل بعضهم.

أمّا الشرارة التالية فتمثلت في «فضيحة الفساد» التي
تفجرت واتهم فيها أردوغان قوى خارجية بالتآمر عليه وعلى حزبه بالانقلاب
وزعزعة الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ، والمقصود أميركا، وإن لم يسمّها،
لِمَ لا ولسان حاله ذكر أنها «مجموعات دولية» ذات امتداد في الداخل «توجد
داخل الدولة منظمة وعصابة، لوبيات الدم والفوائد والحروب، وبعض القضاة
ينسقون مع بعض المجموعات الإجرامية… إنها تنظيمات إرهابية وقراصنة»
تماماً بحسب تعبيره. وسرعان ما كتب «ارتيم» المؤيد لحكومته «أنّ ما جرى
إعلان حرب على تركيا، يُشن فيها عدوان كثيف على مؤسّساتها الاستراتيجية
التي ألحقت بها خسائر مادية اقتصادية واستراتيجية، ولاسيّما اتفاق أربيل
بغداد الأخير الذي وضع تركيا خارج تدفق 26 مليار دولار إلى مصارفها، وتضييع
11.5 مليار دولار عليها».

وأكّد مقرب آخر للنظام «أنّ كلفة الأحداث
تقارب 50 مليار دولار، وخسائر بسبب انخفاض مؤشر البورصة بمعدل 8.2 في
المئة، وارتفاع الفوائد وتراجع سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار من
2.02 إلى 2.17 خلال 11 يوماً. كما انعكست الأزمة السياسية على الاستثمارات
الأجنبية، إذ بينت إحصاءات المصرف المركزيّ خروج مليارين وخمسمئة مليون
دولار من تركيا خلال الأسبوع الأخير من بدء فضيحة الفساد فقط».

معلوم
أن «فضيحة الفساد» طالت أركان «حزب التنمية والعدالة» الحاكم وأربعة من
وزرائه في تهم فساد ورشوة وقبض عمولات قدرت بـ 100 مليار يورو، فيما كشفت
تقارير عن صناديق أحذية مليئة بأموال قدرت بـ 4.5 ملايين دولار، عثرت عليها
الشرطة في منزل مدير المؤسسة المالية التركية «هالكبانك» المرتبطة مباشرةً
بالحكم. وكذا نوّه وزير مستقيل إلى تورط أردوغان نفسه في لعبة الفساد في
عدة قطاعات عقارية ومالية.

تبدو «فضيحة الفساد» كبيرة وضربة للنظام
النموذج، ما استدعى إعادة هيكلية الحكومة وإقالة قادة شرطة وتعيين نحو 400
شرطي ومحقّق يسحب التحقيقات من القضاء القائم، في خطوة اعتبرها المراقبون
استهدافاً لخصومه حلفاء الأمس من جماعة «فتح الله غولن» المعارضين للنظام،
بل واستئصالهم من الدولة وإغلاق مدارس مسائية تابعة لهم، ما ينذر بتوقع
استمرار الاضطرابات والتجاذبات السياسية حتى استحقاق انتخابات البلدية في
مارس/ آذار المقبل.

أحد مستشاري أردوغان وصف «جماعة غولن» بـ «حركة
خدمة»، متهماً إياها بأنها «أداة وعميلة لقوى عالمية»، فيما طالبها وزير
الخارجية بالدخول في حوار بدلاً من وضع العراقيل والحواجز، داعياً زعيمها
غولن الذي يقيم في منفاه الاختياري بالولايات المتحدة الأميركية منذ
التسعينات، إلى زيارة تركيا حيث حصل على عفو عام في 2006 بعد اتهامه بقلب
نظام الحكم.

يشار إلى إنّ منظمة الأخير تضم نحو 5 ملايين عضو، ولها
أكثر من 1000 مدرسة وجامعة في 150 دولة، كما يمتلك شركات كبيرة برأسمال
يقدّر بـ 25 مليار دولار في تركيا وحول العالم. ويقال أن منظمته تتّبع
الصوفية وترفع شعارات الإسلام المنفتح على العلم والديمقراطية، أمّا جماعته
وأنصاره فهم متغلغلون في الشرطة والمخابرات والقوات المسلحة والقضاء
والإعلام والمدارس والجامعات الخاصة، كما تدور الشكوك حول علاقتها بـ «السي
آي. أي والحركة الماسونية العالمية».

قبل نشوب الصراع، أقامت «حركة
خدمة» تحالفاً قويّاً مع «حزب العدالة والتنمية» في مواجهة الجيش، خصمهما
المشترك، وذلك لتقليص هيمنته على السلطة التنفيذية والتشريعية، كما وفرت
دعماً إعلامياً وشعبياً له بل وكانت عاملاً حاسماً وراء فوز أوردغان وحزبه
في الانتخابات، إلا إنّ تفاقم الخلافات بين جماعة «غولن» والحكومة برزت بعد
اعتزام الأخيرة إلغاء الإعفاءات الضريبية للمدارس الخاصة بالجماعة وإلغاء
بعضها، وهي التي تعد مصدراً مهمّاً للأموال والنفوذ كما تشكل حاضنة ينشر
عبرها «غولن» مبادئه وتعاليمه.

