المنشور

طائر الفينيق حين يهاجر

     “بلدكم دي بتكسب دهب” هذه جملة ألقاها عليَّ أحد الأصدقاء المصريين أثناء تواجدي في القاهرة، نقلاً عن أحد الوافدين السوريين الذي افتتح أكثر من مشروع تجاري ناجح في مصر. وقبل الحديث عن النموذج الناجح للإنسان السوري (اللاجئ)، فإن الشعب المصري (المضياف) يستحق تقديرا استثنائيا على سعة القلب القومي الذي لا ينافسه فيه شعب عربي آخر، فالمصريون استقبلوا بكرم اللاجئين الفلسطينيين واستوعبوهم ضمن النسيج المصري، ثم استوعبوا موجات الهجرة للعراقيين بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وفي موجات ما سمي بالربيع العربي استضافوا الليبيين ثم السوريين ثم اليمنيين، دون أن تسمع من أي فئة كانت وفي كل الظروف الصعبة التي تمر بها مصر أي تذمر أو تأفف من زيادة الضغط السكاني، أو  قلق من منافسة هذه الجموع الغفيرة من الوافدين للمصريين في لقمة العيش الصغيرة أصلا.

أما اللاجئون أو المهاجرون السوريون إلى مختلف أصقاع العالم، وخصوصا الأصقاع العربية، فقد ضربوا نموذجا فريدا للإنسان العربي المنتج يستحق تسليط الضوء عليه والتعلم منه. ففي دولة كبيرة مكتظة بالسكان مثل مصر، لم يجلس السوريون في منازلهم المستأجرة ينتظرون الفرج ويعيشون على الشحاتة أو غيرها من المهن المذلة لكسب العيش. نقل (الشغيل) السوري حرفته معه، ففتح الورش البسيطة بما ادخره أو بشراكة مع مواطن مصري، ثم تطورت الورش إلى محلات ومصانع تنتج الملابس والأثاث والأواني المعدنية والأكسسوارات وغيرها. والمناطق المصرية الراقية مثل منطقة 6 اكتوبر صارت مليئة بالمطاعم السورية الفاخرة والمرتبة والنظيفة. حتى النسوة السوريات الفقيرات.. بدأ بعضهن ببيع البقلاوة والبسبوسة والمخللات على الطريقة السورية في الشوارع، ثم تطورن وصرن يعددن الطعام في المنزل ويبعنه للراغبين فيه، ثم أسسّن حسابات انستغرام ووفّرن سيارة للتوصيل، واحترفن إعداد وجبات الطعام الرئيسية والحلويات ووجبات كاملة للحفلات.

  هذا الوضع ليس في مصر وحدها، ففي تونس وبلاد المغرب أخذ السوريون يؤسسون مشروعاتهم الصغيرة القائمة على إعداد الأطعمة والصناعات الخفيفة ولاقت رواجا كبيرا. وعلى قناة مونتي كارلو صباحا استمعت لفقرة تتحدث عن النشاط التجاري المميز للقادمين السوريين إلى (السودان)، وكيف أنهم استقروا وافتتحوا المحلات والورش والمطاعم الصغيرة وأذهلوا السودانيين بمهارتهم ونشاطهم وبشاشتهم. ولا داعي للتأكيد بأن المجاميع السورية التي هاجرت إلى أوروبا هي في أغلبها من النخب الفكرية العاملة في الوظائف الإدارية والفنية المتوسطة والمتقدمة في مجال التعليم والطب والهندسة والمحاسبة. وقد فتحت لهم أوروبا أذرعها، وخصوصا ألمانيا، مستبشرة بمواطني المستقبل الذين سيحسنون من الهرم السكاني ويعيدون ضبط تركيبية المهاجرين بتركيبة نوعية كبيرة من المواطنين الصالحين المنظمين والمنضبطين والمنتجين.

  نموذج الإنسان السوري العصامي والمنتج، علّمت الكثيرين أن على المرء أن يكون صاحب حرفة وتخصص، أياً كان المستوى والحرفة، فليست الشهادات الأكاديمية هي وحدها التي تخدم الإنسان، بل إن الكفاءة الحرفية، تنقذ الإنسان من تقلب الزمان وتردي الأحوال. والإنسان  والسوري تحديدا، أدرك هذه القاعدة على مرّ تاريخه الطويل المليء بالنزاعات والانكسارات والانهيارات، لذلك كان ينهض بعد كل عثرة ويثب بعد كل سقوط مستعينا بقواه، ويعيد بناء دولته مكتفيا بمهاراته، مستلهما الإبداع من روحه الخلاقة.

    في الحروب الحديثة التي تشن على المنطقة العربية، تم استخدام تقنيات حديثة أنتجت أساليب متخلفة في تدمير إنسانية المواطن العربي. فعادت العبودية، وعاد آكلوا أكباد البشر، وعادت الكوليرا والتيفود، وترك الأطفال مدارسهم وانخرطوا في الشغل، وعمت المجاعات، وبيع البشر بالجملة أو بالأعضاء. إنها حروب تريد إنتاج قطعان بشرية من الهمج ومن الكائنات المتوحشة التي ذكرتها أساطير الخلق الأول. لكن المهاجر أو اللاجئ السوري أثبت أنه ادخر عبر هذه القرون إنسانيته ورقيه وروحه الممزوجة بزهر الليمون وعبق الجبال ونسائم البحر، وفاح بها في كل مكان يحل فيه.

   أسطورة طائر الفينيق الذي يحترق ثم يبعث من رماده طائرا أقوى، لم تكن خيالا. كانت تصورا سوريا عن الذات، وبناء مستقبليا لما يجب أن يكون عليه السوري، وكيف يجب أن تبقى سوريا أبدا. يجب أن تنهض سوريا وأن يكون السوري مستعدا دائما ومسلحا بالعمل والكفاءة والإنسانية والروح العالية التّواقة إلى السماء. نموذج الإنسان السوري المنبعث من تحت الرماد تعلم العربي أن يكون إنسانا ورقما في هذه الحياة. وليس عالة على الحياة يتحول إلى منكوب تهب الشعوب والمنظمات لإنقاذه والمتاجرة بصور بؤسه. نموذج السوري الفينيقي تعطينا الأمل بأن الإنسان العربي يمكن أن ينهض من جديد، وأن ينبت كشجرة عملاقة معطاءة في أي أرض تلقيها الريح فيها.

نشرة التقدمي  العدد 126 مايو 2018