المنشور

الثامن من مارس ونضال النساء

تحتفل كل القوى التقدمية واليسارية في الثامن من مارس باليوم العالمي للمرأة هذا على مستوى العالم من أجل الوقوف معها، ودعم نضالاتها من أجل في الحرية وضد صنوف الاستغلال التي تتعرض لها، حيث ما زالت النساء يتعرضن لأنواع عديدة من صنوف الاستغلال حيث يعانين من قوانين وتشريعات لا تخدم مصالح المرأة والاسرة بل تسلب حقوقهن وحرياتهن الشخصية وتكرس عدم مساواتهن مع الرجال.

وفي بلداننا العربية تعاني النساء من اضطهاد القبيلة والأسرة والمجتمع والأنظمة التي لا تراعي حقوق النساء في مسألة العدالة الاجتماعية، إلا أن القوى التقدمية والديمقراطية واليسارية مستمرة في النضال في صفوف المرأة والدفاع عنها بشتى الطرق المتاحة وبكل الطاقات للنهوض بجماهير النساء من خلال التثقيف والتوعية، لأن الوعي هو الذي يؤهل النساء للعمل ضد ضد من يستغلهن ويضطهدهن من الأنظمة الدكتاتورية والقوى الرجعية.

في الوطن العربي نرى حجم تخلف النساء في جوانب عديدة ومنها أن نصيب المرأة في وسط العاطلين عن العمل يسجل أكثر من ستين في المئة وما فوق وأيضاً يجري إبعاد النساء عن الوظائف والمناصب العليا في العديد من الميادين، بحيث أن القوى المعادية لقضايا المرأة تعمل على تحجيم مشاركة النساء في الحياة العامة، ويزداد ذلك في البلدان التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي، ما يضاعف من مسؤولية القوى التقدمية للعمل في صفوف النساء في مختلف  المواقع: العمل والأسرة ومناطق السكن ومؤسسات المجتمع المدني من خلال الأنشطة الجماهيرية، وعدم الاكتفاء  بالأنشطة الإعلامية في الأماكن المغلقة.

ولا يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية للرجال في ظل تغييب دور المرأة الفعال في ساحة النضال التحرري من صنوف القهر والاستبداد، لأن جماهير النساء يمثلن في الكثير من المجتمعات الأغلبية، وبالتالي لا يمكن تصور أن يتحرر أي مجتمع أو يتقدم، بدون مشاركة النساء، وبدون نيلهن لحقوقهن في المجالات المختلفة.

في يومهن العالمي، نتوجه للنساء، وخاصة للرفيقات المناضلات، في مختلف بقاع العالم بتحايا النضال والتضامن.

اقرأ المزيد

استمرار التمييز والعنف ضد المرأة

لم تحظ ظاهرة العنف ضد المرأة بمثل الاهتمام الذي تحظى به اليوم منذ أن تنبهت هيئة الأمم المتحدة إلى مدى انتشار هذه الظاهرة عالمياً، ومدى خطورة العنف الذي يعد أساس معظم المشاكل المستعصية التي يعاني منها العالم.

إن العنف ضد المرأة سواء في الأسرة أو المجتمع هو ظاهرة منتشرة تتعدى حدود الدخل والطبقة والثقافة ويجب أن يقابل بخطوات جادة تتصدى له وتمنع حدوثه بوصفه السبب الرئيسي لتحجيم حقوق المرأة وتغليف حياتها بالبؤس والشقاء وجعل مكانتها تتدنى إلى قاع السلم الاجتماعي.

لقد بادرت هيئة الأمم المتحدة في نهاية القرن العشرين بتخصيص عقد من السنوات نُظمت فيه حملة عالمية لمكافحة العنف، وُسلطت فيها الأضواء على هذه الظاهرة من كل جوانبها وتمت المطالبة بتكريس كل قوى المجتمع ومنظماته لتحريك كل الإمكانيات المتاحة للقضاء عليه.

وأوصت الأمم المتحدة بضرورة وضع عهود دولية تُفصل ظاهرة العنف ضد المرأة وسبل معالجتها ومكافحتها وإلزام جميع الدول بذلك.

وقد كانت الخطوة المميزة في هذا المسار إعلان فيينا الذي صدر في يونيو عام 1993 عن المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي وافقت عليه 171 دولة من دول العالم, والذي شدد على ضرورة القضاء على ظاهرة العنف ضد المرأة في الحياة الخاصة والعامة والقضاء على جميع أشكال المضايقة الإنسانية والاستغلال والاتجار بالمرأة.

وأكدت مواد الإعلان على حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وإن للمرأة حق التمتع بها على قدم المساواة مع الرجل وأهمها: الحق في الحياة – الحق في المساواة – الحق في الحرية والأمن الشخصي- الحق بالتمتع الكامل بحماية القانون – الحق في عدم التعرض لأي شكل من أشكال التمييز- الحق في أعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية – الحق في شروط عمل منصفة ومواتية – الحق في أن تكون في مأمن من التعذيب أو المعاملة السيئة أو العقوبة القاسية أو المهينة.

كما عرضت مواده الأخرى استراتيجيات العمل وفصلت التزامات الأمم المتحدة والدول الأعضاء وعلاقة هذا الإعلان بالقوانين المحلية في كل دولة.  وقد كانت الغاية من هذا الإعلان أن يؤدي بمجمله إلى التصدي لظاهرة العنف على مستوى العالم بشكل منهجي وفعال.

ومنذ العام 1995 عندما انعقد في بكين المؤتمر العالمي الرابع للمرأة مختتماً عقداً كاملاً من نشاط عالمي حافل لتنفيذ استراتيجيات نيروبي التطلعية للنهوض بالمرأة وتقييم حصيلة هذا العقد ووضع استراتيجيات عمل لعقد مقبل حتى العام 2005. وعلى الرغم من إقرار اتفاقية “اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة” السيداو في العام 1979 وإنفاذها في العام 1981, إلا إن العالم لم يشهد تحسناً في أوضاع المرأة  في مجال الحماية من العنف بالدرجة المرجوة.

والمحصلة التي تم رصدها ونحن في الربع الأول من القرن 21 إنه لازالت حقوق النساء ومعالجة قضاياهن لا تُشكل أولوية, إلى جانب إن هناك الكثير مما يجب على الأمم المتحدة أن تفعله مع االدول الاعضاء بها, عبر منظماتها المعنية بحقوق الإنسان بشكل عام وبالمرأة بشكل خاص في هذا السبيل.

لقد اهتمت المؤتمرات المتعددة التي عُقدت بقضايا الفتاة القاصر وما يمكن أن يقع عليها من أعمال العنف أو التمييز وتم التركيز على ضرورة حمايتها من الإساءة والاستغلال بكافة صوره, ووضعت احتياجات الأطفال الخاصة على قمة جداول أعمال العديد من المؤتمرات، ومنها الاعتراف بحقوق الأطفال في الحصول على الأولوية عند تخصيص الموارد الوطنية. وحملت الدولة مسؤولية حماية الأطفال من كافة أشكال التمييز القائم على الجنس، إلى حانب الاهتمام الخاص بوضع الفتاة القاصر وحاجتها إلى المساعدة والتنمية بدءاً من الطفولة المبكرة وحتى مرحلة الشباب.

وفي هذا الصدد، وضعت اليونيسيف سياسات خاصة بالمساواة بين الجنسين وتزويد النساء والفتيات بالمعرفة والمهارات، وطالبت بتطوير مؤشرات لا تميز بين الجنسين في جميع البرامج التنموية.  وقد ركزت سياسة اليونيسيف على الفتاة القاصر ودفعت المنظمات الوطنية والإقليمية والدولية إلى ضمان فرص متساوية للفتيات لكي يصبحن نساء متعلمات ومنتجات يتمتعن بالصحة والمعرفة.

إلا أنه من الملاحظ أن الانتهاكات تزداد ضد النساء والأطفال وخاصة في المناطق المنكوبة بالنزاعات والحروب، وتكون المرأة والطفلة من أكثر وأول المتعرضين لكافة أشكال العنف الجسدي والنفسي والمعنوي, ولا تؤخذ شكاوى المنظمات المحلية التي تتبنى قضاياهن بالجدية المطلوبة. كما تبقى التزامات الدول بالاتفاقيات الدولية مجرد التزام شكلي فارغ المضمون.

وتشكل أعمال العنف الواقع على المرأة عقبة جدية أمام تحقيق خطط التنمية المستدامة والتي تعتمد العنصر البشري كركيزة اساس. فأعمال العنف تغرس في نفس المرأة الشعور بالخوف وانعدام الأمن والدونية والنكوص، ولا عجب أن نجد أحياناً نساء يقفن ضد حقوقهن ويعملن على تكريس واقع التخلف والتبعية لهن في محيطهن.

إلى جانب خوف المرأة المستمر من التعرض للعنف والذي يمثل عائقاً دائماً أمام قدرتها على المساهمة الفاعلة في العمل والانتاج المجتمعي. كما يحد العنف ضد المرأة من إمكانية استفادة النساء من الفرص المتاحة لهن لتحقيق المساواة القانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع.

    والعنف الاجتماعي فهو ما تطرحه العادات الاجتماعية المتخلفة والأعراف السائدة من ظلم

    واضطهاد وعدم احترام لإنسانية المرأة والتمييز ضدها في فرص العمل والإسكان وحق منح

   الجنسية لأطفالها وحرية التعبير وحرية القرار. إضافة إلى الحقوق الناجمة عن العمل من

إجازات وحوافز وترقيات, وتغليف ذلك كله بتفسيرات دينية أغلب القائلين بها والقائمين عليها رجال ذوي نزعات عنصرية متعصبة ودونية للمرأة.

إذا أرادت مجتمعاتنا تبني حقيقي لخطط تنمية مستدامة يتوجب ابتداءً أن تكون هناك حملة وطنية منظمة تركز على التوعية وتسليط الضوء على العنف ضد النساء بوصفه انتهاكاً لحقوق الإنسان وحقوق المرأة كجزء من هذه الحقوق، ودعم المبادئ الإنسانية التي تدعو إلى إنصاف المرأة ومعاملتها معاملة إنسانية وحضارية. والسعي لاستكمال إصدار الشق الثاني من قانون أحكام الأسرة الذي سيسهم في حلحلة الكثير من قضايا النساء العالقة في القضاء الشرعي لسنوات طويلة.

كما يجب السعي لتعديل المناهج الدراسية ليتم من خلالها تأكيد المعارف حول المساواة بين  الجنسين وتصحيح النظرة للأدوار التقليدية لكل من الذكور والإناث والتأكيد على التعاون والمشاركة في بناء الأسرة والمجتمع.

إلى جانب تنظيم حملات التوعية بكل السبل المتاحة من وسائل إعلام وحملات تثقيفية وأنشطة المنظمات المجتمع المدني لكشف وتوضيح الآثار الضارة للعنف وعواقبه الوخيمة على الشخصية الإنسانية وعلى الأسرة وسعادتها وعلى المجتمع عموماً من حيث هدمه لطاقات أفراده الإنتاجية. ونشر الوعي حول كيفية التواصل دون عنف وحل المشاكل بشكل علمي والتأكيد على أهمية الحوار واحترام الآخر كموقف حضاري واع ومتفهم.

