المنشور

شيخوخة نظرية الدولة الريعية

على الرغم من التحولات النوعية الكبرى التي شهدها العالم في المائة سنة الأخيرة على الأصعدة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والاجتماعية والثقافية، وبرغم التطور الكبير الذي حققه علم الاقتصاد السياسي على أيدي علماء من مختلف المدارس والاتجاهات ومن مختلف بلدان العالم، لازال بعض رموز حرسنا القديم في بعض مدارس علم الاقتصاد السياسي يجترون ما كانوا استنسخوه من نظريات ومقولات ومفاهيم اقتصادية هي نتاج عصارة جهد عقلي وفكري لأعلام اقتصادية غربية فذة لم يكن ممكناً تحقيق كل هذه المنجزات الاقتصادية والاجتماعية العظيمة في عالمنا اليوم لولا إسهاماتها الكبيرة والمتميزة في إطلاق وتطوير مدارس الاقتصاد التنموي بمختلف توجهاتها. ولكأن هؤلاء العلماء الاقتصاديين عندما صاغوا وقدموا نظرياتهم ومفاهيمهم الاقتصادية، كانوا يفكرون في تأبيدها، أي جعلها صالحة لكل زمان ومكان، وليس إخضاعها بين مرحلة وأخرى للتقييم وإعادة التقييم في ظل الظروف والمستجدات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة التي تحيط بكل ما حولها وتؤثر فيه قطعا بهذا الاتجاه أو ذاك. فما النظرية الاقتصادية في نهاية المطاف سوى محاولة لتفسير العلاقة المنتظمة داخل كينونة الظاهرة الواحدة موضوع البحث والتقصي، فإن تغيرت عناصرها أو طرأ تغير ما على مدى انتظام وثبات علاقة هذه العناصر بعضها ببعض، فلابد وأن تتغير النظرية أو المفاهيم التي ثبتت على أساسها.
وهكذا فإننا لو عدنا إلى مفهوم الريع، كما هو مُكْتَشَف نظري بالـغ الأهمية (ومتداول فيما بعد)، لوجدنا أنه قد ارتبط بالأرض وما تدره على مُلاَّكها من عوائد مالية لم يُبذل في اكتسابها وحيازتها أي جهد أو نشاط إنتاجي تنجم عنه قيمة استعمالية أو قيمة تبادلية، ناهيك عن أنه هو نفسه ليس له قيمة كقوة عمل مبذولة يمكن قياسها كمياً.
ولذلك فإن ظهور مفهوم الريع لابد وأن يرتبط بالتركيبة الاقتصادية الاجتماعية لنظام القنانة (الإقطاعي)، والنظام الرأسمالي الذي نهض على أنقاضه، وبمعنى آخر بالأرض واستثمارها من قبل الملاك الزارعين المستغلين لعمل الأقنان في أسلوب الإنتاج الإقطاعي، ومن قِبَل هؤلاء والمستأجرين الرأسماليين للأرض في النظام الرأسمالي.
وإنه وبسبب محدودية الأراضي الخصبة والأخرى القابلة للزراعة، فإن ذلك يوفر لملاك الأراضي الخصبة خصوصاً والأراضي الزراعية بشكل عام، فرصة احتكارية للحصول على ريع تفاضلي يفوق ذلك الذي يحصل عليه ملاك الأراضي الأسوأ من حيث الخصوبة.
ولا شك أن هذه القراءة المتعمقة لعلاقات الإنتاج في مجتمعات الاقتصاد الطبيعي ولاحقاً مجتمعات الاقتصاد القائم على الربح الرأسمالي، والتوصيف الدقيق لها، قد عُدَّ حينها كشفاً تقدمياً، وإضافة متميزة لنظريات ومفاهيم الاقتصاد السياسي العالمي.
