المنشور

معاً ضد الإرهاب*

عودنا التاريخ أنه في كل مرة تتفاقم فيها الأزمة العامة للنظام الرأسمالي العالمي تطرح مسألة إعادة اقتسام العالم على جدول أعمال الدول الكبرى. ويقتضي ذلك بروز القوى الفاشية كأدوات فعالة لهذا الاقتسام. وبنتيجة الأزمة الأخيرة التي لا تزال تتوالى ضرباتها منذ عام 2008 أضحت منطقة الشرق الأوسط والخليج والجزيرة العربية المسرح الأساس لمعارك اقتسام العالم. وفي هذه المنطقة أيضا ظهرت ونمت بتسارع قوى الظلام الفاشية الدينية كقوة ضاربة لتفجير نزاعات دموية بين دول المنطقة وفي داخل كل دولة على أساس طائفي.

جميعنا لا يجهل جرائم هذه القوى متمثلة في داعش وأخواتها ومدعومة من قبل القوى الإمبريالية والرجعية وما أحدثه ذلك من دمار في العراق وسوريا وليبيا لتطال موجات الإرهاب الأسود كل مناطق العالم. فقد خدمت قوى التطرف الديني الفاشية ونجحت في تحقيق مخططات زعزعة كيانات عدد من الدول العربية ولا تزال تهدد أخرى غيرها. وفي عزل قضية الشعب الفلسطيني بانشغال الأنظمة العربية عنها وانشغال القيادات الفلسطينية ببعضها. وبقي الشعب الفلسطيني لوحده بواجه ببسالة أعمال العدوان والتوسع الصهيوني.

وليس خافياً أن منطقة الخليج التي حققت دخولا هائلة من عائدات النفط على مدى العقود الماضية، بينما لم تنجح في إحداث تنمية اقتصادية اجتماعية حقيقية وشاملة جعلت من اقتصاداتها غير قادرة على استيعاب أموال النفط التي هدرت على الاستهلاك المفرط وتسرب الكثير منها لتغذية قوى الظلام الرجعية. كما ساعدت نظم التربية والتعليم على خلق بيئة اجتماعية حاضنة لأقكار التزمت والتطرف، ما أسهم في تغذية هذه القوى في داخل بلداننا وخارجها. كما عملت القوى الغربية على تزويد هذه القوى بالسلاح والتدريب وأشكال الدعم المختلفة حتى أصبحت دولة الخلافة الإسلامية تهيمن على مساحة قاربت الثمانين ألف كلم مربع على أراضي العراق وسوريا حتى عام 2015.

لقد أدت جهود روسيا في محاربة الإرهاب فعلا لا قولا إلى فقدان داعش ما يقارب ربع هذه المساحة. وسيؤدي تحرير الموصل إلى مزيد من تقلص أراضي الدولة المزعومة. وبدأ المدد البشري لداعش من أوروبا والمنطقة يتقلص أيضا. كما أن منابع التمويل بدأت تجف. كل ذلك ينبئ بأننا على أبواب مرحلة جديدة.

وفي اليمن بدأت تلوح للمرة الأولى بشكل جدي إمكانيات توقف الحرب المدمرة في اليمن، والتي نطالب بوقفها فورا بعد كل الذي أحدثته من خسائر في الأرواح والممتلكات للشعب اليمني الفقير أصلا، وإنهاك لاقتصاد الخليج وتهديدا إضافيا لأمنه. وإذا ما تحقق وقف هذه الحرب فذلك سيعني أننا على أبواب مرحلة جديدة أيضا.

وبتأثير الأزمة العالمية، بما في ذلك انخفاض أسعار النفط، وإجهاد اقتصاد بلدان الخليج بسبب الحرب تراجعت القدرات المالية والاقتصادية لدول الخليج بشكل كبير. وبدأت هذه الدول تعاني من عجوزات كبيرة في ميزانياتها وتبحث عن مصادر للاقتراض وتصدر سندات الدولة من أجل سد النقص في السيولة المحلية لتمويل المشاريع.  وغدت تنتهج سياسات تقشفية لم يسبق أن شهدتها هذه البلدان ليدفع الفقراء ثمن أزمات تسبب الأثرياء في إحداثها. وتُجبر ضغوط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هذه الدول على انتهاج سياسات اقتصادية اجتماعية ضد طبيعة هذه الدول القائمة على ما يسمي بدول الرفاه الاجتماعي. وهذا أيضا يعني أننا على أبواب مرحلة جديدة.

ماذا تعني هذه المرحلة الجديدة ؟ إن هذا ايضا سؤال مفتوح. فقد تتحجم داعش وقوى التزمت الديني الطائفي إلى حد كبير، لكنها لا تزال لم تُصَب بعد بأذىً جدي في داخل بلداننا الخليجية. ولن تتمكن دول الخليج من الاستمرار في نمط العيش الذي اعتادته، حيث يتم شراء الصمت السياسي مقابل الرفاه الاجتماعي.

ما سيجعل المرحلة القادمة جديدة حقا هو انتهاج نموذج جديد للتنمية يقوم على اساس الإنتاج المادي وتلبية الاحتياجات الاجتماعية، لا على أساس قوى السوق العمياء والمضاربات والفقاعات التي تغذي بوهمها أوهام الأيديولوجيات المتطرفة. آن الأوان لبناء نماذج اقتصادية اجتماعية أكثر فاعلية وأن توظف الأموال حقا في مجالات التنمية الحقيقية بدل الهدر على الاستهلاك والتسلح وتمويل قوى التخلف والظلام.

ما سيجعلها مرحلة جديدة حقا هو إصلاحات اجتماعية وتعليمية حقة تسحب البساط من تحت قوى التطرف والإرهاب وتبسط أرضية صلبة لصيانة الوحدة الوطنية وتربط استقرار الأمن الاجتماعي بالعدالة الاجتماعية.

ما سيجعلها مرحلة جديدة حقا هو انفتاح سياسي حقيقي بدل التضييق على الحريات السياسية والاجتماعية واستمرار الملاحقات السياسية، وإشراك الناس في صنع وإقرار وتنفبذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتقرير مصائر بلدانهم، خصوصا فيما يتعلق بقضايا الحرب والسلام.

تمثل هنا تجربة المصالحة والإنصاف التي جرت في المملكة الغربية والإصلاح السياسي لعام 2011 التي أتت جميعا أكلها في تأكيد الوحدة الوطنية وتعزيز السلم والاستقرار في هذا البلد الشقيق. كم نحن بحاجة في بلدان المنطقة، حكومات ومعارضات، لدراسة تجارب هذا البلد بعمق والاستفادة منها لهزيمة الإرهاب بلا رجعة ولفتح آفاق رحبة للتطور الآمن والمزدهر.

*كلمة ألقيت في المؤتمر العاشر لمنظمة التضامن الأفرو آسيوي – الرباط 18 – 20 أكتوبر 2016