إن التصدي للعنف يقتضي القيام بالأبحاث المحكمة ووضع الإحصاءات وجمع البيانات (حيث لا زالت الدراسات قاصرة والإحصاءات غير دقيقة حتى الآن) لمعرفة خصوصيات العنف في المجتمع، ومدى انتشاره واشكاله المختلفة وخطورتها وتبعاتها، وخصوصاً في مجال العنف الأسري ونشر هذه الأبحاث والإحصاءات.

ويجب تقديم المساعدات والدعم لمنظمات المجتمع المدني، وخاصة تلك التي بدأت خدمات    المساندة والدعم للمرأة كي تتمكن من تعزيز وإيصال خدماتها لعدد أكبر من النساء. والمطالبة بتوفير مكاتب إرشاد أسري تظم مختصين وذات صلاحيات واسعة, تمكنها من مساعدة النساء والأطفال ضحايا العنف والتمييز الأسري.

إلى جانب القيام بحملات لزيادة الوعي بمسألة العنف ضد المرأة والمساهمة في القضاء عليه بتجنيد النساء أنفسهم من كل شرائح المجتمع واعتبارها قضية عامة تسيء إلى الفرد والمجتمع وتعطل تنميته وتحضره وتعطل طاقاته الفاعلة.

اقرأ المزيد

أفكار كارل ماركس بين الأمس واليوم – 3

شبحها ما زال يطارد الرأسمالية

أفكار كارل ماركس بين الأمس واليوم – 3

 

العُزلة

وبِبُعد نظرٌ مُدهِش تنبأ مؤلفي البيان الشيوعي بالظروف التي تمرُ بها الطبقة العامِلة الآن في جميع دول العالم.

”نتيجة للاستخدام المُفرِط للمُعِدات المكنية ولتقسيم العمل، فقد عمل البروليتاريا كل الصِفة الفردية، وبالنتيجة كل ما يجذب العامل. لقد بات تابعاً للآلة، ولم يَعُد مطلوب منهُ إلا الأشياء الرتيبة والسهلة والبسيطة. من هنا فإن تكلُفة انتاج العامل مُقتَصِرة بالكامل تقريباً على وسائل العيش التي يحتاجها لبقائِهِ، ولتكاثر نوعه. ولكن ثمن السِلعة ومن ثم العمل أيضاً يُعادل تكلفة الإنتاج. ولهذا ففي الانتاج كُلما زاد النفور من العمل كُلما انخفض الأجر. ولا زيادة في الانتاج حيثُ يزداد استخدام المُعدات المكنية وتقسيم العمل، وبنفس القدر يزداد عِبء الكدح أيضاً، سوى كان بإطالة ساعات العمل، وبزيادة العمل المُضني في وقت مُعيّن أو بواسطة السرعة الزائدة للمعدات المكنية، إلخ.“

واليوم تحتل الولايات المتحدة نفس الموقع الذي كانت تتربع عليه بريطانيا أيام ماركس – وهو أكثر الدول الرأسمالية تطوراً. وهكذا، فإن الاتجاهات العامة للرأسمالية مُعَبْراً عنها هناك في أكثر أشكالها وضُحاً. وعلى مدى الثلاثون سنة الماضية زادت أجور الرؤساء التنفيذيون إلى 725%، في حين أن أجور العُمال ارتفعت إلى مُجرد 5.7%. ويحصل هؤلاء الرؤساء التنفيذيون الآن على مُعدل 244 مرة أكثر من موظَفيهِم. إن الحد الأدنى للأجور في الدولة الآن 7.25 دولار في الساعة. ووفقاً لمركز سياسة البحث الاقتصادي، لو أن الحد الأدنى للأجور تماشى مع إنتاجية العامل، لكان وصل إلى 21.72 دولار في عام 2012. وإذا ما أخذنا التضخم بعين الاعتبار فإن مُتوسط أجور العُمال الأمريكيين الذكور هو في الحقيقة أقل اليوم مما كان عليه في عام 1968. وبهذهِ الطريقة، يكون الانتعاش الحالي في مُعظمه على حساب الطبقة العامِلة.

وفي حين أن الملايين اُجبروا على حياة تعيسة من الخمول الاضطراري، فإن ملايين آخرين اُجبِروا على العمل في وظيفتين أو حتى ثلاث، وغالباً ما يعملون لمدة 60 ساعات أو أكثر في الأسبوع بدون أجر على الساعات الإضافية. ويعمل 85.8 بالمائة من الذكور و 66.5 في المائة من الإناث أكثر من 40 ساعة في الأسبوع. ووفقاً لمنظمة العمل الدولية، ”يعمل الأمريكيون 137 ساعة في السنة أكثر من العُمال اليابانيين، و 260 ساعة في السنة أكثر من العُمال البريطانيين، و 499 ساعة في السنة أكثر من العُمال الفرنسيين.“

ووفقاً لبيانات مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، ارتفع مُعدل الانتاجية للعامل الأمريكي الواحد 400 في المائة مُنذُ عام 1950. من الناحية النظرية هذا معناه أنهُ لكي تُحقق نفس مستوى المعيشة يجب على العامل أن يعمل رُبع متوسط العمل الاسبوعي فقط في عام 1950، أو 11 ساعة في الاسبوع. أما ذاك، أو أن مستوى المعيشة لا بُد أنهُ نظرياً قد ارتفع إلى أربع أضعاف. وعلى النقيض من ذلك، انخفض مستوى المعيشة على نحوٍ مُثير بالنسبة لمعظم السُكان، بينما ازدادت الأمراض المُصاحِبة للعمل مثل الاكتئاب والإصابات والأمراض. وهذا ظهر في وباء من الاكتئاب وحالات الانتحار والطلاق وإساءة مُعاملة الأطفال والزوجات والقتل الجماعي وأمراض اجتماعية أخرى.

ويوجد نفس الوضع في بريطانيا، حيثُ أنهُ في ظل حكومة مارغريت ثاتشر تم القضاء على 2.5 مليون وظيفة في المصانع ، ومع ذلك تمت المُحافظة على نفس مستوى الانتاج كما كان في عام 1979. لقد تم تحقيق هذا، ليس من خلال استعمال آلات جديد وإنما من خلال زيادة استغلال العُمال البريطانيون. في عام 1979 حَذَرَ كنيث كولمان Kenneth Calman المدير العام للصحة بأن ”فُقدان وظيفة مدى الحياة اطلق وباءً من الامراض المُرتبطة بالأكتِئاب.“

الصراع الطبقي

وضَّح ماركس وأنجلز في البيان الشيوعي بأن العامل الثابت في كُل التاريخ المُسَجَل هو أن التطور الاجتماعي يحدث من خلال الصراع الطبقي. في ظل الرأسمالية لقد تم تبسيط هذا إلى حد بعيد مع استقطاب المجتمع إلى طبقتين كبيرتين مُتخاصِمتين، الطبقة البرجوازية والطبقة البروليتارية (العاملة). لقد أفضي التطور الكبير للصناعة والتكنولوجيا خلال المائتي سنة الماضية إلى زيادة تَرَكُّز القوة الاقتصادية في أيادي القِلة.

يقول، البيان الشيوعي في إحدى أشهر تعبيراتهِ، ”إن تاريخ جميع المُجتمعات الباقية حتى الآن هو تاريخ الصراع الطبقي،“. إن هذهِ الفكرة لزمن طويل كانت بالنسبة لكثير من الناس أنها لم تعُد صالِحة. وفي الفترة الطويلة لتوسع الرأسمالية الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، مع توفر الوظائف في الاقتصادات الصناعية المُتطوِرة، وارتفاع مستويات المعيشة والإصلاحات (هل تذكرون دولة الرفاهية؟)، فبالفعل بدأ الصِراع الطبقي وكأنهُ شيءٌ عفا علية الزمن.

لقد تنبأ ماركس بأن تطوّر الرأسمالية سوف يُفضي دون رَحمة إلى تَرَكُّز رأس المال، التراكم الضخم للثروة من ناحية وتراكم للفقر والبؤس والكدح المُضني مساوي لهُ من الناحية الثاني للطيف الاجتماعي. ولِعدة عقود من السنين كان الاقتصاديون البرجوازيون وأساتذة علم الاجتماع في الجامعات يستهزؤون بِهذِهِ الفِكرة وكانوا يُصِرون على أن المجتمع أصبح بشكل متزايد أكثر مساواة، وأصبح كُلُ فرد من الطبقة الوسطى. والآن جميع هذهِ الأوهام تبددت.

إن المُحاججة المُفضلة لدى عُلماء الاجتماع البرجوازيون هي، أن الطبقة العاملة لم يعُد لها وجود، كانت ولا تزال واقفة على رأسها. في الفترة الأخيرة تم تحويل شرائحٌ مُهِمة من السُكان العاملين الذين كانوا يُعتبرون أنفُسِهِم سابقاً من الطبقة الوسطى إلى البروليتاريا. لقد تم وضع المعلمون وموظفو الخدمات المدنية وموظفو البُنوك وغيرهم في خانات الطبقة العاملة والحركة العُمالية، حيثُ يُشكِلون بعضٌ من أكثر الاقسام نضالية.

إن المُحاججة القديمة بأن كل شخص يستطيع أن يتقدم ونحنُ جميعاً من الطبقة الوسطى قد زيفتها الأحداث. وكان العكس يحدث في بريطانيا وفي الولايات المتحدة وفي الكثير من الدول المتطوّرة خلال العشرين أو الثلاثين عاماً الماضية. اعتاد الناس من الطبقة الوسطى الاعتقاد أن الحياة تظهر بتقدم مُنتظم من المراحل واحدة تعلو الأخرى. إن هذهِ لم تَعُد القضية.

إن ضمان الوظيفة لم يَعُد لهُ وجود، واختفت وظائف ومِهن الماضي إلى حد بعيد، وأصبحت وظيفة مدى الحياة شيء من الذكريات. لقد اُسقط سِلم الصعود ولم يَعُد للطبقة المتوسطة وجود بالنسبة لمعظم الناس حتى كأمل. تستطيع أقلية مُتضائلة الاعتماد على معاش للتقاعد تعيش فيه مستورة الحال، والقليل منها لديه مُدخر معقول. إن أعداد الناس الذين يعيشون يوم بيوم في تزايد، ولا أحد يعرف ماذا يُخبأ له المستقبل.

إذا كان لدى الناس أية ثروة، فهي منازُلهم التي يعيشون تحت أسقُفها، ولكن مع تقلص الاقتصاد انخفضت أسعار المنازل في الكثير من الدول وربما تتجمد لعدة سنوات. إن فكرة ديمقراطية مُلكية العَقار اتضح أنها سراب. إن امتلاك المنزل لم يَعُد ميزة تُساعد في تمويل التقاعد المُريح، لقد أصبح عبءً ثقيلاً. يجب أن يتم دفع الإيجار، سوى كُنتَ على رأس وظيفة أم لا. تورط الكثير من الناس في حق قانوني سلبي، بديون كبيرة لا يمكن دفعها. وهناك جيل مُتنامي الذي لا يمكن وصفهُ إلا برقيق أو عبيد الديون.

