المنشور

حلم شديد الواقعية‮..!

من العبث الرهان على أي نهوض اقتصادي وتنموي شامل، ويحمل رؤية للمستقبل في ظل وضع تتنافر فيه الرؤى والتوجهات والسياسات وتتعارض فيه المصالح ولا تتكامل فيه الأدوار، ويكون القرار الاقتصادي فيه عرضة لتجاذبات واعتبارات تخلق عوائق وكوابح أمام مسيرة الإصلاح الاقتصادي ولا تتفق مع المصالح والأهداف العليا للوطن.
وعندما بعث صاحب الجلالة الملك قبل أيام بعدة إشارات لا تحتمل اللبس والتأويل في خطابه الموجه لسمو ولي العهد رئيس مجلس التنمية الاقتصادية، فإنه يستنهض بهذه الإشارات عزيمة انقاذ مشروع الإصلاح الاقتصادي الذي هو حتماً جزء أساسي من مشروعه الإصلاحي الشامل، كما إنه بذلك يشرع الأبواب أمام مرحلة نوعية جديدة كانت مطلوبة وباتت ملحة ولازمة ليس فقط بإيجاد مرجعية واحدة للشأن الاقتصادي هي مجلس التنمية الاقتصادية، وإنما أيضاً عبر التشخيص الموضوعي لواقع الحال الاقتصادي، والاعتراف الصريح بعرقلة مسؤولين حكوميين وأجهزة رسمية لجهود الإصلاح الاقتصادي، وهذا في الحقيقة أمر بات واضحاً ومعروفاً ومعترفاً به إلى حد أنه يكاد يكون من بين الأمور التي لا تحتاج إلى شرح ولا تفصيل.
واذا كان سمو ولي العهد رئيس مجلس التنمية الاقتصادية قد وضع اليد على الجرح بإقراره أن هناك تعارضاً بين سلوك بعض المسؤولين وبعض الأجهزة الحكومية مع المشروع الإصلاحي للملك، ومع المصالح العليا والأهداف الوطنية، وهذه حالة غير مسبوقة من الإقرار الرسمي بعدم الانسجام بين تلك الأطراف ومجلس التنمية الاقتصادية، فإن الإشارات التي بعثها جلالة الملك للجميع وللمعنيين بصورة خاصة، والتي أكد من خلالها على مرجعية الشأن الاقتصادي، وأن هذه المرجعية هي وحدها المختصة بوحدة القرار الاقتصادي، وأن على ذوي العلاقة من وزراء ومسؤولين ووزارات وأجهزة الانصياع لتوجيهات وأوامر هذه المرجعية، ولرئيسها سمو ولي العهد والالتزام بقراراته.
هذا المستجد في الساحة الاقتصادية يعني أن مشروع الإصلاح الاقتصادي قد وضع على محك القرار السياسي، ويعني ثانياً أن هناك اتجاهاً وتوجهاً بإضفاء الصدقية على جهود الإصلاح الاقتصادي والسير بهذا المشروع كما يراد له أن يكون دونما تخبط أو تردد ليأخذ مداه المطلوب بإعادة ترتيب كثير من الأمور، ووضع حد لأي اجتهادات متناقضة، ولينقلنا من نظرة تشكيك في جدية أي جهود وخطوات إصلاحية، ومن حالة إحباط إلى آفاق لا نعرفها، ولكن نفترض أن هناك من يعرفها ويخطط لها من الأمس قبل اليوم.
أهمية هذا المستجد تكمن أيضاً في أنه يأتي في وقت نتوقع فيه أن يبادر مجلس التنمية الاقتصادية بطرح رؤيته واستراتيجيته المستقبلية لاقتصاد البحرين، وهي الاستراتيجية التي باتت الحاجة إليها أكثر من ملحة لحاجة اقتصادنا إلى قواعد عمل ديناميكية جديدة، لا يزال البعض غير قادر على استيعاب الحاجة إليها، أو تجاهل ذلك بمبررات غريبة وحجج لا تستقيم مع واقع الحال محلياً وإقليمياً وعالمياً، هدفها في النهاية هو الحفاظ على الأوضاع الحالية بحجة الاستقرار، في الوقت الذي يجب أن يفهم الجميع بأن الاستقرار الحقيقي لا يقوم على الجمود، ولا يعني مقاومة التطور، ولا يبقى الحال على ما هو عليه.
ربما من تلك الزاوية فإن ثمة كلمة يجب أن تقال في هذا التوقيت بالذات بشأن أولويات ومحاور الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية، ونتصور في هذا الخصوص أن يأتي إحداث نقلة نوعية في الجهاز الإداري للدولة في صدارة هذه الأولويات، فجلالة الملك يربط الإصلاح الإداري بالتنمية الاقتصادية، وأتصور أن هذا الإصلاح يجب أن يستهدف ثلاثة أمور أساسية الأول تأكيد حق المواطن في الحصول على خدمات جيدة وفق آليات منضبطة وكرامة مصانة، والثاني اقتلاع الفساد لإعطاء الأمل في غد أفضل وحياة أجود، والثالث انضباط الأداء الحكومي الذي لا يأتي إلا بالمتابعة والمساءلة المستنيرة والمحاسبة الفعالة. والأمر الثاني بالنسبة لأولويات الرؤية والاستراتيجية الاقتصادية هو تحديد خياراتنا الاستراتيجية، لأنه ما من دولة في العالم تستطيع الانتقال من أوضاع اقتصادية متطورة إلا اذا حددت بوضوح خيارها الاستراتيجي، هل نريد أن نكون مركزاً مالياً ومصرفياً أم نريد أن نكون مركزاً للتجارة وإعادة الصادرات أم قاعدة للتصنيع أم مركزاً إقليمياً للخدمات والاتصالات والسياحة؟ ووفق أي من تلك الخيارات الاستراتيجية أو غيرها توضع الخطط ويبرمج التعليم، وترسل البعثات، وتعد برامج التدريب وتنظم كل قواعد الحياة على أساس هذا الخيار تماماً كما فعلت سنغافورة؟ مع ملاحظة أن التعليم يجب أن يكون ضمن هذه الأولويات، فلا نهضة ولا تقدم من دون تعليم جيد برؤية جيدة، وتسعى إلى تعليم يتفق ومتطلبات العصر، وتكثيف المعرفة ويرتقي بالملكات الإبداعية للأفراد والمجتمع.
صحيفة الايام
18 يناير 2008