ومنه كثرت الانتقادات حول سوء تقدير
وعدم إدراك أردوغان وحزبه لفهم واستيعاب بعض قواعد اللعبة السياسية وقواعد
التعامل مع التيارات السياسية الإسلامية الأخرى، فضلاً عن مغالاتهم في
تقدير قوتهم التي دفعتهم إلى اختراق النظام العربي والاستهانة بتعقيداته
ومشكلاته المزمنة، لاسيّما حين رفعوا شعار «صفر مشاكل» –أي دولة بلا
مشكلات- ما جعلهم وسط مشكلات خانقة خطيرة تخدش وضع النظام كنموذج، خصوصاً
مع ما تورده المنظمات الحقوقية من اتساع دور الاستخبارات وارتفاع حالات
التنصت على هواتف المواطنين وتوظيف ذلك ضد شخصيات عامة، بعيداً عن الالتزام
القانوني، فضلاً عن محاولة فرض زى الحشمة على النساء وأسلمة المجتمع.

خلاصة
الأمر، كل هذا وذاك أخل بفكرة الترويج للإسلام السياسي التركي كنموذج في
القبول بالآخر والعلاقة معه في البلدان العربية، فالديمقراطية الحقيقية لا
تعني البتة التغني بها شعاراً والاستئثار بالسلطة والنفوذ عملاً.

منى عباس فضل
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4141 – الأربعاء 08 يناير 2014م الموافق 06 ربيع الاول 1435هـ   
اقرأ المزيد

الدرب الطويل للتنمية السياسية


حضرت جانباً من جلسات الملتقى الإعلامي الخليجي الأول الذي عقد منذ أسبوعين تقريباً من قبل معهد التنمية السياسية، وكان عن الإعلام والتنشئة السياسية، وقد كان الملتقى مفيداً جداً من أكثر من ناحية. 





ومع الملاحظة العامة على عنوان الملتقى والخاص بـ “التنشئة” السياسية، والمطالبة بتغييرها إلى “التنمية السياسية”، فإن هذا سيكون شكلياً، لأن المتحدثين الذين سمح لي الوقت بحضور مداخلاتهم لم يتحدثوا عن كيفية أداء الإعلام دوراً في “التنشئة السياسية”، ولكنهم تحدثوا – في الغالب – عن أفكار أتوا لطرحها أمام الحاضرين.





من أهم الفوائد التي خرجت بها من هذا المنتدى هي تلك النقاط التي لم تطرح – على الأقل في فترة تواجدي – تتمثل في الأسئلة المعروفة: ما التنمية/التنشئة السياسية؟ لماذا تتم هذه التنشئة؟ من عليه القيام بها؟ كيف تتم التنشئة؟ كيف يمكن قياس نجاحها من عدمه؟ والكثير من الأسئلة المتعلقة بأي بهذا الموضوع المهم، والذي من أجله أقيم هذا الملتقى.





فالتنمية واحدة من العمليات المركزية التي تتولاها جهة محددة، تضع لها الإستراتيجيات والمبادرات والخطط التنفيذية، وتكون لها أهداف قابلة للقياس والتحقق، وربما تشارك فيها وسائل الإعلام غير الرسمية بدوافع وطنية معينة. ولكن الصحف (وهي الوسائل الإعلامية الوحيدة غير الرسمية في البحرين حتى الآن، ولا يُعلم إلى متى من الممكن أن تبقى على يُتمها هذا)، هي مؤسسات تجارية في الأساس، مسجلة في وزارة التجارة الصناعة، وهي تسعى للربح بكل تأكيد مع نهجها المؤاخي لعدم الخروج عن الروح الوطنية العامة، ولكن هل الصحف اليوم هي المجال الأمثل لإحداث التنمية السياسية ما دامت تتبع توجهات مختلفة فكرياً، ولها منطلقات شتى، وأغراض متعددة، ومناطق نفوذ تقليدية، وقوى تقف وراءها، وهي تصطف مع أجنحة متنوعة؟





