المنشور

نفحات الكينونة

هل بمقدورنا، اعتماداً على ومضات الذاكرة، وقد استحالت الأشياء الأولى ذرّات في عواصف الحياة، أن نستعيد كلّ الصور كما ارتسمت في مخيلة الطفولة الفوضوية؟ وهل في طاقة الذاكرة أن تلملم كل هذه النثار المتشظي، وهي في كل الحالات لا تستقبل إلا بعيون وحواسّ مزاجية الالتقاط؟

فنحن، إذ نستذكر الأحداث والمواقف والحكايات والروائح والوجوه والأمكنة والأصوات، ربما ابتدعنا تصاوير لم يسبق لنا أن عشناها، أو ربما عايشناها من دون أن نقدر على استجلابها كما تستجلب كاميرات الديجيتال المتطورة الآن كل حيوات مواليد الجيل الجديد، منذ أن يخرج من بطن أمه مروراً بسنوات الطفولة المبكرة جداً وليس انتهاءاً بالمراحل التي تليها.
أن تكون قادراً على شحذ مخيلتك بنشاط لا يتكئ على كسل التكنولوجيا الحديثة وتخمتها الجارفة.. أن تنذر كيانَك لنبش دفاتر هذه الحقبة الأثيرة لهي نعمة جزيلة لا يعرفها إلا أهل التفكر والتعمق في جواهر العوالم لا في قشورها؛ حيث تظل عناصر المخيّلة مهجوسة بالحفر المتأمل، بناءً على مكابدة واستبطان عميقَيْن، في داخل طبقات هذه السنوات الكثيفة المتداخلة المتواشجة.

***
ذلك الطفل الذي وُلد في سنة اثنين وثمانين وتسعمئة وألف من شهر يوليو القائظ ما يزال يسكن في أحشاء وجودي، بالمعنى الأنطولوجي الغائر دوماً في الأعماق. وما تزال الطفولة ينبوعاً متجدداً يثري مخيلتي ويبعث الكثير من الإثارة وحب المغامرة، حتى ولو كنت ذاهباً إلى السوق لشراء حاجيات البيت، فكيف بي وأنا أهيّء كينونتي للخوض في مضائق الكتابة ومتاهاتها.
ولي أن أظن أنه كلما تقدمت بنا السنوات سنظل مشدودين بشكل أكبر إلى العودة نحو طفولاتنا. ولكن في حالتي هنا أكاد أقول إنني أشبه ما أكون أمام شريط فيلمي بالأبيض والأسود مبهم ومغبّش، لا يكاد يبين منه شيء طوال السنوات الخمس الأولى سوى ومضات متقطعة ملتبسة لا يتشكل منها أي خيط سرديّ يمكن التعويل عليه توخياً للدقة والوضوح الكاشفَيْن، وإنما خرائط تالفة ذات خطوط مبلبلة محفوفة بالأسرار والطلاسم والرموز، كما لو أنك عبثاً تتقفى آثارها بحثاً عن كنز مدفون في أعماق الأرض البعيدة.
ولكن، تظل الأنوية الأولى ملتصقة بنفسي المتأهبة باستمرار لإعادة إنتاج تلك الطفولة المتحررة من جمود الذاكرة الاجتماعية والعائلية والمتأسلبة، وربما يلازمني شعور خفيٌّ بالتمرد على لحظات الكبت القاهر لتدفق نهر هذه الطفولة بغزارة وتلقائية لا تلكؤها الإكراهات المقيتة من رُهاب لا مرئيّ وأبعاد أخلاقوية غائرة في اللاوعي الباطن الشقيّ. ولم يكن إلا حضور المخيلة الباهر جنباً إلى جنب مع الذاكرة كجناحَيْن تسافر من خلالهما العزلةُ إلى تضاريس الطفولة وفراديسها المفقودة، وليس هذا ما نسميه أحلام يقظة، ولم يكن ذلك احتذاءً بتأملات غاستون باشلار حين يُشير في قوله:” يبدو بأن حلم اليقظة الباحث عن الماضي والطفولة يحيي عدة حيوات لم تولد إلا في المُخيّلة”.
وليس ذلك استعادة وصفية تقريرية لحقبة ولّت وانتهت، وإنما هي إعادة تأمل واستبطان لمرحلة الطفولة بوصفها تجربة تمس الجسد والروح والوجدان بشكل لا نهائي غير متوقف عند نقطة زمنية محددة.

