المنشور

المؤقت حين‮ ‬يدوم

في‮ ‬إحدى قصائده نصح الشاعر التركي‮ ‬ناظم حكمت المهاجرين والمغتربين عن بلدانهم بألا‮ ‬يدقوا مسماراً‮ ‬على حيطان‮ ‬غرفهم ليعلقوا عليه ملابسهم،‮ ‬وأن‮ ‬يلقوا بهذه الملابس بعد أن‮ ‬يخلعوها على الكرسي،‮ ‬لأنهم عائدون إلى بلدانهم قريبا‮.‬ لكن الشعر مجاز،‮ ‬ولا أحد‮ ‬يأخذ المجاز على محمل الجد كما نرى،‮ ‬ليس لأننا لا نريد أن نفعل ذلك،‮ ‬ولكن فظاظة الحياة وقسوتها تحملاننا حملاً‮ ‬على التفكير بهذه الطريقة‮.‬ يوم‮ ‬غادر العرب قرطبة لم‮ ‬ينسوا مفاتيح البيوت الجميلة المطلية بالبياض المنبسطة على السهول الأندلسية،‮ ‬فاحتفظوا بتلك المفاتيح في‮ ‬جيوبهم الواسعة كأنهم عائدون إليها بعد وقت لن‮ ‬يطول‮.‬ وحسب تعبير أديب فلسطيني‮ ‬فإن اللاجئين الفلسطينيين في‮ ‬نكبة ‮٨٤٩١ ‬إذ لجأوا إلى البلدان المجاورة كترتيب مؤقت تركوا‮ “‬طبيخهم‮” ‬على النار آملين العودة بعد ساعات‮. ‬الساعات كما نعلم امتدت لتتجاوز حتى الآن نصف قرن من الزمان،‮ ‬وما كان مؤقتاً‮ ‬غداً‮ ‬دائماً،‮ ‬وتجري‮ ‬الترتيبات لجعله أبدياً‮.‬ لكن الإنسان أميل للنظر إلى كل الأمور بصفتها مؤقتة،‮ ‬بصفتها عابرة‮. ‬الإنسان الذي‮ ‬يقتلع من محيطه الآمن،‮ ‬ومن الأشياء التي‮ ‬ألفها والأحبة الذين تعلق بهم الفؤاد،‮ ‬يقنع نفسه،‮ ‬في‮ ‬ما‮ ‬يشبه التمني،‮ ‬بأن ما جرى ليس سوى أمر مؤقت،‮ ‬وأن المحيط الذي‮ ‬انتزع منه سرعان ما سيحتضنه من جديد،‮ ‬ولكن الحياة ليست سخية في‮ ‬تقديم عطايا من هذا النوع‮.‬ في‮ ‬رواية صغيرة اسمها‮ “الحريق‮” ‬للكاتب فالنتين راسبوتين‮ ‬يدور الحديث عن بلدة مشوشة وغير مريحة،‮ ‬لا هي‮ ‬مدينة ولا هي‮ ‬قرية‮. ‬إنها أشبه بموضع حل فيه بدو رحل ليأخذوا قسطاً‮ ‬من الراحة في‮ ‬انتظار تحسن الطقس،‮ ‬فظلوا فيه مكرهين‮ “فلم تنبت لهم جذور‮”.‬ هذه الجملة الأخيرة تلخص ما‮ ‬ينطوي‮ ‬عليه المؤقت،‮ ‬أو الشعور بالأمور بوصفها مؤقتة،‮ ‬من معاناة‮. ‬أنت تتعاطى مع المؤقت بأنه ليس سوى مرحلة قصيرة عليك اجتيازها كيفما اتفق آملا في‮ ‬وضع أحسن،‮ ‬لكن‮ ‬غالباً‮ ‬ما‮ ‬يطول هذا المؤقت ليغطي‮ ‬مساحة تكتشف بعدها أنك كمن‮ “ضيع في‮ ‬الأوهام عمره‮”.‬ الأصح أن نتشرب لحظات السعادة العابرة قطرة قطرة،‮ ‬قبل أن تتلاشى وتزول،‮ ‬لأن الدائم ليس سوى سلسلة من‮ “‬المؤقتات‮”.‬