إن هذا شجبٌ مُدَمّر للنظام الرأسمالي. إلا إن عملية التحول إلى البروليتاريا هذهِ معناها أن الاحتياط الاجتماعي من رد الفعل تم تحويله إلى قسم كبير من العُمال ذوي الياقات البيضاء تقترب من الطبقة العاملة التقليدية. وفي التحركات الشعبية الكبيرة الأخيرة، هناك أقسام كانت في الماضي لم تحلم قط في أن تَضربُ عن العمل أو حتى أن تلتحق بنقابة، مثل المعلمين وموظفي الخدمة المدنية، أصبحت الآن في الصفوف الأمامية للنضال الطبقي.

المِثالية أم المادية؟

ينطلق الأسلوب المثالي من ما يُفكر الناس بهِ ويقولون عن أنفُسِهِم. ولكن ماركس بَيّنَ إن الأفكار لا تسقط من السماء، وإنما هي تعكس بشكل دقيق قليلاً أو كثيراً المواقف الموضوعية والضغوط الاجتماعية والتناقُضات خارج سيطرة الرجال والنساء. ولكن التاريخ لا يَتَكَشف كنتيجة لإرادة حُرة أو رغبة ضمير ”الرجل العظيم“، الملوك والسياسيون أو الفلاسِفة. على النقيض من ذلك، إن تقدم المجتمع يعتمد على تطور قوى الإنتاج، والذي هو ليس نتاج تخطيط واعي، وإنما يتشكّل من وراء ظهور الرجال والنِساء.

لقد وضع ماركس لأول مرة الاشتراكية على قاعدة نظرية صَلِبة. إن الفهم العلمي للتاريخ لا يمكن أن يتأسس على صورٌ مُشوّهة للواقع تطفو مثل الاشباح الشاحِبة الرائعة في عقول الرجال والنِساء، وإنما يتأسس على علاقات اجتماعية واقعية. وهذا معناه يبدأ بتوضيح العِلاقة بين الأشكال الاجتماعية والسياسية ونموذج الانتاج في مرحلة تاريخية مُحَدَدَة. وهذا هو بالضبط ما يُسمى بإسلوب المادية التاريخية في التحليل.

سوف يشعر بعض الناس بالانزعاج من تلك النظرية التي يبدو أنها تحرِم النوع البشري من دور المُناصرين في الصيرورة التاريخية. وبنفس الطريقة، شعرت الكنيسة والمُدافعين عن المسيحية بالامتعاض الشديد إزاء مزاعم غاليليو غاليلي Galileo بأن الشمس هي مركز الكوّن وليس الأرض. وفيما بعد، نفس الأشخاص هم الذين هاجموا دارون Darwin على اقتراحِهِ بأن البشر ليسو هم الخلق الخاص لله، وإنما هم نتاج الانتخاب الطبيعي.

في الحقيقة، إن ماركس لا يُنكِر بتاتاً أهمية العامل الذاتي في التاريخ، الدور الواعي للنوع البشري في تطوّر المجتمع. إن الرجال والنساء يصنعون التاريخ، ولكنهم لا يصنعونهُ كُلهُ وفقاً لإرادتهم الحُرة ونواياهم الواعية. يقول ماركس: ”إن التاريخ لا يفعل شيئاً“، وهو ”لا يملك ثروة كبيرة“، وهو ”لا يشَنُ معارك“. إنهُ الإنسان، الإنسان الحقيقي الحي الذي يفعل كلُ ذلك، الذي يملك ويُقاتل؛ فالتاريخ ليس شخصاً، إذا صح التعبير، يستخدم الإنسان كوسيلة لتحقيق أهدافه؛ إن التاريخ ما هو إلا نشاط الإنسان في سعيه لتحقيق أهدافه.“ (ماركس وأنجلز، العائلة المُقدسة، الفصل السادس).

إن كُلُ ما تَفعلهُ الماركسية هو شرح دور الفرد كجزء من مجتمعٌ مُحَدَد، خاضع لقوانين موضوعية مُحدَدَة، ومن ثم كمُمثل لمصالح طبقة مُعيّنة. إن الأفكار ليس لها وجود مُستقِل، ولا هي تملك تطور تاريخي. ويكتب ماركس في الأيديولوجية الألمانية، ”إن الحياة لا يُحدِدُها الوعي،“ ولكن الوعي تُحدِدهُ الحياة.“

إن أفكار وأفعال الناس مشروطة بالعلاقات الاجتماعية، الوضع الذي لا يعتمد على الإرادة الذاتية للرجال والنساء وإنما هي تحدث وفقاً لقوانين جازمة، والتي هي في التحليل الأخير، تعكس حاجات تطور قوى الإنتاج. وتُشكْل العِلاقات المُتَداخِلة بين هذهِ العوامل شبكة مُعقدة والتي غالباً من الصعب رؤيتها. إن دراسة هذهِ العِلاقات هو أساس النظرية الماركسية.

دعونا نستشهد بمثال واحد. أثناء الثورة الإنجليزية، ضن أوليفر كرومويل Oliver Cromwell بحماس أنهُ كان يُقاتل من أجل حق كُلُ فرد في أن يُصلي لله حسب ضميرة. ولكن مسيرة التاريخ برهنت بأن الثورة الكرومويلية، نِسبةً إلى كرومويل، كانت المرحلة الحاسِمة في الصعود الذي لا يُقاوم للبرجوازية الإنجليزية إلى السُلطة. ولم تسمح المرحلة المادية لتطور قوى الإنتاج في إنجلترا القرن السابع عشر بنتائج اُخرى.

لقد حارب قادة الثورة الفرنسية الكُبرى للسنوات 1789-1793 تحت راية ”الحرية والمساواة والإخاء“. لقد ضنوا أنهم يُناضلون من أجل نظام يَرتَكزُ على القوانين الداخلية للعدالة والعقل. إلا أنهُ بصرف النظر عن نواياهم وأفكارهم، كان اليعقوبيون يُعِدون الطريق لِحُكم البرجوازية في فرنسا. ومرة اُخرى، من وجهة نظر علمية، لم تكن نتيجة أخرى مُمكِنة في تلك الفترة من التطور الاجتماعي.

ومن وجهة نظر الحركة العُمالية كانت مُساهمة ماركس العظيمة هو أنهُ كان أول من وَضَّحَ أن الاشتراكية هي ليست مُجرد فكرة مُمتازة، بل أنها النتيجة الضرورية من تطور المجتمع. حاول المفكرون الاشتراكيون قبل ماركس – الاشتراكيون المِثاليون اكتشاف قوانين وصِيغ التي ستضع الأساس لانتصار العقل البشري على عدم عدالة المجتمع الطبقي. إن كُلُ ما هو ضروري كان أن تُكتَشَف تلك الفكرة، ومن ثم تُحَل المُشكِلة. وهذهِ مُقارَبة مِثالية.

وخلافاً للمثاليين، لم يُحاول ماركس قط أن يكتشف قوانين المُجتمع بصفة عامة. لقد حلل قانون حركة مجتمع مُعين، المجتمع الرأسمالي، شارِحاً كيف نَهَضَ، وكيف تطورَ وأيضاً كيف يختفي من الوجود بالضرورة في لحظة مُحددة. لقد أدى هذهِ المُهِمة الضخمة في ثلاث مُجلدات رأس المال.

اقرأ المزيد

المرأة والشأن العام في الواقع البحريني الراهن

  الشأن العام مصطلح يطلق على مختلف المجالات المتعلقة بحياة المجتمع في عمومه، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية والثقافية. بكلمة أخرى أو بتبسيط أكثر هي قضايا الشارع وشئون عموم الناس. وتحمل المشاركة في أي مجال من مجالات الشأن العام قيمة أخلاقية ووطنية كونها تنطوي على تقديم رأي أو جهد أو مال يصب في مجرى تنمية المجتمع ويضمن استدامة جريانه. ويدور حديثنا هنا حول مشاركة المرأة البحرينية التي من نافلة القول التأكيد على دورها التاريخي في حقول الشأن العام البحريني، بل ودورها الريادي في غير مجال من مجالاته على مدى النصف الثاني من القرن العشرين.

  ليس من الوارد الحديث عن دور للمرأة ككتلة واحدة متجانسة، فالمجتمع النسائي ينقسم لفئات نسائية تتمايز في مستوى وعيها العام وثقافتها ودرجة تعليمها وموقعها في الحياة. ولتلك التقسيمات تأثير مباشر على علاقة المرأة بالشأن العام إيجاباً أو سلباً. هناك فئة نسائية تتمتع بمستوى من الوعي العام الذي تراكم عبر السنوات إما بتأثير الجو العائلي المنفتح على مجريات حياة المجتمع وقضاياه وهمومه. أو بتأثير الاحتكاك المباشر لفئات من الشابات ممن واصلن تعليمهن بالخارج مع بيئات منفتحة حياتياً وثقافياً ما أتاح لهن بلورة مستوى من الوعي، وأوجد دوافع التفاعل مع قضايا الشأن العام والمشاركة فيها. وهناك فئات وإن كانت قليلة من اشتغلت على التطوير الذاتي لوعيها بالاحتكاك والاطلاع، فكوَّنت مخزوناً ثقافياً أسفر عن اهتمام تلقائي بالقضايا المجتمعية بل والانخراط فيها. كما كان للقوى السياسية الوطنية ذات الموقف المتبني لتعزيز دور المرأة والداعم لمشاركتها في مسيرة تحديث وتقدم المجتمع أثر كبير في بناء عناصر نسائية واعية، مثقفة ومسيَّسة. على صعيد آخر، سمح التخصص الأكاديمي والالتحاق بوظائف قيادية وشبه قيادية باندفاع فئة نسائية نحو الاهتمام بقضايا الشأن العام ذات العلاقة بحقل الوظيفة والمنصب اللذين تشغلهما هذه أو تلك من النساء. كما سمحت طبيعة عائلات الوفرة المالية ذات النشاط التجاري المتلازم في الغالب مع طابع الحياة الاجتماعية المنفتحة المتمدنة التي تتبنى عناصر التحضر والعصرنة بشكل تلقائي.

  إضافة لما سبق ذكره، جاءت الألفية الثالثة بمحفزات مجتمعية كان من المؤمل أن تفعل فعلها في تعزيز علاقة عموم النساء بالشأن العام وتفعيل مشاركتهن الايجابية في قضاياه. استجدَّ وضعٌ قانونيٌ للمرأة في دستور المملكة ينص على حقها في المشاركة في الشأن العام. تنص المادة الأولى من دستور المملكة الصادر سنة 2002 على أن:” للمواطنين، رجالاً ونساء، حق المشاركة في الشئون العامة والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق الانتخاب والترشيح”. وتعزَّز ذلك بما صدر من تشريعات واتخذ من إجراءات وخطوات عملية باتجاه التمكين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي للمرأة البحرينية. بُذلت جهود رسمية في المؤسسات الحكومية المعنية وعلى صعيد المجلس الأعلى للمرأة للدفع نحو الأمام بمشاركة المرأة في الشأن العام. على صعيد آخر، كان للجهود الأهلية في مؤسسات المجتمع المدني والعمل النسائي دورٌ في دفع المرأة للتفاعل مع الشأن العام والمشاركة فيه.

