المنشور

كبش فداء

    تروي الحكاية أن سلطاناً طلب من وزيره بناء باخرة ضخمة وفخمة يجوب بها سواحل بلاده، ليتفقد عبرها الأقاليم البعيدة عن مقر حكمه، ويزور بها أصدقاءه من ملوك الدول المجاورة، وتكون باخرته مفخرة للعباد ومعلما من معالم البلاد. وقدم السلطان للوزير خمسائة ألف دينار ذهبي لتغطية تكلفة الباخرة الفاخرة الضخمة. وظل الملك سعيدا وهو يحلم بتلك الباخرة وينتظر إنجازها بفارغ الصبر.

      كلف الوزير نائبه القيام بهذه المهمة السلطانية وقدم له ثلاثمائة ألف دينارا ذهبيا لإنجازها. عبر نائب الوزير عن فخره بهذا التكليف وعن استعداده التام لإرضاء الوزير وخدمة السلطان وتقديم خدمة وطنية للبلاد، وتعهد للوزير أنه سيشكل طاقما مؤهلا لتنفيذ المهمة من أكفأ رجال الدولة وسينتقي العمال بعناية ممن تتوفر فيهم الكفاية والدراية. فاطمأن الوزير لحماس نائبه واندفاعه، وانصرف فرحا وفي جيبه مئتا ألف دينار ذهبي أخذ يخطط كيف ينميها ويشتري بها العقارات والمزارع و….

     استدعى نائب الوزير كبير معاونيه لشؤون الصناعة، وعرض عليه الرغبة السلطانية وقدم له مئتا ألف دينار ذهبي لإتمام هذه المهمة. استدرك كبير معاوني الوزير بأن هذا المبلغ قاصر عن بناء باخرة بتلك المواصفات من حيث جلب خشبها وأثاثها وتسديد أجور العاملين المحترفين الذين يتعين استدعاؤهم من أقاليم بعيدة في البلاد والاستعانة بخبرات من خارجها، وأن المبلغ كفيل ببناء باخرة متوسطة فخمة وقوية تفي بالغرض. غضب نائب الوزير من كبير معاونيه واتهمه بالعجز والوقوف حجر عثرة أمام تحقيق طموح جلالة السلطان في امتلاك شعبه باخرة عظيمة. أجاب كبير المعاونين أنه ليس إلا رجلٌ يسدي النصح بصدق ويقدم المشورة بأمانه، وأنه يضع نصب عينيه مستقبل الباخرة إن تم إنجازها، وسلامة من سيركبها، وأن من يزعم أنه قادر على بناء باخرة بهذه المواصفات وبهذه الإمكانيات ليس إلا واهم أو مدلس وسيبوء عمله بالفشل والغرق.

    زاد حديث كبير المعاونين من استياء نائب الوزير، فلا جدال في تحقيق الرغبة الملكية وتنفيذ توجيهات الوزير، ورأيُ كبير المعاونين يستشف منه عدم الجدية في العمل وابتزاز النائب (والتفلسف) في قضية وطنية!!؛ لذلك استبعده النائب واستدعى معاونه الآخر لشؤون التجارة وكلفه بالمهمة. سُر المعاون كثيرا بهذا التكليف الذي اعتبره شرف يحلم به أي موظف في الدولة. وفسر المعاون اعتراضات كبير المعاونين بأنها حديث رجل تقادمت به الخبرة وتراجعت به الدراية عن المستحدثات في هذا الزمن، فقد ابتكرت العديد من البلدان مواد بناء خفيفة الحجم وأنيقة الشكل ومتينة الصنع وقوية الاحتمال، وأن في البلاد من العمال من يتقن الصنعة ويفي بالغرض، وأن بناء باخرة ليس عملا يستحق كل هذا (التفلسف) والحسابات، بل يحتاج رجلا مثل معاون التجارة قادرٌ على تحويل الأحلام إلى حقيقة بخفة وذكاء.

