المنشور

حرية الإبداع

منع توزيع رواية الروائي‮ ‬المبدع عبدالله خليفة‮ “عمر شهيدا‮” ‬من قبل الشؤون الاسلامية‮ ‬ينبغي‮ ‬اعادة النظر فيه لأن العمل الروائي‮ ‬او الأدبي‮ ‬عامة ليس خطابا فكريا او ايديولوجيا تعرض لنقاش سياسي‮ ‬بغية المحاسبة،‮ ‬فكيف لنا ومع احترامنا للمشاعر الدينية وتعدد الاديان ان نقتطع عبارة او عبارات من سياق الرواية العام ومن ثم تتخذ الاحكام،‮ ‬في‮ ‬حين ان كل احتمالات التأويل مفتوحة في‮ ‬العمل الأدبي‮ ‬ولايعني‮ ‬هذا ان تقتضي‮ ‬العبارة مثلما نريد وتفسر في‮ ‬دلالاتها الخارجية من دون رؤية شاملة للرواية او النص الأدبي‮.‬
على العموم ان حرية الابداع في‮ ‬اغلب وسائر الدول العربية والاسلامية مكفولة وان تفاوت مساحتها العملية من دولة واخرى فإنها مسلوبة لاتخرج عن النصوص والاقوال ومصادرتها هنا تأتي‮ ‬لاسباب سياسية او لحسابات دينية ربما تقيد هذه الحرية بشكل مبالغ‮ ‬فيه‮.‬
فكم من اللجان شكلت وصادرت هذه الحرية ليس بدعوى الحفاظ على العادات والتقاليد وانما لاغراض سياسية وعقائدية‮.. ‬وكم من المحاكمات جرمت الابداع والمبدعين والمثقفين التنويريين والعقلانيين من المفكرين إرضاء لمعتقدات تكفيرية لها علاقة بفتاوى اهدار الدم‮!!‬
فحرية الابداع التي‮ ‬تعد من المحرمات في‮ ‬الفكر التكفيري‮ ‬تجسد بوضوح نشاط الجماعات التكفيرية المعادية لحقوق الانسان والديمقراطية،‮ ‬وفي‮ ‬مصر بلد الثقافة شهدت محاكمات حكمت بالارتداد على طه حسين ونصر ابوزيد وحسن حنفي،‮ ‬وتمت محاولة اغتيال المبدع نجيب محفوظ،‮ ‬ولم‮ ‬يتردد الارهاب ايضا من تكفير الروائي‮ ‬السوري‮ ‬حيدر حيدر حينما حكم المتأسلمون عليه عام ‮٠٠٠٢ ‬بالقتل بسبب روايته‮ “وليمة اعشاب بالبحر‮” ‬وعقدت المؤتمرات التكفيرية لتصفية الحسابات مع الابداع باسم الدين ووزعت اتهامات التأثيم والتخوين للمثقفين المصريين المدافعين عن الحريات والديمقراطية‮!!‬
وعند سؤال حيدر حيدر‮: ‬ما هو هدف الذين كفروك؟
قال‮: ‬المخطط كبير فالقضية ليست‮ “وليمة اعشاب البحر‮” ‬وحيدر حيدر ولكنها اكبر من ذلك‮.. ‬هم‮ ‬يستهدفون كل التنويريين وهدفهم استلام الشارع،‮ ‬والسعي‮ ‬لاستلام السلطة اي‮ ‬هي‮ ‬ليست اكثر من شراره تمهد لمخططاتهم وانا لست افضل من الذين نفوا او حوكموا او قتلوا بسبب آرائهم وافكارهم‮.‬
وما حدث في‮ ‬مصر من مصادرة لحرية الابداع واعمال تخريب لمنشآت اقتصادية وسياسية وقتل الابرياء لايختلف عن الجزائر والمغرب العربي‮ ‬الدول التي‮ ‬اصبحت مسرحا للاعمال الارهابية وملاذا للمتطرفين الدينيين الذي‮ ‬قتلوا الصغار قبل الكبار،‮ ‬وقتلوا الفرح والحياة ونالوا من المبدعين وما اشار اليه الروائي‮ ‬الجزائري‮ “‬واسين الاعرج‮” ‬في‮ “‬سيدة المقام‮” ‬وبعدها‮ “‬في‮ ‬ذاكرة الماء‮” ‬لهو الاكثر دقة في‮ ‬فضح حراس النوايا الذين هاجموا المدن الجزائرية بالفؤوس والسكاكين والرصاص في‮ ‬وسط المذابح والمجازر الدموية التي‮ ‬كانت تشهدها الجزائر كان صوت الحرية‮ ‬يتردد من تلك الاعمال الادبية‮: ‬ايها القتلة اخرجوا من قيامتنا،‮ ‬اخرجوا من افراحنا واحزاننا واتركونا نموت ونحيا كما نشاء‮.. ‬ايها القتلة اخرجوا من اصدائنا واشلائنا‮.. ‬اخرجوا من دورتنا الدموية‮.‬
والحال لايختلف عن العراق التي‮ ‬بعد ان مزقها نظام الدكتاتور الذي‮ ‬اصبحت البلاد في‮ ‬عهده اكثر ظلمة وسوادا من شدة القتل الجماعي‮ ‬ها هي‮ ‬الآن تطاردها لعنة الارهاب الطالبانية والايرانية والصراعات الدموية على السلطة‮!!‬
وطالما ان الارهاب لا وطن له فإن الارهاب الفكري‮ ‬وارهاب المبدعين نال في‮ ‬بنغلادش من التقدمية‮ “‬تسليمه نسرين‮” ‬كاتبة رواية‮ “‬العار‮” ‬عندما فضحت التطرف الديني‮ ‬والصراعات الطائفية والاثنية والمورثات الاكثر جمودا مما استحل قتلها وهي‮ ‬مطاردة الآن من جماعات القتل والارهاب‮!!‬
واما في‮ ‬عهد طالبان فكانت افغانستان تعيش العصور الحجرية المعادية ليس للابداع وانما للانسان ومن منا لا‮ ‬يتذكر الحملة المعادية للتراث الانساني‮ ‬حينما هدم تمثالا بوذا العملاقان في‮ “باميان‮”  ‬بإيعاز من محمد عمر رئيس جند طالبان عام ‮١٠٠٢ ‬رغم ان هذا التراث الذي‮ ‬مضى عليه ‮٠٠٥١ ‬سنة‮ ‬يعد ملكا للبشرية جميعا‮. ‬اخيرا‮.. ‬لانريد ان نقول ان قرار منع‮ “‬عمر شهيدا‮” ‬من التوزيع‮ – ‬رغم اجازته من وزارة الاعلام‮ – ‬قرار مفتعل،‮ ‬ولكن ليس معقولا ان تكون مبرراتنا لهذا المنع مرتجلة او سريعة او ربما مدفوعة من قبل اعداء الثقافة في‮ ‬البلاد لان متى ما كان حرية الابداع المسؤولة مقيدة تصبح محبطة‮.

صحيفة الأيام
20 يناير 2008‬