المنشور

نشرة «الشرارة»: الحديد يلين .. مدان لا يلين

أحياناً كثيرة يكون المناضلون الكبار رجال مأساة، لأنهم رجال قضايا كبيرة يعيشون حرارة أوضاعها لحظة بلحظة ويضحون من أجلها. هذه الفرضية، وفق تجارب محلية وعالمية، تخالف الاعتقاد الذي يُصوّر لنا بعض المناضلين وكأنهم يعيشون خارج الزمن، بعيدين عن الزحام والضوضاء والصخب، أو يُصوّرونهم بمثابة ‘’برستيج’’ وجاهة؛ ينعمون بالهدوء والسكينة بحثاً عن الطرق السهلة للشهرة والزعامة، أو التهرب من المشكلات.. نعم هذه الفرضية مرفوضة في ذلك الزمان على أقل تقدير، حيث في داخل هؤلاء المناضلين آنذاك، تتجمع جرأة وشجاعة، وأيضاً سلوك وأخلاق ومواقف يَقْدمون عليها ويتحمّلون نتائجها بإيمان عميق، ولذلك فإن المناضلين الحقيقيين دائماً ما يكونون قلة بالنسبة للعامة، يخرجون في لحظة سياق تاريخي ينشد التغيير نحو الأفضل، نحو الأحسن، ونحو ما يريده الناس في غالبيتهم العظمى، وتكون أفكارهم مشروع رؤية.
وعلى عبد الله مدان (1932- 1995) واحد من هؤلاء؛ فالذين يعرفونه عن قرب، دائما ما يصفونه بالرجل البحريني الطيب رقيق الاحساس، المتواضع، يحب شرب الشاي في المقاهي ويعتبره ‘’خمرة الثوار’’ كما يفضل أكل ‘’الجاجيك’’ ـ روب وثوم وخيار، ويُعرَّف أيضاً بأنه ‘’عامل بناء بسيط’’، ولكنه صادق الفراسة، عميق في تحليلاته، قارئ نهم، مؤثر، غير متكلف في حديثه، وفق من التقت بهم ‘’الوقت’’ من معارفه ورفاقه، ومن تقاسموا معه لقمة العيش، وكسرة الخبز، ومرارة الحياة.
وحين البحث، أو القراءة عن المغامرات الأولى لعقلية هذا الرجل، السياسية والأيديولوجية والسلوكية ونشاطاته في الخمسينات، وما قبلها وبعدها، وفكرة تنقلاته من منفى إلى منفى في قطر والإمارات وسوريا إلى أن غادر الدنيا في بلجيكا، إضافة إلى تكوينه الفكري، وأساليبه الكفاحية، النضالية المختلفة بجوانبها الحياتية والإنسانية، يصادفك ‘’الواقع والميتا ــ واقع’’، لكن هذه المغامرات العقلية، تبدو كانت ناضجة، مقدرة إلى حد ما، فائقة على الملاحظة الذكية والربط إلى حد ما أيضاً، وذلك باستخلاص النتائج المنطقية والحقائق والوقائع والمشاهدة، غير أن الذين يكتبون عن مدان، أو يجتهدون في البحث عن سجل تاريخه وبدء نشأته، سواء كانوا من جسد اليسار أو من خارجه، تجدهم يصطدمون بأقواس منكسرة كثيرة في النصوص، سنرمز إليها بـ [ ] وذلك دلالة على وجود نقص في المعلومة، تماماً كما في تشوهات اللوح الفخاري التالف المخطوط عليه أسطورة تم اكتشافها حديثاً، فأحياناً تجد تشوها غير تام في السطر، وأحياناً تجد تشوهاً تاما، خصوصا إذا احتوى القوس المنكسر على نقاط عدة [.] ، وهذا يعنى أن التشويه تام في النص، وهنا تقتضي الأمانة على الباحث جلد الذات، أو أن يضع كلامه بين قوس عادي ( ) على اعتبار ذلك إضافة من الكاتب أو الباحث، لملء الفراغات الحاصلة في القوس المنكسر.
توفي علي مدان (أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني البحرانية الرئيسيين، وأحد مؤسسي الحركة العمالية والنقابية بالبلاد) في 27/1/1995 بمستشفى فيلوفورد في بلجيكا ودفن في 2/2/ 1995 في مدينة (Zaueutew) البلجيكية، وليس في ديلمون، التي تحضن أكبر مقبرة بالعالم، لكنها استكثرت عليه قبراً واحداً لجثة كتبت عنه نشرة ‘’الشرارة’’ في أحد أعدادها في الستينات عنواناً مثيراً: ‘’الحديد يلين .. ومدان لا يلين!!’’ ؟(2)
كان رفاق علي يلقبونه منذ الصغر بأحد أفراد عائلة والدته ‘’مدان’’، وليس بلقب أحد أفراد عائلة والده ‘’نجيناه’’، والجيم تلفظ بالمصرية ((Naginah وهم (معارفه) ربما ليس بالضرورة أن يتلقفوا هذه المعلومة أثناء حياته معهم، حيث جرت العادة عندنا في البحرين وفي سائر أنحاء العالم تسمية الابن على اسم أبيه وعائلة جد أبيه لا على جد والدته، لكن لهذه التسمية حكاية كشفتها إحدى مراسلاته مع رفيق له في قيادة