  هنا لا بد من الاعتراف أنه – وبرغم ما تحقق على الأرض من استحقاقات للمرأة والمجتمع البحريني- فلا مفر من حقيقة أننا ما زلنا نحيا في مجتمع ذكوري. لم تزل المرأة البحرينية – في إطار فئات واسعة- تحيا حياة للرجل في غالب جوانبها الكلمة الفصل والتأثير الأقوى سواء في اتخاذ قرار حر أو في تكوين رأي أو في تبني موقف. لم تزل المرأة ترى فيما يراه الرجل الرأي السديد والكلمة الفصل وتتبنى موقفاً تابعاً للرجل فيما يتعلق بقضايا الشأن العام على وجه الخصوص. يحدث ذلك حتى وإن تفوقت المرأة على زوجها أو رجل عائلتها في مستوى الوعي أو الدرجة العلمية أو المنصب الوظيفي.

  بالإضافة لمعوقات المجتمع الذكوري، فإننا اليوم وفي أتون الوضع المجتمعي المتأزم وتصاعد إشكاليات الشأن السياسي واحتلالها المكانة الأبرز في قضايا الشأن العام. وفي ظل ما جرى بشكل فعلي وخطير من طأفنة للمجتمع، نلمس تراجع الصورة المشرقة التي رسمتها المحفزات التي أنبأتنا بأن أجمل أيام المرأة البحرينية قادمة. تعزَّز دور التيارات الطائفية ليس في التأثير على مجريات الشأن العام فحسب، بل وفي تشكيل موقف سلبي للمرأة من مسائل تتعلق حتى بصلب حقوقها الإنسانية. ومع انغلاق أفق انفراجات ملموسة على غير صعيد في الشأن المجتمعي، ومع تفاقم إشكالات سياسية ضاعفت من معاناة قطاع واسع من النساء، لم تعد المحفزات الرسمية والمجتمعية المنحازة لحقوق المرأة تشكِّل بريقاً جاذباً لعموم النساء يشحذ وعياً أصيلاً ومشاركة فاعلة. غدا الانكفاء نحو الطائفة ومرجعياتها غالباً في وعي وفعل فئات واسعة من النساء في كافة البيئات. أصبحت سياسات التأزيم الطائفي مقصلة لكل ما دُشِّن على مدى ما مر من سنوات من خطط وبرامج تمكين المرأة في التعاطي مع الحقوق ومع قضايا الشأن العام. في العموم غدا التأزيم الطائفي يستلُّ – في غفلة منا- حتى مفردات بناء المجتمع المدني الحديث التي ناضل من أجلها الإنسان البحريني وبشرت بها طروحات المشروع الإصلاحي في جهة حقوق وتمكين المرأة على وجه الخصوص.

  يجرنا الحديث في هذا الأمر إلى الدور المحوري الذي باتت تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في مستويات قرب أو بعد المرأة البحرينية من الاهتمام بقضايا الشأن العام والانخراط فيها. لا بد من الإقرار أن الوسائل المذكورة بانغماسها الراهن فيما هو منغلق محجم لدور المرأة، وفيما هو طائفي تحريضي معزز لانكفاء المرأة في حدود وأطر مرجعياتها الطائفية قد أعاقت نمو وعيها ومشاركتها الحرة الفاعلة في الشأن المجتمعي. لم تشكل وسائل التواصل الاجتماعي عنصر وعي محفز للمرأة لتفاعل ايجابي نحو تعزيز الحقوق والمشاركة إلا فيما ندر. الأمر بتقديرنا يحتاج لوقفات جادة على الصعيد الرسمي وعلى الصعد الأهلية المعنية كي تعود عجلة وعي ودور المرأة البحرينية للتقدم.

اقرأ المزيد

التمييز ضد الزوجة في حق السكن

مدى دستورية قرار وزير الاسكان رقم (909) بشأن نظام الإسكان

التمييز ضد الزوجة في حق السكن

 

في  جلسته المنعقدة بتاريخ 23 نوفمبر 2014 قرر مجلس الوزراء اعتماد تعديل معايير التأهل لقبول الطلبات الإسكانية المتعلق بدخل رب الأسرة الأساسية، بحيث يتم فصل راتب الزوج عن راتب الزوجة عند احتساب دخل رب الأسرة الأساسية عند التقدم لطلب الخدمة الإسكانية، ليكون تبعاً لذلك دخل الأسرة الأساسية الذي يعتد به في هذا الشأن هو الراتب الأساسي الشهري لرب الأسرة مضافاً إليه العلاوة الاجتماعية مع الأخذ بالاعتبار تعدد مصادر هذا الدخل، وكلف وزارة الإسكان بتعديل نظام الإسكان بما يتوافق مع الإجراءات الفنية والقانونية اللازمة لذلك وإقراره من مجلس الوزراء.

وبناء على هذا القرار الصادر من مجلس الوزراء صدر القرار رقم (909) لسنة 2015 بشأن نظام الإسكان  من وزير الأسكان بتاريخ 1 أكتوبر 2015م .

 فهل جاءت أحكام مواد قرار وزير الاسكان منسجمة مع الغاية والهدف التي كان يبتغيها قرار فصل راتب الزوج عن الزوجة ، أم اشتمل على تمييز ضد الزوجة ؟!

في واقعة حديثة تقدمت الزوجة بعد صدور قرار وزير الاسكان بطلب الحصول على قرض ترميم البيت الذي تملكه ، غير أن وزارة الاسكان رفضت الطلب بحجة أن راتب الزوجة مضافا إليه راتب الزوج يزيد عن الحد الاقصى  مستندة في ذلك على عدد مواد القرار الوزاري المشار إليه ومن ابرز هذه المواد نص المادة (67 ) التي تقضي بأنه ( إذا كان الطلب مقدماً من الزوجة أو من الزوجين اتفاقاً بينهما فيشترط ألا يتجاوز دخلهما معاً الحد الأقصى المسموح به للخدمة الإسكانية المطلوبة ) ، وأنه من الشروط التي يجب توافراها لقبول طلب تمويل الترميم في مقدم الطلب  حسب المادة ( 29 / 4 ) من القرار أن (ألا يقل دخله الشهري عند تقديم الطلب وعند التخصيص عن مائة وعشرين ديناراً بحرينياً ولا يزيد على ألف ومائتي دينار بحريني) .

إن التمييز ضد الزوجة يبدو واضحا جليا في نص المادة ( 67 ) من قرار وزارة الاسكان المشار إليها فهو يقرر جمع راتب الزوجة مع راتب زوجها كشرط ليس لقبول طلب تمويل الترميم فحسب بل لقبول جميع الخدمات الاسكانية التي نص عليها القرار والتي تشمل الحصول على مسكن عن طريق التمليك أو التأجير، أو تمويل شراء أو بناء مسكن وفقاً لنظام التمويل المعمول به في بنك الإسكان، أو الحصول على قسيمة سكنية، عن طريق أي من البرامج الإسكانية التي تقدمها الوزارة ، وذلك إذا كان الطلب مقدما من الزوجة أو الزوجين أتفاقا بينهما ، أما إذا كان الطلب مقدما من الزوج وحده فلا يسري عليه حكم المادة ( 67 ) من القرار الوزاري ويتم قبول طلبه على أساس راتبه فقط ، وذلك حسب نوع الخدمة التي يطلبها طبقا لمواد القرار المتعلقة بتحديد حد أدني وحد اقصى للراتب .

إن هذا التمييز ضد الزوجة الذي احتواه نص المادة ( 67 ) من قرار وزارة الاسكان رقم (909) لسنة 2015 ، لا يخالف أحكام الدستور فحسب بل المعايير والاتفاقيات الدولية ، ويتعارض مع بعض مواد القرار ذاته .

وحيث أن غايات دستور مملكة البحرين هو العمل على توفير السكن لذوي الدخل المحدود من المواطنين حسب نص المادة (9 / و ) منه والتي يتعين أن يهدف نظام الإسكان إلى تحقيقها بتقديم الخدمة الإسكانية دون تمييز بسبب الجنس عند تقديم الطلب وعند التخصيص ، وحيث أن المادة  ( 5/ب) من الدستور على أن تكفل الدولة مساواة المرأة بالرجل في ميادين الحياة ومنها الحياة الاقتصادية والاجتماعية ،  فأنه يمكن القول أن المادة ( 67 ) من قرار وزارة الاسكان لا تنسجم ولا تتفق مع  أهم المواد الدستورية التي  نصت عليها)  المادة ( 18 ) من الدستور التي نصت على ان (الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة ) .

كما تخالف العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي يعترف بالحق في السكن اللائق في الفقرة 1 من المادة 11  ، التي نصت على أنه (تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى، وبحقه في تحسين متواصل لظروفه المعيشية. وتتعهد الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة لإنفاذ هذا الحق  ….  ) .

وحيث إن حق المرأة في السكن اللائق، بوصفه حقاً غير قابل للتصرف به ومتكاملاً وغير قابل للتجزئة من حقوق الإنسان كافة، فان نص المادة( 67 ) من قرار وزارة الاسكان المطعون فيه بعدم دستوريته يتعارض مع ما أُقِرَّت به، ضمناً وصراحةً، طائفة من الصكوك الدولية والإقليمية المتعلقة بحقوق الإنسان. وبحق المرأة في السكن ، أهمها والأكثر صراحة ما ورد في الفقرة 2(ح) من المادة 14 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ( السيداو)، التي تشير إلى حق المرأة في المناطق الريفية في التمتع بأوضاع معيشية لائقة، لا سيما فيما يتعلق بالسكن والمرافق الصحية والإمداد بالكهرباء والماء، والنقل والمواصلات. وما ورد من أحكام أخرى من اتفاقية ( السيداو ) توضح أن الحق في السكن اللائق يرتبط ارتباطاً لا ينفصم بحقوق حيازة الأرض والممتلكات، وبإمكانية الحصول على التمويل. إذ تلزم المادة 13 من الاتفاقية الدول الأطراف بأن تتخذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وأن تكفل لها المساواة مع الرجل في الحق في الحصول على القروض المصرفية والرهون العقارية وغير ذلك من أشكال الائتمان المالي. كما تكفل المادة 15 من الاتفاقية للمرأة حقوقاً مساوية لحقوق الرجل في إبرام العقود وإدارة الممتلكات،. وعلاوة على ذلك، فإن الفقرة 1(ح) من المادة ذاتها تكفل نفس الحقوق لكلا الزوجين فيما يتعلق بالملكية وحيازة الممتلكات والإشراف عليها وإدارتها والتمتع بها والتصرف فيها، سواء بلا مقابل أو مقابل عوض.

