المنشور

بيت حصّة

في الستينات من القرن الماضي، كنت أتردد وبكثرة، خاصة في الشتاء وأيام المطر، على بيت عمتي مريم، الكائن في منطقة النعيم الغربي، حينها كنت صبياً، وكنت أحب عمتي جداً، كان بيتهم المقام من السعف يقع في آخر منطقة النعيم الغربي، وأذكر أنه لم تكن توجد سوى ثلاثة بيوت متقاربة، وكلها من السعف، أحد البيوت بيت (ابو شجُور) وكان مقابل بيت عمتي مسجد من الحجارة ملاصق إلى بيت كبير لفرد من عائلة ذات نفوذ، كانت بوابته كبيرة تدخل فيها سيارة أحد أصحاب البيت، ويبعد عن بيت عمتي أمتار، ولا يوجد بيت امامه او إلى جانبه، بالقرب من البحر المحاط برمل ناعم يمتد إلى بيت عمتي,
البيت المذكور مبنى على طريقة كلاسيكية، مستطيل، ويقع مكانه الآن مغسلة برايت ومحطة البترول وأسواق الأسرة، على طوله نوافذ طويلة من الأعلى حتى الأسفل، في الأعلى مقنطرة (ARCH) وحواجز مكسوة بالزجاج البلوري الملون، يعطي جمالاً كلما سطعت الشمس عليه مرسلاً ألواناً على السجاد الإيراني الفاخر المتلاصق، وفي الفناء الكبير اثنتان من النسوة الافريقيات يُحضرّن الطاولات وقت الاحتفالات النادرة جداً، حيث ان حصة، صاحبة المنزل، التي كانت في العشرينات من عمرها، تعيش مع جدتها التي لا تطيق تواجد غرباء في المنزل.
عرفنا حصة لتواضعها وعلاقتها مع عمتي حيث كانت دائمة التواصل معها وصارت تعرفنا، وكثيراً ما تزور عمتي التي هي بدورها تحبها وتحب الجلوس في العريش وتستأنس حينما يسقط المطر ويخترق السعف، كنا نستأنس لمجيئها، ونلتف حولها لجمال ملابسها ورائحة عطرها وعمتي تنهرنا وتقول لنا (اتباعدوا ولا تلعوزون الشيخة)، وترد حصة (خليهم شحلايلاتهم)، وكثيراً ما تصطحبنا إلى بيتهم وأحياناً تنادينا من بعيد من أمام منزلها، حيث تجلس على (دكة) الباب وأمامها كلابها الكبيرة، تقوم بإطعامها اللحم، لكننا نخاف من الكلاب لأنها تنبح إذا أردنا أن نقترب، وتقوم حصة بإسكاتهم، وتدخلنا إلى المجلس وقبل أن ندخل تدعنا نغسل أرجلنا المتسخة حيث كلنا حفاة لا نلبس نعلاً.
وكثيراً ما تنهرها جدتها، وتقول لها بصوت عالٍ: (لا تدخلي هؤلاء وارجلهم قذرة إلى الميلس)، وترد عليها حصة، لا…أنهم يغسلون أرجلهم في الحوض. تدخلنا إلى المجلس وتقول لنا…(اليوم ياييه..فوان يديد…آنه بشغله وانتو صفقوا)، وفي كل مرة تأتي بنا نفرح كثيراً، أحياناً تنادينا لتعطينا أكلاً، لكن نفرح إذا تنادينا إلى الغناء، تأتي الينا بالحلويات والمكسرات، فقط لكي نصفق.
كانت حصة طيبة جداً ومتواضعة رغم أنها لا تعرف إلا عمتي، لكن صدى سخاءها في كل المنطقة، وتحافظ على الزيارات في المناسبات، وتتكل على عمتي في زيارة البيوت البعيدة عن بيت عمتي. وفي رمضان كانت تأتي بالأطباق بنفسها، تأتي بصحن كبير من الثريد وقت الفطور، ولأن عمتي تقوم بتربية الأبقار، تبادلها بالحليب واللبن والسمن وال(البة).
كانت علاقات جميلة، كانت المنطقة لا تعيش التناقض الذي تعيشه اليوم، حيث هذا الصخب، وهذه الضجة.
كنت أتحين الجمعة لزيارة بيت عمتي، حيث أستأنس للعمل معها في زريبة البقر، كانت تطعم البقر من النواة المطهي التي تخلطه (بالشوار)، أتذكر رائحته، كانت تربى الدجاج والأغنام، حينها من يمتلك هذا الرصيد من الحيوانات الداجنة، لا يحتاج إلى شراء أي شيء من خارج البيت.
كانت الأبقار تتغذى في قطعة كبيرة من جذع النخلة مجوفة تسمى ال (قرو)، أتذكر بعد طبخ الطعام تسكبه فيه.
كان زوجها إبراهيم الناري يصنع (القرو)، وهو الجذع المجوف الذي تأكل الأبقار فيه طعامها. وإبراهيم بائع الكاز (كيروسين) مات في حادث هو وحماره، كان يشتري أكياس النواة والشوار للبقر، وهذا الذي جعل عمتي تحزن حزناً شديداً لفراقها الزوج الطيب الحبيب، والعصب الاقتصادي للبيت، وقد افتقده حتى أبناء المنطقة، حيث يقوم بالتجوال لبيع الكاز (الكيروسين)، يغني (كاز…كاز…كاز، ويش حالته راعي الكاز…شقق خلاقينه راعي الكاز) حتى تأتي إليه النساء حاملات القوارير لشراء الكاز.