 من دون أن ننسى لفت الانتباه في هذا المضمار إلى ما كانت تذهب إليه بهذا الصدد المدرسة الفيزيوقراطية في الاقتصاد السياسي فيما يتعلق بالاقتصاد الطبيعي وتحديداً الاقتصاد الزراعي، حيث غاير الفيزيوقراطيون، ومنهم رائدا هذه المدرسة الشهيرة في الاقتصاد السياسي في القرن الثامن عشر ‘ف . كيني’ و ‘تورغو’ النظرية المركانتيلية التي ظهرت في القرن الخامس عشر أي في المرحلة الأولى من صعود الرأسمالية عندما كان الرأسمال الصناعي لا يزال مندغماً في الرأسمال التجاري، وطبقتها الدول الأوروبية في القرن الثامن عشر. وبموجبها فان النقود (وليس الإنتاج الزراعي كما يذهب إلى ذلك الفيزيوقراطيون) هي ثروة الأمة، الأمر الذي يتوجب عدم إخراجها من البلاد وإنما العمل على زيادة إدخالها إليها. حاصل القول أن عدداً من المفكرين الاقتصاديين وبعض أقرانهم المجتهدين في بلدان العالم الثالث، قاموا في مراحل تالية، بإسقاط هذه المقولة (الريع) على عديد الأنشطة الاقتصادية التي تشترك في طبيعتها مع ظروف وطبيعة العمل في الرقعة الزراعية وعلاقات العمل والإنتاج التي تحكم أطرافها وهم ملاك الأراضي الزراعية، ومستأجريها بغرض الاستثمار، والفلاحين الأُجراء.
ويعتبر نشاط إنتاج النفط حالة مثالية لتَجَسُّد تلك المقولة، وبالتالي سهولة إسقاطها عليه. حيث ذهب التنظير الاقتصادي الآسيوي إلى أن عملية استخراج وإنتاج النفط في الدول البترولية هي نشاط لا يعدو أن يكون ريعياً، وأن اقتصاد صناعة النفط هو بالضرورة اقتصاد ريعي، اعتباراً بغياب الجهد الإنتاجي الواضح والملموس لملاك الحقول النفطيــة (وهم هنا حكومات الدول النفطية)، حيث تجود الأرض عليهم بما هو مخزون في باطنها من ذهب أسود لا يد لهم في تصنيعه.
ولكن ذلك كان في الماضي عندما كانت الصناعة النفطية في بلدان الاكتشافات النفطية الجديدة (العالم ثالثية)، ومنها بلدان الخليج والمنطقة العربية عموماً، مختزلة في نشاط الاستخراج (Extracting) فقط. فلقد تغير المشهد النفطي كثيراً وتغيرت بصورة أكبر موازين القوى بين الشركات النفطية العالمية وبين الحكومات المستقبلة لرأس المال النفطي وشركاتها النفطية الوطنية التي نشأت وسلمت زمام أمور الصناعة النفطية في بلدانها. فلم تعد الصناعة النفطية في هذه البلدان مقصورة على الاستخراج وإنما تطورت بصورة كلية مع إنشاء المصافي النفطية التي ‘تصاهرت’ وتكاملت فيما بعد مع الصناعة البتروكيماوية فكانت النتيجة إشادة مجمعات بتروكيماوية ضخمة تنتج اليوم العديد من اللدائن والخامات البلاستيكية واللقائم البتروكيماوية المختلفة التي فتحت الباب أمام قيام صناعات تحويلية (تفرعية) أفقية ذات قيمة مضافة عالية. وحتى أنشطة الاستكشاف والتنقيب البترولي لم تعد كما كانت عليه من بدائية تكنولوجية، وإنما هي تغيرت بصورة كلية، نظراً للتطور التكنولوجي الهائل الذي أصابها وأدى إلى إطالة أعمار الآبار وتعظيم وترشيد الإنتاج وجعل التنقيب البحري في المياه العميقة أمراً ممكناً ومجدياً في نفس الوقت.. الخ. فضلاً عن بروز الشركات النفطية الوطنية التي أُنشئت مطالع السبعينيات، وتحولت مع الوقت إلى لاعب أساسي في ميدان الاستكشاف والتنقيب والتكرير، ليس على المستوى الوطني وحسب، وإنما على المستوى الدولي بارتيادها أسواق نفطية خارجية في ميادين الاستكشاف والتنقيب والإنتاج وحتى التوزيع.
ولذلك فإنه لم يعد مسوغاً من الناحية العلمية الاقتصادية ومن الناحية العملية الواقعية، الاستمرار في ترديد مفاهيم اقتصادية تجاوزتها الحقائق الاقتصادية على الأرض.
 
صحيفة الوطن

5 فبراير 2008