من ناحية أخرى يمكن القول إن معظم أحكام القرار رقم (909) لسنة 2015 بشأن نظام الإسكان قد أشتمل على تنظيم وتحديد حق المواطنين في الحصول الخدمة الاسكانية ، وهو حق لا يجوز تنظيمه وتحديده بموجب قرار بل بموجب قانون ، ومن ثم يكون هذا القرار جاء خلافا لمبدأ المشروعية و لنص المادة ( 31 ) من الدستور التي نصت على أنه ( لا يكون تنظيم الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون، أو بناءً عليه .  ولا يجوز أن ينال التنظيم أو التحديد من جوهر الحق أو الحرية ). ولا ينال من هذا القول ما جاء في ديباجة القرار على أنه قد صدر بعد الاطلاع على المرسوم بقانون رقم (10) لسنة 1976 في شأن الإسكان، المعدل بالقانون رقم (7) لسنة 2009، ذلك أن مواد هذا المرسوم بقانون وأن قررت وأنشأت حق المواطنين في طلب الخدمة الإسكانية غير أنه ليس في نصوصه ما ينظم أو يحدد حق المواطنين في الحصول على حق الخدمة الإسكانية ، وأن كل ما نص عليه هو ما يجب على وزارة الاسكان أن تقوم به تجاه من يطلب الخدمة .

بالبناء على ما تقدم نصل إلى القول إن نص المادة ( 67 ) من قرار وزارة الاسكان المشار حين قرر جمع راتب الزوجة مع راتب زوجها كشرط لقبول طلبها للحصول على جميع الخدمات الاسكانية عند الطلب وعند تخصيص، يكون قد خالف احكام الدستور وما نصت عليه الاتفاقيات والمواثيق الدولية على النحو الذي أشرنا إليه وشابه عيب في مبدأ المشروعية .

اقرأ المزيد

العابرون للطوائف

    الطائفية في معناها المزدوج، أي في تعبيرها عن مجتمع متعدد الطوائف، أو ثنائي  التكوين الطائفي كما هو حال مجتمع البحرين، وفي كونها ساحة من الحساسيات وحتى الاحتكاكات بين أبناء هذه الطوائف لم تنشأ اليوم، وإنما هي موروث عمره قرون من الزمن ، وهذا الموروث يمتلك كل أسباب استمراره المترسخة في التكوين الاجتماعي للبلد وفي أشكال الوعي التي لن يصار إلى إلغائها بجرة قلم أو برغبة.

ومن حيث المبدأ يجب علينا ألا نتعاطى مع هذه المسالة من زاوية الرغبات أو النوايا الحسنة فلن نصحو في صباح الغد أو الصباح الذي يليه ونرى المجتمع وقد تحررمن تكوينه الطائفي، أعني من كونه مبنيا على ثنائية أو تعددية مذهبية لا مناص من الإقرار بها.

 بهذا المعنى ليست البحرين حالة شاذة بين المجتمعات العربية – الإسلامية، ولا هي حالة غريبة عن بقية المجتمعات في العالم المعروفة بتعدد الأجناس والأعراق والطوائف والمذاهب التي يعيش أصحابها على أراضي هذه البلدان ويكونون بالتالي مجتمعا واحدا أو مشتركا، تجمعهم، وفي أحيان كثيرة، تكاد تصهرهم مشتركات عديدة قوية لا يعيقها التنوع أو التعدد القومي والطائفي.

بل ان المجتمعات متعددة أو متنوعة التكوينات يمكن أن تكون أكثر حيوية وثراء ثقافيا واجتماعيا بالقياس للمجتمعات أحادية التكوين، لأن التنوع يعني إضفاء التفاعل الخلاق بين المكونات المختلفة، ويعني أيضا تعدد الروافد الثقافية والتاريخية التي تضفي الحيوية المشار عليها، وأعتقد إن وضع البحرين بالقياس إلى محيطها الخليجي يعطي مثلاً جيداً على ما نذهب إليه.

 لكن المسألة الطائفية في مجتمعنا، كما هي في المجتمعات العربية – الإسلامية على درجة كبيرة من التعقيد بحيث يغدو معها حديثنا أعلاه بمثابة النشيد الرومانسي الذي يغفل التجليات السلبية الكثيرة للطائفية، حين تصبح أداة موظفة توظيفا سياسيا، يحتمل الكثير من أوجه الإقصاء والتمييز، التي ليس في متناول قوة أخرى غير الدولة أن تعالجها إن هي أرادت تجنيب المجتمع مخاطر الفتنة، عبر توكيد فكرة المواطنة التامة، القائمة على تكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والواجبات، مما يعمق من فكرة الانتماء الوطني ويعززها، ويضعف بالتالي من حدة التعصب الطائفي، الذي ينشط كلما ضعفت آليات الدمج الوطني التي تعزز المشتركات على حساب عوامل الفرقة أو التنافر .

اقرأ المزيد

جمعيات التيار الوطني الديمقراطي تدعو إلى استئصال البيئة الحاضنة للجماعات التكفيرية

تعبر جمعيات التيار الوطني الديمقراطي في البحرين عن ادانتها البالغة للعمل الإرهابي الغادر الذي استهدف المدنيين الأبرياء في احدى محطات المترو بمدينة سانت بطرسبورغ الروسية، وأدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا والمصابين، معربة عن مواساتها لأهاليهم، وتعازيها للشعب والحكومة في روسيا الاتحادية.

ويأتي هذا التفجير الغادر في سلسلة الهجمات الارهابية التي تستهدف المدنيين، وكان قد سبقها التفجير الذي تم في بريطانيا، وأدى هو الآخر إلى وقوع ضحايا واصابات، كما طالت هذه الأعمال مدناً أخرى في أوروبا ومناطق مختلفة من العالم، في تصدير للإرهاب الذي ابتليت منه بلادنا العربية على أيدي المجموعات التكفيرية المتطرفة، والتي تمارس مثل هذا الإجرام بصورة يومية في العراق وسوريا وليبيا وغيرها من بلداننا العربية.

إن هذا يؤكد بأن الارهاب أصبح ظاهرة عابرة للقارات، وهو يستهدف الجميع دون استثناء، بما في ذلك البلدان الغربية التي غضت بعض حكوماتها الطرف عن الجماعات التي تمارسها، وسهلت لها سبل التمكين والتمدد لتحقيق بعض الغايات السياسية من وراء ذلك، في تمزيق وحدة بلداننا، وضرب نسيجها الوطني بما يخدم المشروع الصهيوني – الاستعماري في المنطقة.

وتؤكد جمعياتنا أن مواجهة ظواهر العنف الدموي التدميري تتطلب استراتيجية أخرى، لا تكتفي باستعادة الأراضي التي تهيمن عليها داعش وسواها من المنظمات التكفيرية، وإنما، أيضاً، استئصال البيئة المولدة والحاضنة لها، بتحرير منظومة التعليم من الفكر المتطرف، وبإشاعة العدالة الاجتماعية واستيعاب الشباب في خطط التنمية عبر برامج عصرية للتعليم والتأهيل المهني وتوفير فرص العمل.

جمعيات التيار الديمقراطي

جمعية المنبر التقدمي

جمعية العمل الوطني (وعد)

جمعية التجمع القومي

 

6 أبريل 2017

اقرأ المزيد

قراءة في واقع الحركة النقابية البحرينية (13)

استعرضنا في الحلقة السابقة الأجواء التي صاحبت الفترة المتبقية لانعقاد المؤتمر التأسيسي والتي لا تتعدى الأسبوعين، وكيف أصدرت اللجنة التحضيرية في هذه الفترة القصيرة العديد من القرارات بعضها كانت متناقضة في بعض الأحيان وفي بعضها الآخر كانت خارج نطاق ما تم الاتفاق عليه بين اللجنة التحضيرية ورؤساء النقابات الشيئ الذي عمق الخلافات ووسع الهوة بين القيادات النقابية وهو ما يعد خارج الاتفاق العام بين القيادات النقابية في أن نذهب جميعا إلى المؤتمر التأسيسي موحدين متضامنين يجمعنا هدف واحد هو إنجاح المؤتمر، خاصة وأنه لا توجد خلافات بين النقابيين على أهداف النقابات العمالية وأن مجالات الالتقاء واسعة النطاق.

فالكل متفق حول القضايا الهامة والأهداف العمالية التي لا تختلف حولها أية نقابة عمالية خاصة أن جميع هذه الأهداف تصب في مصلحة الطبقة العاملة البحرينية كالدفاع عن مصالح العمال وصيانة حقوقهم، والمساواة في المعاملة وعدم التمييز بين الرجل والمرأة العاملة، وتطوير وتأهيل العمال (رجالا ونساء) مهنيا،وتحقيق الأمان والاستقرار الوظيفي، والضمان الاجتماعي وزيادة الحوافز المادية والمعنوية والعلاوات والمكافآت وغيرها مما يحسن ظروف العمل والمعيشة للعمال، والبحث عن إجراءات للحد من البطالة وخلق فرص العمل للجميع وتحسين ظروفهم المعاشية، والعمل من أجل سن تشريعات عمالية عصرية تتوافق والمعايير العربية والدولية. كل هذه الأهداف لا تختلف عليها أية نقابة بل أنهم جميعا يتفقون عليها وجاءت ضمن أنظمتهم الأساسية.

إذا أين المشكلة؟ بالطبع هناك اختلاف في وجهات النظر بين النقابيين حول بعض المفاهيم والمبادئ النقابية، وحول النظرة للعمل النقابي ومساره وحول نوع البناء في الحركة النقابية وتوجهاتها. ومن الأمور المفهومة أن تكون لنا آراء مختلفة حول هذا المفهوم أو ذاك أو حول معالجة هذه القضية أو تلك ولكن يتعين علينا القبول ببعضنا البعض رغم كل الاختلافات إذا ما أردنا أن نقوم بدورنا التاريخي لإنجاز مهمات المرحلة الراهنة.

بدء تبلور كتلة نقابية ضمن الحراك العمالي

كان هذا موقف الكتلة التي تشكلت في مواجهة اندفاع اللجنة التحضيرية والاتجاه الذي كانت تدفع إليه، إيمانا منها بأن مهمة المرحلة الراهنة هي إنجاز وحدة الحركة النقابية التي لم تعد مطلوبة بل ملحة، واستمرار الوضع على ما هو عليه بات خطيرا، ورغم أن كل النقابيين على اختلاف أطيافهم يتفقون على ذلك، وآليات التغيير ووسائله معروفة لديهم، إلا أن أحدا لا يتحرك في هذا الاتجاه.

وهو ما ألقى على عاتق هذه الكتلة مسؤولية التحرك من أجل ضمان وحدة الحركة العمالية والنقابية والسير قدما موحدين من أجل إنجاح المؤتمر التأسيسي مهما كلف الأمر. هذا ما أكدت عليه القيادات النقابية في الكتلة أثناء اجتماعاتهم الجانبية الكثيفة وفي اللقاءات والندوات التي كانت تعقدها تمهيدا للمؤتمر التأسيسي وما كانوا يصرحون به للصحافة المحلية، وكان هذا الموقف بالرغم من الخلافات الحادة التي أثارتها قرارات اللجنة التحضيرية المتسارعة، محل تقدير معظم النقابين والعديد من السياسيين والقانونيين والمهتمين بالشأن العمالي.