     أثلجت أقوال معاون التجارة صدر نائب الوزير، واطمأن إلى الخبرة الحديثة والمهارة الجديدة التي يمتلكها المعاون، وتعهد له أن يرقيه إلى مرتبة كبير المعاونين حال إتمامه بناء الباخرة، وانصرف نائب الوزير فرحا وفي جيبه مئة ألف دينار من الذهب، وانشغل بتنميتها في شراء البيوت والمحلات التجارية، وترك معاونه يتولى المهمة الوطنية التي أمر بها جلالة السلطان.

    استدعى المعاون أصدقاءه من أصحاب محلات النجارة وبناء السفن وكلفهم بالمهمة مقابل ربح قدره ثلاثة ألاف دينار ذهبي، واحتفظ لنفسه بعشرين ألف دينار، وأمرهم بالاهتمام بفخامة السفينة، واختيار الخشب اللامع الأنيق، وصناعة الأثاث الفاخر والستائر الحريرية وانتقاء الأقمشة المعشقة بأجمل الزخارف، والزجاج الملون المصقول منه والمنقوش. وأتم الصُناع من أصدقاء المعاون المهمة بنجاح وفخامة وأناقة باهرتين!!

    ذُهل السلطان بالباخرة جمالها وفخامتها ورفعة ذوقها، لم يتخيل أن تُصنع بهذا الألق والأبهة. وركبها في رحلة بحرية تجوب سواحل سلطنته وكان شعبه يستقبله بالتهليل والتلويح والبهجة والفخر بهذا الإنجاز. وتعبيرا من السلطان عن فخره بباخرته، أمر بمكافأة كبيرة لوزيره، وتعبيرا عن حبه لشعبه سمح بجولة (شعبية) أسبوعية على متن الباخرة العظيمة تحمل في كل مرة ألف راكب من مواطنيه المخلصين.

   استعد المواطنون لركوب الباخرة السلطانية التي منَّ عليهم جلالة السلطان بالتعرف عليها ومشاركتهم إياها، وفي الرحلة (لشعبية) الثانية هبت ريح متوسطة أخذت السفينة تتمايل لها، ولم يقلق أحد من الوضع لأن الجو صحو وتلك الرياح تحتملها المراكب الصغيرة فكيف بالباخرة السلطانية العظيمة التي تعد فخر الصناعات الوطنية، ولكن الأمر تغير حين ازداد ميلان السفينة واشتد تأرجحها وكانت الكارثة غير المتوقعة أن تنقلب السفينة على يمينها ثم على وجهها وسط البحر ليغرق جميع من فيها، وتتحول الفرحة بالباخرة إلى مأساة!!

   جُن جنون السلطان واستدعى وزراءه وقضاته ورجال الأمن وكل حاشيته ليُفتوه فيما يرى، وألقى باللائمة على وزيره الذي تنصل من المسؤولية التي كلف بها نائبه، ولم يتأخر النائب في تنصله هو الآخر من المسؤولية، وعبر عن استعداده لإجراء تحقيق مع الفريق الذي تولى مهمة بناء السفينة.

     حقق النائب مع معاونه الذي تولى مسؤولية بناء السفينة وأعرب المعاون أنه أدى ما عليه ولم يقصر وأن ما حدث خلل فني قد تتعرض له أي سفينة. ولكن حجم الكارثة لا تغطيه أي مبررات والنهاية المرعبة للباخرة الفاخرة يجب أن يتحمل مسؤوليتها أحد. فلم يجد النائب بُدا من تحويل معاونه إلى (كبش فداء) ينجو به من هذه الورطة، وأن يحمله وحده مسؤولية موت أكثر من ألف مواطن، فأمر بتحويله إلى القضاء بتهمة الإهمال وتبديد المال العام، وأمر بإغلاق جميع المحلات التي اشتركت في بناء الباخرة وحبس مُلاكها.

   وهكذا أعلن السلطان لشعبه أن الفساد في قضية الباخرة قد تم تتبعه وأن الجاني قد نال جزاءه، وأن نائب الوزير يستحق المكافأة على ما بذله من جهد منقطع النظير في حل القضية بتفان وإخلاص!!