المنشور

مركزة القرار الاقتصادي مطلوبة .. وكذلك صحته

مع بداية الإصلاحات التي دشنها جلالة الملك بالإصلاحات السياسية أوكل الملف الاقتصادي لسمو ولي العهد الذي جاء ببرنامج طموح للإصلاح الاقتصادي الاجتماعي ثلاثي الأبعاد: 
إصلاح سوق العمل، إصلاح التعليم والإصلاح الاقتصادي. وبخلاف ما كان معهودا فقد دعا سموه إلى رش عمل متعددة حضر معظمها شخصيا وضمت ممثلين عن مختلف مكونات المجتمع البحريني. ناقشت الورش المشروعات التي كانت قد أعدتها شركة ماكنزي، وقد طرح الكثير من الآراء ومقترحات التعديلات، لكن الاتجاه العام للآراء هو دعم التوجهات الإصلاحية. غير أن وقتا طويلا مضى دون أن تتجسد الإصلاحات واقعا. أما الأثر الحقيقي الذي أحدثه الزمن فهو بعض التراجعات أمام الضغوط القوية والمستمرة من جانب قوى اجتماعية متنفذة، خصوصا فيما يتعلق بإصلاحات سوق العمل. وكان من الطبيعي أن تسير الحكومة في الاتجاه الضاغط ذاته، إذ إن عناصرها الأساسية هي من ممثلي تلك القوى بالذات.
وفي الأسبوع الماضي رفع سموه رسالة إلى جلالة الملك حول المعوقات التي تقف حائلا دون قدرة مجلس التنمية الاقتصادية على تنفيذ برنامجه. واشتكى من تداخل الصلاحيات بين الحكومة والمجلس وعدم تعاون بعض المسؤولين الحكوميين. وقد رد جلالة الملك على الرسالة بضرورة مركزة القرار الاقتصادي وانصياع الحكومة لقرارات مجلس التنمية.
حسنا، إنها خطوة ضرورية في الاتجاه الصحيح. فمن غير الممكن تسيير الاقتصاد مع وجود مركزين للقرار، ما يعني غياب إمكانية التخطيط. وفي حين نشهد انتقال مختلف المؤسسات الاقتصادية في المملكة إلى مستويات راقية من الإدارة والتنظيم والتخطيط، فلا يعقل ألا يقابل ذلك ذات المستوى على صعيد الدولة. تجارب بلدان كثيرة بينت أن مثل هذا التناقض غالبا ما ولد الفوضى في الاقتصاد الوطني، والتي قد تقود إلى الانهيار في أحيان. على أن مركزة القرار خطوة ضرورية، لكنها ليست كافية. فالمطلوب أيضا هو صحة هذا القرار والتي ستشكل التحدي الكبير الآخر أمام مجلس التنمية الاقتصادية. ولا شك أن هناك من القادة السياسيين من لهم دور مهم في صحة القرار الاقتصادي. لكن الأهم هو وجود خطة شاملة للتنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية تقوم على أساس تعبئة الموارد البشرية والمادية والمالية الداخلية، واجتذاب الاستثمارات الخارجية بما يخدم هذه الخطة. ولكي تلبي الخطة حاجات المجتمع في التطور اللاحق فلا بد أن تكون نابعة منه وتحظى بدعمه. أي أنها يجب أن تأخذ بالجدية اللازمة آراء كل مكونات المجتمع ووزارات وهيئات الدولة. وبعد أن يصوغها مجلس التنمية وتقرها السلطة التشريعية تصبح ملزمة لكل الجهات بحكم القانون.
