المنشور

ربطة العنق

جاء إلى هذه الدنيا وسيمًا، ولا يدري إن كانت تلك الوسامة خيرًا، أم عبئًا. شعره الأسود المائل إلى البني قليلًا منحه الفرصة ليتفنن في تسريحه بطرق مبتكرة إلى درجة أن زملاءه بدأوا يشعرون بالغيرة منه وينظرون إلى تسريحاته بنوع من الحنق لأنها تستفزهم. بياض بشرته النسبية أضاف ألقًا إلى وسامته مثيرًا انتباه المراهقات خاصةً وبعض النساء اللعوبات. إحساسه بالزهو وهو يسمع كلمات الإطراء منهن أعطته بعض الثقة في النفس، لكنه في نفس الوقت اعتاد أن يتعرض للعديد من المضايقات من بعض الشاذين الذين يراهم يتبعونه دون توقف خاصة في سوق المنامة، حيث دكان والده، هذا التحرش خلق لديه بعض الخوف، دفعه أو ربما أجبره على تفادي ارتداء الشورت الذي يكشف عن فخذين بيضاوين يثيران الحمقى الشاذين.

مرة كان حارث قادمًا من بيت عمته في يوم عيد، مرتديًا أجمل الملابس مع نظارة رايبون رمادية عاكسة، عندما استوقفه أحد الشباب الأشقياء وقال له: “أنت غلطة من أغلاط القدر ..أنت جمالك جمال أنثى، لو لم أكن أعرف أهلك لما تركتك تمضي دون أن أحظى بك”. أسرع حارث الخطى وتمنى أن تنشق الأرض كي يختبئ داخلها هربًا من هذا الوضع المزعج.

كان يحب التصوير، يسير دائمًا وكاميرته من نوع “أجفا” معلقة على كتفه. تلك الكاميرا استخدمها كتذكرة دخول إلى الكثير من أعراس النساء في منطقته، عاشقًا للجمال والنساء منذ بداية سن مراهقته، أغلب البنات كن ينظرن إليه بإعجاب لكنهن يقولن له: ” ليتك كنت أكبر سنًا ، ما زلتَ صغيرًا على الحب!”. وهذا ما سبب له بعض الضيق.

مرة كان واقفًا خارج أحد الأعراس في منطقة قريبة من منطقته، مرتديًا كعادته بدلة أنيقة مع ربطة عنق، على عكس زملائه الآخرين الذين يرتدون ملابس عادية. عدد الشباب الواقفين معه بدا كبيرًا نسبيًا. الفتيات المراهقات من البيت الذي يقام فيه العرس كن يتلصصن من النوافذ، بعضهن يحدقن فيه ويحركن أيديهن لإثارة انتباهه هو بالتحديد مما أثار حنق شاب يكبره سنًا من منطقة أخرى اسمه “علي كو”، عُرف بأنه شرير لا يتورع عن فعل أي شيء، اقترب من حارث، ورائحة الخمر تفوح منه، وفاجأه بلكمتين على وجهه دون أي سبب ولم يهرع أي شخص لمساعدته خوفًا من بطشه. عندما كبر حارث تذكّر هذا الموقف وضحك معلقًا “إنه الصراع الطبقي..ظن ذلك الشاب (الشرير) الفقير شبه المعدم بأنه من أولاد الأغنياء سارقي فرح الكادحين، بسبب أناقته وملابسه -وهو لم يكن كذلك- فانتقم منه بالضرب تعبيرًا عن ذلك القهر الطبقي الضارب بجذوره في داخله، وهو بدا يعاني من نفس القهر في فترة لاحقة بعد أن عرف الحقيقة وامتلك الوعي، لكنه يعبر عنه بوسائل أخرى غير الضرب.

نادته ابنة خالته من النافذة في نفس تلك الليلة وأخبرته أن هناك فتاة معجبة به جدًا اسمها مرايم، مصرّة على التعرف عليه. أخبرته بأنها سوف تأتي لزيارتها في اليوم التالي وطلبت منه أن يكون هناك.

في اليوم التالي وفي الوقت المحدد توجّه إلى بيت خالته حيث وجد مرايم تنتظره، تفاجأ حين شاهدها، بدت أكبر منه سنًا نسبيًا، شكلها عادي ولا تتمتع بالجاذبية سوى نهديها الكبيرين النافرين. طلبت منه أن يكتب لها رسالة، ففعل وسلّمها الرسالة بعد أقل من ساعة مكتوبة بخطه الجميل وأسلوبه الأنيق. وهو يسلّمها الرسالة شعر انها لا تشبهه ولم تلامس قلبه. مجرد إشباع غرور، جنون طاووس فخور بشكله الذي لم يخدمه في سنواته اللاحقة. شعر بالأسف على استعجاله ورعونته وربما غبائه، ونسى أو تناسى الموضوع.

بعد فترة كان هناك عرس آخر في نفس المنطقة، دخل مع ابن خالته مكان العرس، مرتديًا كعادته بدلة وربطة عنق، رأته مرايم من بعيد فأشارت بيديها أن يتبعها إلى سطح البيت لكنه تجاهلها. في تلك اللحظة شعر حارث بالحر فنزع ربطة عنقه وعلّقها على كتفه، فوجئ بمرايم من خلفه وهي تسحب ربطة العنق وتعدو بعيدًا وهي تقول “إن كنت تريدها الحقني إلى السطح…لا أحد هناك لا تقلق ” لم يهتم حارث بالموضوع فبدأت تنادي ابن خالته ليقنعه بالتوجه إلى السطح ولكنه لم يأبه بها. قبل انتهاء العرس بقليل أعادت إليه ربطة العنق وهي معقودة بقوة يصعب فكها ومعها ورقة كتبت فيها: “حبي لك قوي بقوة هذه العقدة، لن تنفك. لن أنساك!”. لم يهتم حارث بكل ما حدث فهي لم تقترب من أسوار قلبه ولو قيد أنملة فهو من النوع الذي له مزاج خاص مع الفتيات ولا تعجبه أي واحدة بسهولة.

في إحدى المرات وهو يمر بسيارته في شارع السينمات في يوم صيفي حار، وجد رجلًا مرميًا على الأرض، أوقف سيارته وتوجّه إليه، كان ذاك الرجل “علي كو”، في حالة سكرٍ شديد، فأخذ حارث زجاجة ماء ورشّها على رأسه حتى استفاق نسبيًا من السكر وأدخله سيارته ليوصله إلى بيته. ذكّره حارث بأنه ضربه يومًا فكان رده: “أنا لا اضرب سوى أولاد الأغنياء فهم يذكرونني بحرماني وبؤسي ..هم السبب ..هم السبب !! أطرق حارث صامتًا وهو لا ينفك يفكر بالقهر الطبقي وما يفعله.

سنوات مرت، وحكاية مرايم اختبات أو انطفأت في أكمام الزمن أو في تجاويفه. مرة سمع أنها تزوجت من رجل خليجي اصطحبها معه إلى بلده، جاءه النبأ المفجع بعد سنوات قليلة بأنها أصيبت بسرطان الثدي ورحلت. شعر بالأسى والحزن والندم على تصرفاته الطائشة معها ولم يسامح نفسه أبدًا.

تذكّر عقدة ربطة العنق في ذلك الزمن البعيد، تلك العقدة التي لم يفهمها أو لم يأخذها مأخذ الجد حينذاك … هل تلك العقدة هي التي اشتبكت مع مسيرة حياته القادمة التي امتلأت بجبال من العقد ولم تتوقف، أم إنها عقدة الذكريات التي تربط أعناقنا بوثاق الماضي !!