المنشور

بين زعامتين..ماكرون وميركل

فرنسا اليوم ليست فرنسا الكاريزمات الرئاسية ذات الحضور المميز في العلاقات الدولية، من وزن شارل ديجول وجورج بومبيدو، وحتى فرانسوا ميتران وجاك شيراك. فرنسا اليوم هي مخاض سنوات من تحولات بنيوية اقتصادية واجتماعية وثقافية، وترتيبة سياسية، ألقت بظلالها على مكانة فرنسا العالمية، وإن بقي الجيل الجديد من نخبتها السياسية يحاول جاهداً المحافظة على الإرث ما بعد الاستعماري الفرنسي، خصوصاً في القارة الإفريقية، والمكانة القيادية الرديفة (لألمانيا) في القارة الأوروبية، وخصوصاً داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
فرنسا اليوم تعاني اقتصادياً معاناة شديدة، فاقتصادها يؤدي بصورة أضعف من أداء منافسه اللدود الاقتصاد الألماني، وإن كان حقق نمواً لافتاً العام الماضي بنسبة 2% (رويترز) مقارنة بنسبة 1.2% في 2016. بيد أن البطالة تفوق 10%، 24% منها بين الشباب (من 15-24 سنة)، إضافة إلى وصول الدين العام إلى 97% من إجمالي الناتج المحلي في العام الماضي. صحيح أن فرنسا نجحت لأول مرة منذ عشر سنوات في عدم تجاوز عجز موازنتها لنسبة ال 3% من إجمالي الناتج المحلي (2.6% بحسب مكتب الإحصاءات الوطنية للحكومة الفرنسية في 26 مارس/آذار 2018)، إلا أننا إذا ما ترجمنا نسبة العجز هذه إلى أرقام، ستبدو مهولة، وهي 67.8 مليار يورو (82.99 مليار دولار)، وذلك بنجاح في خفض العجز لا يكاد يذكر، وهو 1.5 مليار يورو مقارنة بموازنة 2016.
ولذا ينظر كثير من الأوروبيين اليوم إلى الرئيس الفرنسي الشاب، إلى أنه، مدفوع بدهاقنة «المؤسسة» التي جهزته في مطبخها النيوليبرالي تجهيزاً تاماً، وأوصلته إلى سدة الرئاسة، وخصوصاً منهم العراب وكبير منظري الرأسمالية الفرنسية جاكس أتالي الذي يرأس «لجنة تحرير النمو» التي تضم ممثلين عن دويتشه بنك وشركة نستله السويسرية وآخرين – بأنه يلعب دوراً أكبر من حجمه وحجم فرنسا، وإنهم خدعوه حين قالوا له أنت نابليون، فراح يتحرك شرقاً وغرباً ويحاول أن يظهر كرئيس ند للزعماء الكبار في العالم، المستشارة الألمانية والرئيس الروسي بوتين والرئيس الأمريكي ترامب والرئيس الصيني شي جين بينج.
في حين أنه، بمبادراته الأوروبية التي يغلفها باسم «التضامن الأوروبي»، و«وحدة المصير الأوروبي»، إنما هو في حقيقة الأمر يريد أن يحصل على دعم مالي سخي من ألمانيا، ذات الاقتصاد الربحي الوفير في أوروبا. لكن ميركل تدرك مرامي الرئيس الفرنسي وال «استابليشمنت» الفرنسية الداعمة له من وراء الستار، فألمانيا ميركل لن تغير سياستها سواء تجاه الدول التي تشكل (من وجهة النظر الألمانية)، عبئاً على منطقة اليورو، مثل اليونان، أو الدول المعتلة مالياً واقتصادياً مثل إسبانيا أو البرتغال أو حتى إيطاليا، والآن فرنسا التي تتمنى أن تنال حظوة المستشارة الألمانية، وإن جرى ذلك بحلة علاقات عامة قشيبة. وهو سافر إلى الولايات المتحدة في زيارة دولة خلال الفترة من 23-26 أبريل/نيسان وتحدث هناك باسم الأوروبيين وتفاوض باسمهم في طلب إعفاء الاتحاد الأوروبي من رسوم الصلب والألمنيوم التي فرضها ترامب على واردات بلاده منها، فهل كان يملك تفويضاً بذلك؟ ثم إنه وقبل الزيارة بيوم واحد، اندفع لتقديم نفسه و«أوراق اعتماده» للرئيس الأمريكي عبر قناة ترامب المفضلة «فوكس نيوز». ولا أدري إن كان مستشاروه قد ذكّروه بخروج سلفه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي خالي الوفاض رغم الهدية الكبرى التي قدمها للأمريكيين، حين بادر في عام 2009 إلى دفن تركة ديجول، وأعاد بلاده إلى أحضان حلف شمال الأطلسي «الناتو»، من خلال إجراء تصويت في الجمعية الوطنية (البرلمان) على عودة فرنسا إلى القيادة العسكرية لحلف الناتو، بعد أربعة وأربعين عاماً من انسحابها. ومثلما لم تنطلِ على ميركل خدعة «التضامن الأوروبي»، كذلك لم يكن ترامب سخياً مع ماكرون في شأن تخفيف الخناق على الصادرات الأوروبية إلى أمريكا. ويبدو أن النخبة الفرنسية الحاكمة، سواء الرسمية أو الفعلية، منكبة على البحث عن أفضل وأسلم المخارج من مأزق نموذجها التنموي، فتحاول التحايل تارة باستخدام ما تبقى لها من رصيد قوة عسكرية ومن رصيد سياسي حصلت عليه في ظرف دولي خاص عقب الحرب العالمية الثانية دون استحقاق وهو عضوية مجلس الأمن الدولي، وتارة بابتزاز شراء الأسلحة والحصول على الاستثمارات مقابل الدعم السياسي.

صحيفة الخليج الاماراتية

11/05/2018