الكاتب الاقتصادي والصحافي خليل يوسف في مقالته الجمعة الماضية ‘حلم شديد الواقعية’ شدد محقا على أهمية الخيار الاستراتيجي للتنمية. هل تكون المملكة مركزا ماليا ومصرفيا، أم مركزا للتجارة وإعادة التصدير، أم قاعدة للتصنيع أم مركزا إقليميا للخدمات والاتصالات والسياحة؟ [1] والحقيقة أن وضوح الخيار مهما، لكنه لا يجب أن يكون مجرد خيار إرادي. ففي الوضع الاقتصادي العالمي المحفوف بمخاطر أزمة الأزمات كما يسميها بعض العلماء، وفي ظل شبكة العلاقات الاقتصادية الدولية المتعددة المستويات يجب أن يرتبط هذا الخيار باختيار مكان المملكة الأكثر أمنا في التقسيم الدولي للعمل. ومنذ بداية الحالي بدأت من نيويورك تبث الأخبار غير السارة بالنسبة للاقتصاد العالمي. فبالرغم من انصباب الأموال الضخمة تجد المصارف العالمية ‘الثمانية الكبار’ نفسها على حافة الانهيار. وأن الموجة الثانية من الأزمة الراهنة لن تعود ممثلة بأزمة العقار فحسب، بل في الأزمة المتمثلة في انعدام قيمة الأوراق المالية ذاتها. والأزمة مرشحة لأن تضرب في بدايتها مؤسسات عملاقة كسالومون بروذ وميريل لينش[2]. سارت بلادنا حثيثا فيما يسمى بخيار التنمية العقارية السياحية. ويفهم من تقرير مجموعة ‘اوكسفورد بيزنس’ البريطانية الذي صدر مؤخرا بأن ذلك أدى إلى ارتفاع أسعار الأراضي بمقدار 6 – 10 أمثالها بين عامي 2004 و,2007 ما يهدد بمزيد من حدة أزمة الإسكان خلال 10 ? 20 سنة القادمة، خصوصا مع ارتفاع معدلات الزيادة السكانية إلى جانب أن نصف السكان تقل أعمارهم عن 15 سنة. ويكتسب توسع النشاط العقاري خطورته الأكبر؛ لأنه ليس ناتجا عن حاجات نمو فعلي في الاقتصاد الداخلي، بل نتيجة ضخ هائل للسيولة في هذا القطاع من المحيط الخليجي[3].
ذلك سينعكس سلبا على خيارات التنمية الحقيقية الأخرى. فواضح أن الأزمة السكنية بدأت ترفع بشدة معدلات الطلب على القروض العقارية التي سترتفع حصتها إلى جانب القروض الاستهلاكية لتشكل حصة الأسد من إجمالي القروض المصرفية. أي أن المصارف ستنصرف إلى حد كبير عن تمويل القطاعات الإنتاجية، بينما قد يؤدي تضخم حجم الإقراض الطويل الأمد (حتى 30 سنة) عن طريق الرهن العقاري وحدوث حالات العجز عن السداد مستقبلا إلى تكرار أزمة الرهن العقاري الأميركية الحالية في البحرين. ومن جهة أخرى فلن تكون الأراضي بمستويات أسعارها الحالية والمستقبلية صالحة إلا لكي تقوم عليها مشاريع تجارية أو مصرفية أو لأسواق المال، حيث دورات رأس المال الأسرع والربحية الأكثر، وليس المشروعات الإنتاجية. لكن هذه الأخيرة مرشحة بقوة، كما ذكر أعلاه، لأن تشكل الموجة الثانية من الأزمة العالمية الأشد. وهكذا نرى أن الخيارات ‘الاستراتيجية’ أصبحت تفرض نفسها قسرا نتيجة عوامل خارجية عفوية أو ناتجة عن شروط اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة أكثر منها خيارا واعيا لتحديد مكان ودور مملكة البحرين في التقسيم الدولي للعمل.
من جديد هناك حاجة ماسة لاتفاق مجتمعي على مستقبل التنمية الاقتصادية الاجتماعية بما يعطي للإصلاحات مضمونا أكثر عمقا وأعظم مردودا على المجتمع.

[1] راجع: صحيفة ‘الأيام’، 18 يناير/كانون الثاني .2008
[2] راجع: صحيفة ‘الوقت’، 12 نوفمبر/تشرين الثاني .2007
[3] راجع صحيفة ‘زايترا’ الروسية، 16 يناير/كانون الثاني.
عبر الرابط: www.zavtra.ru

صحيفة الوقت
 21/1/2008