جبهة التحرير، اطلعت ‘’الوقت’’ عليها أخيراً، حيث إن الرسالة كتبت بعد أقل من عشرة أشهر من وفاته في بلجيكا.
يقول علي في رسالته ‘’ ….. والدي، كما قلت، كان يعمل ويعيش في البحرين، وكان عمره في ذلك الوقت لا يتجاوز أربعين عاماً. وتوفي هناك بنوبة قلبية. أنا في ذلك الوقت، بحسب ما روت لي والدتي، كان عمري لا يتجاوز ستة أشهر فقط، وعندما بلغت الرابعة أو الخامسة من عمري (تم تأسيس قسم التسجيل المدني في البحرين) حيث أخذتنا والدتي (أنا وأختي وأخي حسن) وسجلت اسمها وأسماءنا الأربعة في دفتر قسم التسجيل المدني بهذا اللقب (مدان)، وفي الواقع هذا اللقب اسم وشهرة والدتي..
ويضيف، في القسم الخاص (في البحرين) أنا مسجل على لقب والدي ‘’نجيناه’’ وليس على لقب والدتي (مدان).. وشهرتي الجديدة قد ساعدتني كثيراً في فترات صعبة مررت بها’’.
وفي جزئية أخرى من رسالته، يتحدث مدان بغصة حول ‘’اسمه الجديد’’، فيكتب: أحببتُ ولو باختصار أن أوضح لك .. بصراحة الآن أنا لست بحرانياً، أو إيرانياً، لأنني لا أملك ورقة ثبوتية، لا من البحرين ولا من إيران’’، مضيفاً عندما كنت أعيش في (الشام) واجهتنا ظروف مالية وشظف العيش، وكل منا سئم من بعضه البعض، وأنا كنت شخصياً أعتبر الحلقة الأضعف في الحلقات الأخرى. لم يبق أمامي سوى خيار واحد. كما تعلم راجعت (موظفين) هناك وطرقت مشكلتي لهم؛ وقلت لهم إنني بحراني أواجه مشكلة عويصة، وأرجو مساعدتي .. قالوا بـ ‘’الحرف الواحد’’، إذا كنت بحريني فطلبك مرفوض. راجعتهم مرة أخرى وقلت لهم صحيح أنني بحريني، ولكن أنحدر من أصول إيرانية. هذه المرة ‘’استمعوا إلى كلامي، ولكنهم في النهاية رفضوا طلبي’’.
وفي الرسالة ذاتها المؤرخة في 8 مارس/آذار 1994 يسخر علي مدان على طريقة ‘’الكوميديا السوداء’’ من فكرة طرحها عليه من أسماه (أبو الأفكار) لحل معضلته وهي: مراجعة (قسم رعايا الشؤون الإيرانية في دمشق) ويشير مدان في ذلك بقوله: ‘’قلت له (أبو الأفكار) لنفترض أنني راجعتهم، فماذا أقول لهم؟ فرد علي بحرف واحد: قل لهم ما تريد قوله..
ويضيف مدان: أنا اعتبرت مراجعة قسم الرعايا الإيرانيين في دمشق عيبا ولم أستطع أن أقبل بفكرته.؟ .3
عن هذه الفترات الصعبة التي يتحدث عنها على مدان في رسالته، يقول الناشط السياسي محمد علي حسين فروتن، الذي عاصر الكثيرين من اليساريين الأوائل في الخمسينات، مثل الشهيد حسن نظام، والمسيحي الأرمني أرميك منصوريان وعلي مدان وشقيقه حسن، وأحمد الذوادي، وعلي دويغر ويوسف العجاجي، ومحمد كشتي وخسرو مدارا وسلمان علي وغيرهم: بعد اعتقاله في العام (1957 أو 1958) ومكوثه في سجن ‘’جدا’’ لمدة خمس سنوات، تم نفيه إلى إيران في محاولة تسليمه إلى السافاك على متن باخرة خشبية، حيث كانت المخابرات بانتظاره، وقد نودي على اسمه: أين علي Naginah)) وليس علي مدان المتعارف عليه، وعندها صمت علي لأنه ‘’مدان’’ بحسب المتعارف عليه في البحرين، وليس ‘’نجيناه’’ كما يعرفه القسم الخاص، واستطاع بذلك الهرب من السافاك، حيث مكث في إيران في قرية ‘’جناح’’ بضعة (أسابيع أو شهور) وتم تهريبه إلى قطر في العام (1962 أو 1963) وعاش في ‘’الدوحة الجديدة’’ حتى العام 1974 …. والتواريخ كلها تقريبية [ ].


وللحديث صلة.

؟1ـ (فرانسيس بيزاني ـ ‘’الثورة الساندينية في نيكاراغوا ـ مذكرات شاهد عيان’’)
؟ 2 ـ نشرة ‘’الشرارة’’ لسان حال جبهة التحرير الوطني 1965
؟ 3- رسالة خاصة من علي إلى (ع. خ)


 

 
صحيفة الوقت
27 يناير 2008