المنشور

«المادة السوداء».. عوالم رباعية الأبعاد

أعادت لي رواية «المادة السوداء» للأمريكي بليك كراوتش، مشاهد أثيرة من فيلم «عقل جميل»؛ لا سيما بعد أن أسدلت الصفحة الأخيرة.. رأيت جنيفر كونيلي تمسح وجنة رسل كرو -يلعب دور عالم الرياضيات جون ناش- حاملة يده إلى موضع قلبها لتطمئن قلقه بهمسة آمنة: «هذا حقيقي»!

من خلال الاتكاء على الكثير من الصور الرمزية، يشير كراوتش بشكلٍ ما إلى أهمية تقدير قيمة الأسرة في المجتمع، فعلى الرغم من التقدم العلمي لا ينبغي الإغفال عن إخماد روح الدفء والحميمية بين أفراد البيت الواحد بفعل التطور والتكنولوجيا اللاهثة.

على نحو سيريالي وغرائبي في الوقت ذاته؛ تدور أحداث الرواية حول حادثة اختطاف عالم فيزياء وأستاذ في كلية صغيرة، يدعى جيسون ديسين. إذْ أجبره مجهول على قيادة سيارته، وظل يصوّب مسدسه تجاه مؤخرة رأسه ملقياً به في حظيرة طائرات! وبعد حقنه بعدد من الأمبولات يدخل في حالة من التشويش الذهني قبل أن يلتقيه عاملون في محطة علمية تقوم بأبحاث عن اختيارات الإنسان، تحمل اسم «فيلوسيتي»، وما يلبث أن يستعيد وعيه حتى يستوعب محاولتهم في إعطائه شخصية وحياة كاملة لشخص آخر! يرفض جيسون هذا الجنون ويقرر الهرب بصحبة طبيبة المحطة، ومن هنا تبدأ فصول عودته لأسرته عبر رحلة خطرة محفوفة بالبؤس والتشرد ومشادات درامية حادة بين الشخصيات المستمدة منه، تحمل اسمه وترفض واقعها.

وعبر حركة السرد تتفاعل أحداث الرواية وتتحرك هذه الكائنات المتشابهة اللا محدودة متوهمة بأنها تعيش في شخصية عالم الفيزياء، الكيان الهارب منها. يتوسم جميعهم ملامح تعيسة؛ يطمعون في خوض حياته واستلام وظيفته والاستيلاء على أسرته التي كوّنها في 15 عاماً بعد أن تنازل عن أحلامه الأكاديمية والمجد والثراء.

تتشابه الشخوص الروائية وكذلك الأرجاء والفنادق والنوادي الليلية، يتجلى بعضها مدمراً بلا حياة. إذُ يريد الكاتب أن يوحي بأن الخراب حين يطال الأنفس يلوّن بقتامته أماكنهم ومآويهم. ولا يوجد لهذا الخراب الذي يخيّم على فصول الرواية من مفارقة استثنائية عدا ريان هولدر -صديقه جيسون القديم- وهو الشخص الوحيد الذي أكمل طموحه العلمي ونال جائزة مرموقة، لكنه لا يظهر في غمار الأحداث سوى في مناسبتين، الأولى قبل اختطاف صديقه والثانية بعد اختفائه بعد أن حاول إقامة علاقة غرامية مع واحدة من شبيهات دانييلا – زوجة جيسون – .

في هذا العالم الشائب بالغموض تتعدد الرموز مثل الصندوق المظلم الموجود داخل مؤسسة فيلوسيتي، وهو ببوابات متعددة كل منها يذهب بمن يفتحها في طريق ويُلقى به في مكان غير مألوف لديه، وربما هو إيحاء من الكاتب لمصائر الشخص المتاحة التي تفرض عليه ليسلكها باختيار واحدة فقط.

في السرد مفاتيح يمكن من خلال متابعتها وتحليلها فك ألغاز مجرى الأحداث، لعل أعمقها أثراً تلك العبارات التي جاءت على لسان -جيسون- بطل الرواية وهو يدخل غرفة الطعام: “تقع نظرتي على النجفة المكعبة رباعية الأبعاد فوق مائدة الطعام. قدمتها إلى دانييلا في عيد زواجنا العاشر. أفضل هدية على الإطلاق!” فهنا يستبين لحظة فارقة، أخال أن كراوتش استرأى نحتها في مخيّلة القارئ بدلالاتها لفك بناء الرواية وهضم مرواغتها وطعمها السيريالي. ويعود مجدداً مقارباً حياة البطل في «فيلوسيتي»، ليشير إلى أن حياة الإنسان قد تكمن في 4 أبعاد: «ندرك محيطنا في ثلاثة أبعاد منها، لكننا لا نعيش بالفعل في عالم ثلاثي الأبعاد. علينا أن نضيف بُعداً رابعاً لنبدأ في وصف طبيعة وجودنا، لا يضيف الضلع الرابع بُعدا مكانياً. إنما يضيف بُعداً زمنياً. وهذا هو تفسير العوالم المتعددة الذي تقدمه ميكانيكا الكم، ويفرض أن كل نسـخ الواقع الممكنة موجودة. وأن كل شيء لديه إمكانية الحدوث، يحدث بالفعل. لكن في كون آخر»..

يتعمد الفنان التشكيلي أحياناً، إحداث صدمة بصرية بمزاوجة اللونيْن الأبيض والأسود، لكني أخال كراوتش رسم هيكلاً لخيال علمي كاتباً تساؤلات واقعية بلون أسود عريض حول خياراتنا في الحياة وقرارتنا وعثراتنا. إنها رواية قد تجعلك تستيقظ ليلاً تفكر في المحيطين بك وبالعادي البسيط الذي قد تجحف قيمة وجوده.