تحت عنوان “إجماع نقابي على المشاركة في مؤتمر النقابات” أوردت صحيفة “الوسط” في عددها 424 بتاريخ 4 نوفمبر 2003 الخبر التالي:

“يتوجه عمال البحرين لعقد المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين في الفترة ما بين 12 إلى 14 يناير/كانون الثاني المقبل، لتخطو الحركة العمالية بذلك خطوة نوعية في تنظيم صفوفها وتشكيل نقاباتها الحرة المستقلة، ويبدو أن ظاهر الحركة النقابية يبشر بوحدة الصف النقابي وتماسكه من خلال تأكيد جميع النقابات الـ 36 على دخول المؤتمر والمشاركة في رسم صورة الاتحاد وكذلك تأكيد رئيس الاتحاد العام لعمال البحرين ورئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر التأسيسي للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين.”

وكان قرار الكتلة النقابية هو المشاركة في كل الفعاليات النقابية التي تعقدها اللجنة التحضيرية والفعاليات التي تقيمها هي: محاضرات وندوات وورش عمل نقابية، وانتهاج مبدأ المصارحة والمكاشفة وطرح آرائها بكل صراحة وشفافية والدفاع عن مواقفها المبدئية في كل ما يتعلق بالمؤتمر التأسيسي دون مواربة أو مجاملة، وهو ما أكسبها المصداقية والاحترام من الجميع بما فيهم أعضاء في اللجنة التحضيرية وحتى قيادات في المنظمات العمالية الدولية والعربية والأجنبية.

وتأكيد لذلك فقد كتب المحامي والمناضل الوطني محمد السيد عن انطباعاته بعد حضور إحدى ندوات التجمع: “خرجت من الندوة وقد خامرني شعور جميل طيب لدا سماعي ما قاله هذا النقابي، وكذلك لما قاله النقابيون الذين سبقوه في الحديث، فقلت في نفسي: أن حركتنا النقابية بألف خير وسوف تشق طريقها إلى الأمام وإلى مستقبل مشرق وزاهر، وسوف تنهض من كبوتها ما دام مثل هؤلاء النقابيين وغيرهم الكثير متواجدين في أوساط الحركة العمالية، وأن نضالات وتضحيات النقابيين السابقين لم تذهب سدا …”

مساعي لتهدئة الأمور وتأكيد الوحدة العمالية

وفي هذا الخصوص بدأت المساعي لحل الخلافات الحاصلة في الساحة النقابية حول آليات انعقاد المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين وآلية تشكيل بنائه التنظيمي وتمت عدة لقاءات بين الكوادر النقابية في الكتلة وأعضاء في اللجنة التحضيرية وذلك لغرض تقريب وجهات النظر والوصول إلى اتفاق حول أهم القضايا التي برزت فيها اختلاف في الرأي. ومن ضمن هذه المساعي تم اللقاء مع أحد ممثلي منظمة العمل الدولية الذي سبق وأن إلتقى مع أعضاء اللجنة التحضيرية وتوصل معهم إلى حلول وسط تقبل به جميع الأطراف. وقد كان هذا اللقاء واللقاءات الأخرى مثمرة وتم فيها التعهد بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه.

وتنفيذا لهذا الاتفاق عقدت اللجنة التحضيرية ثلاث لقاءات مع أعضاء مجالس إدارات النقابات في نادي العروبة لمناقشة اللائحة الخاصة بالمؤتمر التأسيسي حيث كان الإجماع من الكوادر النقابية على إجراء تعديلات جوهرية على اللائحة الخاصة بالمؤتمر التأسيسي وهو ما لم تستطع اللجنة التحضيرية تجاهله وأخذت بمعظم التعديلات.

نقض الاتفاقات وتصاعد الخلافات مجددا

إلا أن الأمور ومع اقتراب موعد انعقاد المؤتمر التأسيسي، سارت في اتجاه مخالف لما تمَّ الاتفاق عليه كحلول وسط مقبولة من جميع الأطراف، ونقصد بها التعديلات المقترحة على مشروع النظام الأساسي حيث أصرت اللجنة التحضيرية على كل ما جاء في اللائحة الخاصة بالمؤتمر التأسيسي ومشروع النظام الأساسي للاتحاد متجاهلة مقترحات الكوادر النقابية والتي تم الاتفاق عليها، فارضة الأمر الواقع خاصة وأنه لم يتبق على انعقاد المؤتمر التأسيسي سوى أسبوعين.

وفي هذا الإطار وأثناء انعقاد المؤتمر التأسيسي يقول الأستاذ محمد المرباطي المستشار النقابي في الاتحاد العام في المنتدى الذي عقدته صحيفة الوسط للكوادر النقابية “ربما هي المرة الأولى التي تصادفني في تجربتي النقابية العربية والعالمية أن أرى الاختلاف بشأن آلية العمل، فالخلافات في العالم تتعلق بالحقوق، كما تحدث مزايدات بشأن من يدافع عن العمال أكثر، أما هنا فالخلافات تجري بشأن من يسيطر ويهيمن على اتحاد النقابات أكثر، فهذا هو جوهر الاختلاف.” (منتدى «الوسط» قبيل المؤتمر التأسيسي للنقابات (2 – 2) خليل عبدالرسول14 يناير 2004)

عودة إلى الظروف التي سبقت انعقاد المؤتمر التأسيسي خاصة بعد تراجع اللجنة التحضيرية عما تم التوصل إليه من اتفاقات بينها وبين الكوادر النقابية وبوساطة من ممثل المنظمة الدولية، بدأت لقاءات الكوادر النقابية (المعارضة لتوجهات اللجنة التحضيرية) تتكثف وتتسع في إطار كتلة نقابية متماسكة لتدارس الوضع وما يمكن القيام به لتجنب اتساع الخلافات بين النقابيين وانعكاسها سلبا على مجريات المؤتمر التأسيسي وعلى الحركة النقابية.

وفي هذه اللقاءات كان باديا التذمر بين القيادات النقابية أعضاء مجالس إدارات النقابات، ورغبة جامحة لديهم في القيام بأي عمل يحد من تمادي اللجنة التحضيرية في الذهاب إلى المؤتمر بأجندتها لتمرير النظام الأساسي والهيمنة على الأمانة العامة، وفي هذه الأجواء المتوترة طرحت الكثير من الآراء منها أن يتم مقاطعة أعمال المؤتمر التأسيسي، أو أن يتم الانشقاق والانفراد بتأسيس إتحاد آخر، إلا أن النقاشات الموضوعية والعقلانية التي حكمت تلك اللقاءات أسفرت عن القرار النهائي وهو أن نشارك في المؤتمر التأسيسي وبفعالية ونعمل جاهدين ومن خلال النقاشات والاقناع تعديل النظام الأساسي بما يتوافق مع تجرتنا الخاصة في تأسيس النقابات العمالية استنادا إلى قانون النقابات العمالية رقم (33) ووفق المعايير النقابية العالمية.

وهذا ما حصل حيث شاركنا ككتلة واحدة في كل أعمال المؤتمر التأسيسي بفعالية وبنشاط منقطع النظير، وبالرغم من عدم قدرتنا على التأثير في المؤتمر في اتجاه إجراء التعديلات التي كنا نطمح لإجرائها في النظام الأساسي بحكم هيمنة الأغلبية على مجريات الأمور فيه، إلا أن النقاشات التي دارت حول كل النقاط المثارة كانت بمثابة ورشة عمل في أصول العمل النقابي وآلياته واستعراض تاريخ نضال الطبقة العاملة البحرينية عبر العقود السبعة الماضية من أجل تشكبل حركتها النقابية، وأن كل ما طرح لم يكن نصوص جامدة من المعايير النقابية الدولية وإنما ما يتناسب وتجربتنا القصيرة في تأسيس النقابات العمالية على المستوى المحلي مستلهمين من تجارب الحركة النقابية في الدول العربية والعالمية.

حول المؤتمر التأسيسي أوردت صحيفة الوسط العدد 495 الصادرة في 14 يناير 2004م  “ومع كل ذلك فلا يختلف اثنان على أن هذه المرحلة من اخطر المراحل الانتقالية التي تشهدها الحركة النقابية في البحرين، إذ تشهد قيام إتحاد عام يشمل جميع النقابات العمالية بقطاعيها (الحكومي والخاص).

إن وجود تكتلات وقوائم غير علنية لا تعتمد على مبدأ النقابات والحاجة العمالية وإنما على مبدأ التوجهات السياسية والتكتلات الحزبية لصالح جمعية سياسية معينة هو الغالب على الأمر النقابي في هذه المرحلة الحرجة من العمل النقابي، والذي قد يؤدي إلى حدوث تغيرات كبيرة في الساحة القيادية إلى الإتحاد العمالي الجديد، ما ينعكس على الحركة العمالية في الفترة القادمة وكيفية تعاطيها مع القضايا الحساسة من البطالة وقانون العمل الجديد والحد الأدنى للأجور، والعمالة الوافدة (والقائمة تطول).”

وكتب هاني الفردان في صحيفة الوسط:

“أعلن في الفترة ما بين 13 – 15 من يناير/ كانون الثاني قيام الاتحاد العام لعمال البحرين بشكل رسمي بعد ان انتهت عملية انتخاب الهيئة القيادية للاتحاد المتمثلة في الأمانة المكونة من 13 عضوا. وأسفرت النتائج عن اكتساح الكتلة المحسوبة على جمعيتي “الوفاق الإسلامية” و”العمل الديمقراطي” التي دخلت الانتخابات بقائمة مكونة من 13 عضوا فاز جميعهم ولم تدع لمنافسيها من الكتلة النقابية المستقلة المحسوبة على جمعية “المنبر التقدمي” والمستقلين أي مقعد.” (الوسط العدد 861 – الجمعة 14 يناير 2005م الموافق 03 ذي الحجة 1425هـ)

ومع احتدام المناقشات والمواجهات داخل المؤتمر التأسيسي على مدى ثلاثة أيام من 12 إلى 14 يناير 2004م وتفاعل المهتمين بالعمل النقابي من خارج المؤتمر أصدرت مجموعة من العناصر الوطنية بيانا أعلنت فيه موقفها لما يجري على الساحة النقابية جاء فيه وفق جريدة الأيام:

في بيان رسمي أصدروه أمس
أعضاء اللجنة الدستورية يرفضون الوصاية السياسية على النقابات

أصدر اعضاء اللجنة الدستورية بيانا حول انعقاد المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام لنقابات العمال اعلنوا فيه استنكارهم لفرض الوصاية السياسية على مؤسسات المجتمع المدني، ورفضهم لفرض نظام »الكوتا« في العمل النقابي وتكريس مبدأ التعيين.

