المنشور

الهــم الـوطنـي

عندما نتفحص المشهد العام خلال الأيام الماضية فإننا سنحصد شعوراً بالحزن والأسى، ٣ محطات تحديداً، نتوقف عندها وأرجو أن لا نلام إذا اجتهدنا واعتقدنا بأنه سيكون من سوء الحظ، أو لسوء التفكير، وقصر النظر إذا لم نستخلص من غير مبالغة بأن ثمة قاسما مشتركا يجمع فيما بينها.
المحطة الأولى عن رحيل نموذج فريد من رجالات البحرين.
والمحطة الثانية فهي عن مؤتمر الحوار الوطني المقبل. كيف يأخذ مداه ويستقيم مبناه، ويرتفع معناه.
أما المحطة الثالثة فهي عن التجليات الأخيرة لفريق من النواب ذات طابع كاريكاتوري، أخطر ما فيها أنها باعثة على حالة من الاحتقان والتأزيم  وإثارة النعرات الطائفية.
بالنسبة للمحطة الأولى، فإننا من خلالها نتحدث عن علي بن يوسف فخرو، فهو شخصية متميزة لا مراء، ولأن كلمات الإنصاف أخذت تترامى في حقه منذ وفاته قبل أيام وحتى الآن، فإنه قد يكفيني من أمر هذا الرجل الفذ أن أشير إلى بعض الملامح التي لمستها عن قرب حينما كان رئيساً للغرفة التجارية على مدى سنوات.
الرجل لم يكن من المحترفين بالمتاجرة بأوجاع الوطن، ولذا كان يتمتع بقدرة عالية على الصراحة والجرأة مع كبار المسئولين وصناع القرار، لم يتوان عن مصارحتهم بما كان يؤمن به، ووصلت هذه الصراحة في بعض الأحيان إلى ما اعتبره البعض بأنه مس خطوطاً حمراء، ورغم ذلك كان هؤلاء يكنون له الاحترام والتقدير، سمعته يقول ذات مرة: أنا من النوع الذي لا يخاف.. العمر واحد والرب واحد، كان من المهمومين بالوطن.
في حديث لي معه ذات مرة عن أوضاع البلاد، أذكره في دلالة لها معنى أنه قال: العاقل، المتنور، الفاهم لا يمكن أن يضحك عليه لا باسم السياسة ولا باسم الدين ولا باسم الطائفية، كان لا يصادر اعتراض معترض، ولا يضيق بمجادل، ولا يخشى رأي مخالف.
هو رجل لم يصبح تاجرًا كبيرًا، بل شيخ تجار البحرين كما يصفه كثيرون، لأنه لم يحصل على العطايا والهدايا والمناصب، ولم يصبح وجيهاً من كبار الوجهاء من الفراغ، أو لأن هناك من أراد أن يفرضه علينا وجيهاً كما هو حال كثيرين ممن يعدون أنفسهم وجهاء، بل لأنه كان يدرك ويعي ويكرر بأن الوجاهة نعمة من الله، والوجاهة مسؤولية إذا لم تسخّر هذه الوجاهة لخدمة الناس والمجتمع فلا قيمة لها، ولا قيمة لمن يحملها.
بهذا المعنى، وبهذه القناعة لم يتوان الرجل في أن يمد يده لمساعدة كل محتاج، سعى إلى خدمتهم، يزور مجالس عزائهم وأفراحهم، حتى مع تقدم عمره ومعه تلك العصا التي يتكئ عليها، كان يزور القرى والمدن، كان يشعر براحة عندما يزور مواطناً بسيطاً يقدم له واجب العزاء أو التهنئة في فرح، وكان يتعامل بأبوية مع الجميع، كان يتمنى لو يرى “بنكين أو ثلاثة من بنوكنا الوطنية” تندمج لتنتج كياناً ومصرفاً “جامبو” لأن رؤيته في أن ذلك مصلحة وطنية قبل أن تكون مصلحة كبار المساهمين.
كان ينتقد توجهات العولمة، ويحذر من تبعاتها، فاجأ الجميع وهو يلقي كلمة في إحدى المناسبات بأن خرج عن سياق النص المكتوب الذي يشير إلى تحديات العولمة، وقال: “يقولون لنا إن هناك مخاطر للعولمة، بل هي الملعنة وعليكم أن تأخذوا حذركم من هذه الملعنة”.
فوجئ بعد ختام كلمته بان قام عدد من الحضور اهتموا بإشارته العارضة تلك ليشاركوه الوصف، ويقدموا له التهنئة على هذه التسمية الجديدة الواضحة الدلالة للعولمة.