***
يقيناً لستُ ذلك الطفل الذي كنتُه. ولكن من يكتب الآن هذه السطور طفل آخر يتعالق مع ذلك الأول المتشح بشفافية الأحلام والبراءة والظِلال والأمواج. وكثيراً ما تشبّهنا -نحن الشعراء- بالأطفال تيمناً وتبركاً وادعاءً ومجازاً، لا على وجه التماهي والحقيقة، وإلا هل في طاقتنا وفي طاقة من حولنا ذلك؟ هل نحتمل -نحن الكبار- أصلاً أن نكون أطفالاً ولو ليوم واحد؟
نحلم أن نتناسخ في جسد ذلك الطفل وروحه وعنفوانه الكامل، في شهيق ذلك الزمان وزفيره، في سبحانية أمكنته المكتنزة بالأريحيّة والحنان. ولكن في عروق الدم غصة الاستحالة وحسرة السؤال على زمن وأماكن تبخّرت وتلاشت كما يتلاشى الماء في قرارة أرض سبخة.
الوقت انصهر وذاب مصبوباً في لعنة الشاشات والهواتف المجبولة على الشرور والفتن والويلات. والمزارع بأغلبها استحالت إلى كتل من الأسمنت البغيض. والسواحل ضحّلتْها وسحقتْها دفائن الشاحنات المتأهبة للردم ليلَ نهار، حتى اندثرت بأكثرها وصار بعضها مستنقعات تتخثر من وضر الزيوت والبواليع والقمامات وجِيَفِ الكائنات والأسماك الطافحة…

***

هل كنت أحلم، أم كنت ذلك الطفل حقّاً؟ أكانت أصابعي هي فعلاً تلك التي كانت تلامس موج البحر كما لو أنها تلامس ملاكاً من الماء؟

هل كنت ذلك الطفل، مستيقظاً يهمّ باحتساء كأسين من الشاي الأسود الممتزج بالحليب، في إشراقة صباح عطلة صيفية، متعجلاً خطواته الحافية نحو ضفة الساحل القريب من البيت، ليغمر نفسه في الأمواج الهادئة، أو آتياً بالطَشْت(المِشخال) المعدني المغطّى بالقماش الأبيض، إذ يخرقه في وسط سقفه واضعاً في قاعه مسحة من الطحين اجتذاباً واصياداً لأسماك المَيْد الصغيرة، بلا مبالاة بالزمن ومجرياته، بلا حساب لما كان وما سيكون.
على مبعدة نصف ميلٍ من البيت نمشي متلهفين إلى الصَّيْد. وأتذكر صفاء مياه ضفاف خليج توبلي أيامئذ، حيث يبين من خلالها لمعان ظهور أسراب المَيْدِ على تفاوت أحجامها.

أكاد أتخيل الفارق الهائل بين الطفلَيْن، بين ذلك الذي كان يهجم على الحياة بحواسه وأحلامه وبهجاته وشقاواته، حتى وإن لم يكن شقياً بما يكفي هناك، وبيني أنا الآن كطفل لا يملك إلا أن يتأسّى بالكتابة متألماً ومتأملاً في مضائق الزمان وشروخه وتحولاته.. لا يملك إلا أن يناجي الطفولة بمحبة وإصرار غامرينَ.. أن يُصليِ لتلك الألوهة الكامنة بجسد تلك الكينونة:

ذلك الغاطس في سِيف البحر
وهو يرى الكائنات تشعُّ وتستطيب هدوء الحياة وضوضاءَها..

***
أنا أم أنتَ أيها الطفل،
ذلك الذي يرى فجأةً
خوفَها وسط أعينها حين نصطادها
ونخبئها في أكياس النايلون..
وحين نكتفي بالحصادِ القليل
نهمُّ راكضين بها إلى الأمهات
حاملين لهنَّ البُشرى
بضعة أسماك من المَيْدِ
ما زلتُ أتنشّق في زَفَرِها نفحةً عميقةَ العطرِ والذكرى.

***
حنانيكِ أيتها الطفولة،
هبيني نفحةً من نفحاتك الطيّبة..!

*المقال جزء من كتاب يصدر قريباً