وقال السبعة الموقعون على البيان الذي اصدروه امس وهم محمد جابر وعلي قاسم ربيعة وهشام الشهابي ومحسن مرهون وسعيد عسبول وعيسى الجودر وأحمد الشملان ما يلي:

“إننا في الوقت الذي نحيي فيه انعقاد المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام لنقابات عمال البحرين الذي يأتي على خلفية تاريخية لنضال وتضحيات عمال وشعب البحرين، والتي شكلت محطات هامة في التاريخ السياسي لنضالات شعبنا، في ذات الوقت نعبر عن قلقنا عن تلك التدخلات المباشرة لبعض الأطراف السياسية وفرض قوائم انتخابية على الحركة النقابية واعتماد مبدأ التعيين لآليات العمل النقابي مما يشكل تدخلا مباشرا في الشئون الداخلية للحركة النقابية، وحرف مساراتها الديمقراطية واسقاط قرارها المستقل، وتحويل هيئاتها القيادية الى مجرد واجهات منفذة للإرادات السياسية لبعض الجمعيات السياسية، مما يشكل ضررا بالغا باستقلالية العمل النقابي في بلادنا، وهي بادرة خطيرة تشكل سابقة في حرف النضالات العمالية وتحويل مؤسساتها النقابية الى ادوات تخضع للقرار السياسي، وتعطي المبرر القوي لتشجيع الفئوية السياسية في الاطر النقابية، وتشكل المبرر القوي للميل نحو الفئوية العرقية والمذهبية في الحياة العامة.

واضافوا: اننا نكرر رفضنا لمبدأ التقاسم السياسي للقيادة النقابية، كما نرفض مبدأ فرض الوصاية السياسية على مؤسسات المجتمع المدني وعلى وجه الخصوص التنظيم العمالي، كما نرفض ايضاً مبدأ التعيين في جميع مستوى وهياكل وآليات الحركة النقابية، ونعرب عن اسفنا لما يجري في تأسيسية الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين.

اننا نحيي جميع النقابيين الذين عبروا عن احتجاجهم على تلك التدخلات والتجاوزات في العمل النقابي، ونناشد عمال ونقابيي بلادنا الشرفاء ان يعربوا عن رفضهم لهذه الممارسات والتدخلات ويعملوا على استقلالية قرارهم النقابي المستقل.

اقرأ المزيد

لماذا يتقدم اليمين في العالم؟

 هناك ميل واضح في المشهد السياسي، في كل بلدان العالم المعاصر تقريبا – خاصة الدول المركزية الرأسمالية الغربية – إن على مستوى النخب السياسية المسيطرة أوالحاكمة، أو على مستوى الوعي الإجتماعي لدى الرأي العالم الشعبي، نحو التوجه نحو اليمين، بمدرستيه؛ المحافظ الديني (النيوليبراليزم) والمتطرف العنصري (الفاشي).. بدأ هذا الرجحان في الوعي والثقافة منذ العقود الماضية (بدأ بتفكك المنظومة الإشتراكية)، غير أن مفهوم الليبرالية التابعة لما يسمى بيسار الوسط ظل لفترة عقدين مسيطراً بعض الشيء، متقاسماً حيناً مع المحافظين الهيمنة السياسية.

إلا أن العقد الأخير شهد تغيراً واضحاً في المزاج الشعبي نحو الفكر اليميني الواضح. لعل مرد ذلك فشل سياسات التقشف جراء الأزمات المالية المستعصية من قبل النخب الحاكمة الشرهة والإنتهازية، الأمر الذي أدى إلى قبول متزايد من المواطنين للأفكار المتطرفة في العالم الغربي من ناحية وإلى تسييد الفكر الإرهابي الإسلاموي في المنطقة العربية والإسلامية من ناحية أخرى.

كل هذا يعني أن ثمة تراجعاً تاريخياً في الرأي العام العالمي في الوقت الحاضر وحتى الأمد المنظور، قد يطول أو يقصر، معتمدا على الحراك الشعبي العالمي وتوجهاته الفكرية والثقافية. سنناقش أدناه أسباب هذه الظاهرة محاولين استشراف المآلات القادمة.

لنبدأ بتفكيك مصطلحي اليمين واليسار. تاريخيا  فإن “المصطلحين” السياسيين المفارقين حديثان نسبيا، بالرغم من أقدمية كلمة ” اليمين” في التاريخ البشري. معروف للمتابع؛ حادثة جلوس أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) من الارستقراطيين، الموالين للملكية والقوى التقليدية المحافظة، المسايرة؛ على اليمين. وجلوس القوى الحداثية، المتمردة والراديكالية على الجانب الأيسر من منصة رئيس البرلمان (في الاجتماع الأول لمجلس الطبقات سنة  1789)، ومنذ ذلك الوقت أضحى مصطلحا “اليمين” و”اليسار” يتعزز استخدامهما في عالم السياسة والعلوم الاجتماعية، وكفيصل يقسم القوى السياسية بين تقدمي متحرر ورجعي محافظ.

غير أن للمسألة تفاصيلها الإشكالية، التي يجب فهمها بشكل صحيح. من المؤكد أن مصطلح أو كلمة “اليمين” قديم قدم البشرية (حلف اليمين.. ما ملكت أيمانكم .. الخ). وقد كانت تنم في الماضي السحيق عن القيم الاجتماعية المحترمة والمنسجمة مع تقاليد العصور القديمة والعصور الوسطى، حسب مفهوم قيم النبلاء في وقته.

ويجب ملاحظة أن غالبية الناس يكتبون باليد اليمنى أو يركلون الكرة بالقدم اليمنى.. وهكذا. لذا  كان هناك دائما نوع من التبجيل بالأعضاء اليمنى لبني البشر. بينما كانت هناك نظرة سلبية (فأل سيىء) لأعضاء البشر اليسرى، إلى درجة أن بعض التعاليم الدينية تشيطن اليد اليسرة والقدم اليسرى في حين أنها تبجل، واضعا هالة من التقديس لليد اليمنى! استمرت الأمور هكذا حتى وصولنا إلى العصور الحديثة، حينما حدث – صدفة أو قصدا- اصطفاف اليمين واليسار في البرلمان المذكور!. ومنذئذ دخل المصطلحان القاموس السياسي. حيث بدا اليسار وكأنه يجسد روح التمرد والثورة على الأوضاع التقليدية المحافظة القديمة، التي صارت تمثل اليمين في مختلف الصعدحينما دخل العالم مرحلة الثورات البرجوازية في القارة الأوروبية في العصور الحديثة، ضد المنظومة الإقطاعية، التي شاخت بعد أكثر من ألف عام، ابتداء من القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كانت البرجوازية في أوج نشاطها وتقدميتها. ومن الطبيعي أنها اعتبرت “يسارية” في حينه مقارنة باليمين المجسد لمصالح الملاكين الإقطاعيين والممالك الاوروبية والعالم القديم. قضت البرجوازية على الإقطاع في العالم المتمدن، مؤسسة منظومة رأسمالية متقدمة على صعيد الانتاج والصناعات الحديثة (الثورة الصناعية)، الأمر الذي أدى إلى وتيرة سريعة من التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بجانب ازدهار المدن الحديثة، كسوقٍ لتصريف المنتوج بجانب مواقع للمصانع والانتاج.

ها هنا انبثقت طبقة جديدة (البروليتاريا)  التي كانت ضرورية لنمط الإنتاج الرأسمالي، حيث القطبان الرئيسان والندان والطبقتان الأساس ( البرجوازية الصاعدة/ والبروليتاريا الناشئة). فلم يكن في الامكان لأحد القطبين الاستغناء عن الآخر، بغية استمرارية مسيرة الحياة والتطور المجتمعي وازدهار ثروة الأمم (ادم سميث).. ابو الإقتصاد السياسي  .. و”ديفيد ريكاردو”… نشأ على يد الاقتصاديين المذكورين علم جديد يبحث العملية الإنتاجية المعقدة الحديثة (الاقٌتصاد السياسي).

ألف “ادم سميث” كتابه المرجعي (ثروة الأمم)، محاولا اكتشاف سر تكدس ثروة الرأسماليين ومضاعفتها، من جراء عمل طبقة العمال واستغلالها بصورة مركزة، لكنه لم يستطع الوصول إلى كنه  اللغز المحير، أوالكنز الذي يجلب الثروة. سبر غور السر الدفين لم يكتب إلا لألماني (كارل ماركس)، الذي اكتشف نتيجة تأملاته العميقة وبحوثه لسنوات طوال؛ قانون “فيض القيمة” أو”القيمة الزائدة”، المدر لربح الرأسمالي، صاحب المصنع أوالمنشأة، من جهة تزايد ثروته تباعا (الرأسمال المتحرك).

 لم يستطع أحد غير ماركس أن يرى بأن الرأسمالي يسرق في الواقع جهد العامل أوجزء من قوة عمله.  نحن الآن في القرن التاسع عشر، حين بدأت تدق باب التاريخ ثورات نوعية من نمط آخر؛ وهي الثورات البروليتارية/ الإشتراكية – ابتداء من كومونة باريس-  لدك المنظومة الرأسمالية، التي شاخت وصارت عنواناً لليمين والرجعية والجشع المرضي. في الوقت، الذي أضحى نضال الطبقة العاملة يعبرعن قلب قوى اليسار والتقدم والعدالة الإجتماعية.

الآن.. لندخل موضوعنا المطروح للنقاش؛ وهو ظاهرة تراجع وانحسار قوى اليسار في كل مكانٍ تقريبا. وتبوؤ اليمين ساحة الحراك الاجتماعي في أغلب الدول، خاصة في الغرب والمنطقة العربية الاسلامية (اليمين الديني/ الإسلام السياسي). هنا يجب ملاحظة أن هذه الظاهرة كسمة للعصر؛ جديدة وغير مسبوقة. ففي الماضي القريب، ابتداء من ثلاثينات القرن الآفل تصدرت ولأول مرة قوى سياسية يمينية متطرفة، عرفت في إيطاليا بالحزب الفاشي وفي المانيا بالحزب النازي. غير أن ذلك الصعود والاستيلاء على السلطة (ديمقراطيا اوعنوة) من قبل اليمين المذكور توازى بتوازن القوى، مع القوى السياسية اليسارية. بمعنى ان الظاهرة المستجدة الحالية مفارقة، بل هي ظاهرة غير مسبوقة، مقارنة بفترة قبيل الحرب العالمية الثانية، حيث اتسمت قوى اليسار بقوة جماهيرية كبيرة.. كان من الممكن أن تجابه اليمين الفاشي في حينه، لو لم تتشتت قوى اليسار (نقصد هنا الحزبين الألمانيين؛ الشيوعي والاشتراكي الديمقراطي). ولم تدخل في خلافات وصراعات حادة مع بعضها البعض (مثال المانيا وصعود هتلر …… )

 

تشابه واختلاف.. محاولة للبحث عن الأسباب

نعم هناك شيئ من التشابه بين المرحلتين، لسالفة والحالية، من ناحية أن الرأسمالية كمنظومة “مستبدة” ومستغلة لجهد العامل؛ لا تستطيع الإستمرارية بدون حروب وتدخلات بغية التحكم في موارد الطاقة والمواد الأولية. ويحدث أن القوى البرجوازية وأجنحتها التقليدية – عادة – والإشتركية الديمقراطية – حينا- ونتيجة لتناقضاتها الداخلية، المعبرة عن الازمة البنيوية للرأسمالية، تسلم السلطة طواعية لليمين المتطرف للقيام بمغامرات محسوبة أوغير محسوبة النتائج والويلات (الحروب)، بغية القضاء على مكتسبات القوى العاملة وتجديد منظومتها المهترئة، كالثعبان الذي يغير جلده على الدوام! لكن هناك أيضا إختلاف كبير بين الفترتين. حيث أن شعار “يمينا در” الذي نلاحظه في الدول الرأسمالية المتقدمة (الغربية) الآن، ليس بالضرورة انتقال السلطة لليمين الفاشي الواضح.. بل ليمين محافظ ومتدين أساسا، ذي حساسية تجاه النازحين من المسلمين والملونين والأعراق المختلفة، من مناطق عديدة من العالم، خاصة المنطقة العربية والشرق أوسطية.. هذا سياسيا. أما على الصعيد الإقتصادي فهذا اليمين الجديد يعادي العولمة المالية الحالية، وهو أساسا ضد الإتحاد الأوروبي (يلتقي اليمين واليسار في هذا المسعى كل لأسبابه!). محاولا استعادة مجمعاتها الصناعية من الدول الصناعية الصاعدة كالصين والهند ..الخ (هذا على الأقل ما يبدو أنه البرنامج الإقتصادي لترامب).