عندما تبنى فكرة احتفال الغرفة بمرور 50 عاماً على تأسيسها في ديسمبر 1989 والتي كانت من المناسبات المتميزة للغرفة، ودعم هذه الفكرة واجتمعنا معه عدة مرات ناقش معنا كل صغيرة وكبيرة.
كان حريصاً بأن يرتقي بقيمة الفكرة والهدف.. حيث كانت دوافعه من هذا الاحتفال فقط، أن يسلط الضوء على واقع حال الغرفة، وأنه في رحاب هذه الذكرى كان لا يريد فقط الاعتراف بجهود من كانت لهم بصمات في سجل هذه المؤسسة كمؤسسة وطنية إنمائية، وإنما أيضاً يرى في الاحتفال صورة تعبير وفاء وتكريم عرفاناً بالفضل لأهل الفضل من الرواد والأوائل الذين قامت الغرفة بجهودهم وإخلاصهم وأفكارهم، وكذلك الذين تابعوا مسيرتها وأغنوها بجهدهم وتعاونهم.
كان صاحب مواقف واضحة وجريئة وداعماً للثوابت، وداعياً إلى الشفافية في أمور الدولة. كان رافضاً إقحام الوطن في دهاليز سياسة المصالح، وكان يذهب خلاف ما هو في قناعة البعض في هذه المسائل، كان يرفض الطائفية ويمقتها، ويرى بأن الوحدة الوطنية صمام أمان للبلاد والعباد، قال ذات مرة وهو يسترجع بذاكرته إلى الوراء: “زمان ما كان عندنا هالشيء”.
فعلاً كان نموذجاً فريدًا تستحق مسيرته أن توثق.
أما المحطة الثانية فهي عن الحوار الوطني الذي تستعد الجمعيات السياسية لإقامته في 15 مارس المقبل. أهم ما ينبغي الانتباه إليه بشأن مؤتمر الحوار الوطني المقبل إلا يكون محصورًا داخل النخبة من قيادات الجمعيات والمؤسسات الأهلية.
ولكي ينجح هذا الحوار ويأخذ مداه الحقيقي فإنه يتعين علينا أن نتلافى الأفخاخ التي يريد أن يزرعها البعض في طريقنا ليس فقط بالتسليم بالقدر الحاصل في واقعنا، وإنما أيضاً بملامسة بؤر التفجير وزرع بذور الفتنة والانقسام وتأجيج النفس الطائفي والمذهبي.
نتلافى هذه الافخاخ، ونخلص الحوار من أي سلبيات قد تشوبه، وفي سبيل أن يحظى الحوار بالأهمية التي يستحقها بما يحصن البلاد بنسيج الوحدة الوطنية على قاعدة الحوار والتفاعل وإعطاء الأولوية للإنسان أولاً وقبل كل شيء؛ فإنه من الواجب والمصلحة والحصافة أن نتنبه إلى وجوب غلبة النوايا الحسنة وحسن الظن، وبجدوى الحوار الوطني والإيمان بدوافعه وأهدافه لكي يستطيع أن يؤدي غرضه ويصل إلى غاياته، وضرورة الابتعاد عن الآفاق الحوارية التي لطالما انتابت كثيرا من الحوارات في سائر البلاد العربية، وما زالت تعيق تطور الحوار الحقيقي وتعطل مضامينه وتعرقل تحقيق أهدافه، ولعل من ضمنها تلك الخطب الرنانة والآراء التي تتسم بالقولبة الجامدة، والأفكار والآراء التصادمية الممجوجة والمستهلكة، المسموعة والمرئية والمقروءة في كل الوسائل.  إن هدفنا من الحوار يجب أن ينصب إلى جعل كل بوادر الفرقة والانقسام مستحيلة.
أما المحطة الثالثة فنوجزها في تساؤل، إلى أين يأخذنا بعض النواب الذين دأبوا على إثارة كل ما يبث سموم الفرقة والنعرات الطائفية والمذهبية. ليس مستساغاً من أي نائب الحديث عن الشعارات والعناوين البراقة عن الوطن ومصلحة الوطن والوحدة الوطنية، بينما هم يضربون بمواقفهم وأطروحاتهم الوحدة الوطنية في الصميم، ينتجون الفرقة ويكرسون الانقسام عن علم أو غير علم، عن قصد أو غير قصد.. فرحمة بنا وبالوطن يا جماعة.

صحيفة الأيام
1 فبراير 2008