أما في أحلك الظروف التي مرت على البحرين، أي في العام 2011، وفي الوقت الذي التفتنا إلى أكثر الصحف المحلية طلباً لأن تكون صمام الأمان في هذه الضبابية التي سادت الرؤية، وهذا الانقسام الواضح والعنيف في المواقف، وفي هذا الخلط السياسي الكبير، والاستقطاب الحاد، وفي ضياع البوصلة التي أصبح فيها الحليم حيراناً، في هذه الأحداث التي تعرّف فيها كثير من الناس على كلمة “سياسة” بينما كانوا قبلها من أكثر الزاهدين في هذه الكلمة الثقيلة على النفس، والتي تخرجهم من لذة الترفيه ودعة العيش، فجأة وجدوا أنفسهم مندفعين إلى أتون التطاحن المرّ الذي حدث، وفي غضون بضعة أسابيع صاروا محللين سياسيين، ولهم مواقع إلكترونية، أو مجموعات بريدية، همّها الأول والأخير، “الردح مع الرادحين”، والترويج بسذاجة يندى لها الجبين، بل تبكي لها العين، للمستوى الضحل الذي وصلنا إليه؛ في هذا كله، نرى الكثرة الكثيرة من صحفنا ليست أقل تعرقلاً بهذه النغمات غير المتوازنة، ولمعت أسماء اعتمدت التحريش بين مكونات المجتمع الواحد، وراحت تطعن علانية وخفية في طوائف هذا البلد، وتصف من لا يتفق معها بأبشع الألفاظ وأشنعها، بشكل صريح أو بأسلوب التلميح، وأكثرت هذه الصحف من البلبلة لعامّة القرّاء من خلال المفاهيم المغلوطة إن كان في علم السياسة، أم في علم الاجتماع، وامتطى كتاب التاريخ، وركب آخرون موجات السياسة والدين وغيرها، فقط من أجل تحقيق “الانتصار”، ولا نعلم أي انتصار تحققه على أخيك؟ وكيف يمكنك أن تفرح به وتحتفل؟!





فلم تكن الصحف في هذا الحدث الأكبر، هي البيئة الخصبة التي تنمو فيها المفاهيم السياسية الصحيحة، وليست هي التي تبثّ الوعي الجمعي للتنمية السياسية ومفاهيمها، تلك المفاهيم التي تدعو إلى النضج في التعامل مع المعطيات السياسية، ما دامت قد تحولت من قائد رأي، وهي ما كان المعوَّل عليها لتكون قائد رأي، ومشكّل للشخصية المواطنية السياسية الصحّية، وما دامت الكثرة الكثيرة من نسيج هذا القطاع قد وصلوا إلى عدم المسؤولية في ما يكتبون، فلا عجب أن تخرج الصحف الرادحة الصادحة من هذا السياق.





تبقى الأجهزة الرسمية؟ وهي التي شُلّت في بداية الأحداث ما كانت تدري أين تتجه، وواضح أن لم تكن لديها خطة “إدارة أزمة” لحدث كبير كهذا، مع أن أحداث الخروج إلى الشارع – وإن كانت أقل كثافة وضراوة – كانت تحدث بشكل شبه منتظم منذ 30 عاماً تقريباً، ألم يأنِ للمسؤولين المتعاقبين عن هذه الأجهزة أن يضعوا خططاً ضابطة للحرارة، متوازنة وعقلانية، بدلاً من السير في ركاب ما كان يقال في التويتر، وما تتبادله المجموعات البريدية من أخبار واتهامات؟ 





ليس المهم ما حدث بالأمس، فهذا فقط ما يمكن أن نستلّ منه العبر والدروس، ونجعله مقدمة لازمة للمستقبل؛ ولكن الأهم هو ما حدث بعد أن سكن الغبار، والتساؤل القائم: ما الذي انعكس على أجهزتنا الرسمية من برامج حيوية وجذّابة (برجاء التركيز على الحيوية والجاذبية)، غير دسّ اسم البحرين في كل برنامج، حتى تشابهت البرامج علينا.





والدور الأهم في هذا الجانب يرتبط بوزارة التربية والتعليم، وهذا ما تم تناوله من أكثر من مشارك في الملتقى، ولكن تبقى الكيفية. فهناك مواد لـ “المواطنة”، ولكن هل هي كافية حقاً لأن تخلق وعياً سياسياً لدى المواطن، يقبل الاختلافات السياسية، ويراها أمراً طبيعياً، بل حيوياً، وأكثر من هذا أن يعتبرها أمراً مطلوباً أن نختلف سياسياً في حب وطننا، وأن نسعى كلٌّ بما تسعه الطاقة ليخدم وطنه من أبواب عدة، وبحسب رؤى مختلفة؟ هل يُنشّأ الطالب على أننا جميعاً لوحة فنية لا يكون لها أي حظ من الجمال ما لم تكن غنية ومتنوعة الألوان؟





خرجت من الملتقى يرنّ في بالي موقف، إذ دخلت إحدى الموظفات مكتباً من دون أن تسلم على زميلتها وكأنها غير موجودة، فلما سألتها عن السبب، قالت: “إنني أختلف معها سياسياً”!

دربنا طويل أيها الأخوة.
اقرأ المزيد