 نعم قد تشكل الحكومات اليمينية المتطرفة، لو اتحدت في الغرب، خطورة على الوضع العالمي المتدهور والملتبس أصلا. غير أن سمة الوضع العالمي الحالي تعبر عن مرحلة انتقالية موضوعية صعبة، قد تأخذ بعض الوقت حتى يستقر العالم على شكل جديد؛ عبارة عن “منظومة عالمية متعددة الأقطاب”.. حينئذ لابد أن تتفق مختلف الدول الكبرى على الحد الأدني للمصالح المختلفة للاعبين الكبار خاصة ( روسيا.. الصين … بريكس/ شنغهاي …  الخ ) بغية الحفاظ على التوازن الدولي المنبثق من منظومة تعدد الأقطاب الحتمية القادمة، الأمر الذي يصب –لامحالة – في مصلحة دول التخوم الأضعف، التي تحاول الخروج على التبعية والهيمنة الغربية

 كلمة حول تراجع وانحسار اليسار

التراجع بدأ مع تفكك المنظومة الأشتراكية وتداعياتها المستمرة، على الصعيد العالمي، الأمر الذي أدى إلى احباطات مجتمعية وحتى طبقية. بمعنى أن هناك تراجعا واضحا في قوة الطبقة العاملة  – كما وكيفا –  يتجسد في ما يمكن ملاحظته وهو؛ عملية إعادة توزيع جديد للعمل، وتموضعات طبقية جديدة.. حيث تتشكل قوى بروليتارية جديدة في الدول الصاعدة، مع ضمور للطبقة العاملة في الرأسماليات الغربية القديمة (بسبب قانون ماركس / تراجع معدل الربع).

من الطبيعي والحال هذه أن احزاب الطبقة العاملة (الطليعية الاشتراكية والشيوعية)  في تراجع وتهميش وحتى تخبط فكري، ليس فقط بسبب الجانب الإقتصادي، بل نتيجة ضياع بوصلة “الدياليكتيك” وتراجع النظرة التحليلية العلمية على الصعيد السياسي، حيث أضحت “الضبابية” سيدة الرؤية والتحليل، المؤدية بالضرورة إلى عدم الفهم الصحيح لتضاريس الواقع المعاصر، والسمة الإنتقالية للعصر. بجانب القصور في فهم الأسباب الموضوعية للتراجعات الحالية.. حيث ” القديم” مازال بإستطاعته تجديد نفسه. و”الجديد” لم يتشكل بعد بكامل عنفوانه. والأدهى أن هناك – كما اسلفنا- ضعفا معرفيا (فكريا/ نظريا) بيناً لدى القوى الطليعية المذكورة، أدى إلى تمترس تقليدي/ نمطي في الطرح، بعيداً عن إبتكارات تنظيرية جديدة وضرورية.  فمثلا مافتئت غالبية الاحزاب الشيوعية، الخارجة من معطف الأممية الثالثة، تعتبر أن سمة العصر -مازالت وكما كانت –  “الإنتقال من الرأسمالية إلى الأشتراكية”. وكأن شيئا لم يحدث؟! وكأن العالم لم يتغير منذ فترة القطبين الجبارين؟!

 المآلات المستقبلية

لا أحد لوحده وبجهده الذاتي، يستطيع التنبؤ بما سيكون عليه شكل العالم في العقود الأربعة أوالخمسة القادمة مثلا (2050). فالوضع العالمي معقد إلى درجة أنه يحتاج إلى نقاشات وبحوث لاتنتهي من قبل أصحاب الشأن المعنيين، والمنشدين لعالم أكثر عدلا مقارنة بالنظام العالمي “المتوحش” الحالي. أي أن الحاجة تستدعي جهوداً جماعية جبارة، بغية تقريب وجهات النظر، فيما بين القوى الطليعية، الأمر الذي يؤدي إلى عمل مشترك بين القوى التقدمية والإشتراكية، في سبيل درء الحروب والتدخلات واستعادة المبادرة والعافية، إن لجهة إعادة القوة والنفوذ السياسيين للقوى الطليعية ذاتها، أو لجهة التشكل النوعي الجديد للطبقة العاملة واصطفافاتها على صعيد العالم. هنا يجب ايضا دراسة المتغيرات، التي مست بنية الطبقة العاملة.. وهي بالطبع في حاجة إلى آليات عمل جديدة للنضالات الطبقية القادمة، وأشكال أخرى غير مسبوقة ومبتكرة، بغية التهيؤ لولوج جديد للمجتمعات البشرية، نحو منظومة ما بعد الرأسمالية؛ أي الإشتراكية.

اقرأ المزيد

التوافق المجتمعي والشق الجعفري من قانون احكام الأسرة

منذ الثمانينات والجمعيات النسائية والحقوقية التقدمية تسعى لإصدار قانون عصري موحد للأحوال الشخصية، وفي وقت لاحق تشكلت لجنة الأحوال الشخصية والتي تضم الجمعيات النسائية والحقوقية وشخصيات وطنية متنورة.

ومنذ تأسيسها لم تدعُ تلك اللجنة في بياناتها ومواقفها لإصدار قانونين منفصلين، واحدٍ لكل طائفة على حدة، استشعاراً لخطورة هذه الخطوة في طأفنة المجتمع،  وتكريس الطائفية المدمرة للنسيج المجتمعي فكنا نطالب دائماً بقانون وطني واحد جامع لجميع فئات الشعب.

ولقد استمر عمل اللجنة إلى ما بعد المشروع الاصلاحي لجلالة الملك، وتشكيل المجلس الوطني بشقيه “مجلس النواب – مجلس الشورى”، ففي عامي 2008-2005 قدمت الحكومة مشروع قانون موحد لأحكام الاسرة للبرلمان لمناقشته والتصديق عليه، ولكن الحكومة اضطرت لسحبه من البرلمان مرتين إثر الضغوطات المتواصلة من قبل رجال الدين من الطائفة الشيعية بحجج كثيرة غير منطقية – لا دستورية ولا منطقية – وما صاحب ذلك في تلك الفترة من تأجيج في الشارع، بإصدار فتاوي، والتشويه المتعمد لأهمية اصدار مثل هذا القانون، وجرى ترويج مزاعم وخزعبلات بأن الأنساب ستختلط  والأعراض ستنتهك لو صدر هذا القانون من السلطة التشريعية.

جاء في دراسة من إعداد الدكتورة ليلى عبدالوهاب حول قوانين الأحوال الشخصية العربية أمام المحكمة العربية الدائمة لمناهضة العنف ضد النساء التي عقدت في بيروت في مارس 1998: “حقيقة الأمر أن الأيدلوجية الدينية السائدة لا تكمن خطورتها فقط في مجرد تشكيل الوعي الاجتماعي العام والخاص حول دور المرأة ومعاناتها في الأسرة و المجتمع،  بل تكمن الخطورة في كونها الأيدولوجية التي تقوم عليها القوانين والتشريعات الخاصة بالأسرة والأحوال الشخصية”.

هنا تصبح الآراء والمفاهيم التقليدية الجامدة حول المرأة عندما تتحول لتكون تشريعاً وقانوناً ملزماً للنساء، هنا تأتي خطورة المرجعية الدينية في هيمنتها وسلبها لوعي المجتمع وخاصة وعي المرأة.

هذا الموقف المتشنج  حذا بالحكومة لتقديم مشروع قانون لأحكام الأسرة للطائفة السنية فقط عام 2009، وتطبيق أحكامه في المحاكم الشرعية السنية، وذلك بتبرير بأنه ليس هناك توافق مجتمعي لإصدار قانون موحد لأحكام الاسرة!!

أيجوز الحديث عن التوافق المجتمعي في تشريع واصدار قانون مهم و جوهري يمس شريحة كبيرة من المجتمع؟

هل  نقوم بتنظيم  استفتاء لنسائنا من الطائفة الشيعية فقط لنأخذ رأيهن في إصدار قانون يحمي المرأة ويساندها ويحفظ كرامتها ويدافع عن إنسانيتها كامرأة مظلومة مسلوبة الارادة،  كيف نأتي بالتوافق لنساء ملتزمات بمرجعية دينية هي في الأساس رافضة لإصدار قانون لأحكام الاسرة، فطالما إرادة الوعي مسلوبة فلن يكون هناك توافق مجتمعي لإصدار القانون؟

 إن الطريق الوحيد لتفادي هذه الإشكالية هي النية الصادقة من طرفين: الدولة من جهة،  ورجال دين معتدلين من الطائفة الشيعية، من جهة أخرى لمناقشة ووضع مشروع قانون لأحكام الاسرة، وطرحه على السلطة التشريعية. وكذلك ثمة  حاجة لبذل جهود كبيرة من قبل الحركة النسائية ممثلة في المجلس الأعلى والاتحاد النسائي، وكافة القوى الوطنية والقطاعات النسائية في الجمعيات السياسية لخلق قوى ضاغطة على السلطة التشريعية للإسراع في إصدار قانون احكام الأسرة – الشق الثاني.

نأمل أن تتكاتف كل الجهود في المطالبة بالإسراع في اصدار القانون، وعدم تضييع الوقت، بالتلكؤ في ذلك، خاصة وأن مملكة البحرين مطالبة وملزمة في تقريرها القادم للجنة المرأة الأممية التابعة لهيئة الامم المتحدة بشرح التزامها ببنود إتفاقية القضاء عن كافة أشكال التمييز ضد المرأة “سيداو”. فإنضمام مملكة البحرين لاتفاقية “سيداو” هو حدث مهم، حيث أصبحت هذه الاتفاقية جزء من التشريع الوطني، وأصبح لها  قوة القانون بعد أن صادقت عليها مملكة البحرين وتم نشرها في الجريدة الرسمية.

وليس الأمر مجرد التزام قانوني من جانب بلادنا تجاه الاتفاقيات الدولية، وإنما هو ضرورة دستورية وتشريعية وأخلاقية وإنسانية، على الدولة الاستجابة لها تجاه الشريحة الواسعة من الشعب التي تشكلها النساء الشريكات في التنمية والبناء والأسرة.

اقرأ المزيد