المنشور

حكايات من تاريخنا (54).. “الأهالي” و”التقدمي”

منذ أوائل القرن العشرين الآفل كانت الصحافة الحزبية العربية تلعب دوراً مهماً في التوعية السياسية الجماهيرية وشحذ همم الجماهير وتعبئتها وتنظيم صفوفها للنضال من أجل التحرر الوطني، ومن أجل الحرية والديمقراطية والتغيير الاجتماعي نحو الأفضل. وتصدرت هذه المهمة بوجه خاص الأحزاب والحركات اليسارية والقومية، والتي كان جلها وعلى امتداد عقود طويلة تعمل تحت الأرض حتى بعد استقلال أكثر بلدانها من ربقة الاستعمار الغربي، وظل العديد منها يعمل بهذه الصفة الى يومنا اللهم استثناءات عربية محدودة من ضمنها الأحزاب والحركات البحرينية التي تحولت الى جمعيات سياسية في إطار مشروع جلالة الملك الإصلاحي. وفي تقديري أنه الى حد الآن لم يقيض لهذا الدور التاريخي الفائق الأهمية الذي لعبته الصحافة الحزبية السرية في نهوض حركة التحرر الوطني والاجتماعي العربية ان يُدوّن وينصف تاريخياً، بما في ذلك دورها التوعوي والتحريضي في مقاومة الاستعمار والظلم والاستغلال الاجتماعي والفساد ومن أجل التصدي للمخططات الطائفية والجهل والتخلف. وربما الاستثناء من ذلك قلة من مؤرخي وباحثي تلك الأحزاب اليسارية التي أخذت على عاتقها الاضطلاع بهذه المهمة كالمؤلفات التي عكف على تدوينها رفعت السعيد والتي تناولت تاريخ صحافة الحركات اليسارية المصرية، ومؤلفات متفرقة عكف على كتابتها مؤلفون آخرون في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان تناولت تاريخ صحافة الحركات اليسارية في كل منها إما اختصاصا وإما في سياق تناول تاريخ تلك الحركات. ولعل مما ساعد هذه الثلة من الباحثين على تدوين ذلك الدور الذي لعبته الصحافة الحزبية اليسارية في بلدانهم عراقة تلك الأحزاب وما تملكه من مخزون أرشيفي ضخم متناثر مكن مؤرخيها وباحثيها من المحافظة على الكثير منه وعدم وقوعه في أيدي رجال الشرطة عند عمليات المداهمات التي تطاول نشطاءها السياسيين. وفي هذا العام يحتفل حزبان يساريان عربيان بمرور فترة زمنية على صدور صحيفة كل منهما العلنية في ظل المشروعية التي يتمتعان بها: الأول هو حزب التجمع التقدمي الوحدوي بمصر حيث يحتفل بمرور 30 عاماً على إصدار جريدته العلنية العريقة “الأهالي”. والحزب الثاني هو “جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي” وهي امتداد لتيار حزب “جبهة التحرير الوطني البحرانية” حيث تحتفل هذه الجمعية بمرور خمس سنوات على إصدار نشرتها “التقدمي”. ومع ان الجريدة الأولى المصرية “الأهالي” ظلت منذ صدورها قبل 30 سنة أسبوعية، وعجزت عن ان تتحول كما كانت تطمح الى صحيفة حزبية يومية إلا أنه من الواضح أنها كانت ذات امكانيات أكبر من “التقدمي” وتستقطب كفاءات ورموزا سياسية كبيرة. هذا رغم ما تعرضت له من صعوبات ومعوقات جمة سياسيا وماليا. يكفي انها تعرضت للمصادرة في سني صدورها الأولى بأواخر السبعينيات خلال عهد الرئيس الراحل أنور السادات عدة مرات، لكن ورغم هذه الطاقات والإمكانيات الهائلة التي تملكها “الأهالي” في استقطاب كفاءات صحفية وأقلام مفكرين ورموز سياسية كبيرة، ولاسيما لما هو معروف عن تركيبة الحزب الذي ينضوي في عضويته أعضاء يمثلون تيارات سياسية وطنية تقدمية مختلفة، بل ليبرالية، فإن هذه الصحيفة، كما يبدو، عجزت عن تحقيق الحد الأدنى من الانتشار والتوزيع في صفوف أوسع عامة المثقفين وعوام الناس البسطاء من مختلف الفئات في الأحياء الشعبية من القاهرة والجامعات ومراكز ومؤسسات الشبيبة وفي سائر مدن وقرى المحافظات، وهو ما انعكس بدوره على قوة ونفوذ الحزب في هذه الأماكن والمؤسسات. على عكس ربما الانتشار الذي عرفت به النشرات والصحافة السرية اليسارية ولاسيما في الأربعينيات إبان الاحتلال الإنجليزي رغم ما كانت تواجهه حينذاك من مخاطر جسيمة في ظروف العمل السري. وهذه بلا شك مفارقة مقارنة بمحدودية انتشار صحافة هذا الحزب اليساري المصري في ظروف العمل العلني الراهنة. ولعل هذه المفارقة ذاتها تنسحب على “التقدمي” البحرينية الشهرية العلنية التي تصدرها جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي، فليس سرا محدودية توزيع وانتشار هذه النشرة العلنية، مقارنة بما كان يعرف تاريخيا عن توزيع وانتشار صحافة ومنشورات الحزب الواسع النطاق، في مدن وقرى البحرين على امتداد نحو نصف قرن منذ تأسيس “جبهة التحرير” في 1955 خلال ظروف العمل السري. وإذا كان يمكن فهم هذا الانحسار الذي تواجهه الصحافة اليسارية العربية كانعكاس طبيعي للأزمة والظروف التي باتت تعيش في ظلها لعوامل عديدة موضوعية وذاتية أحسبها معروفة وليس هنا مكان تناولها، فإن المستغرب ان يستمر معظمها بالتمسك بمواريث ونزعات فرض الرأي الحزبي وعدم الانفتاح على الرأي الآخر ليس من خارج الحزب فحسب بل حتى على الرأي الآخر من داخل الحزب أو من داخل التيار العريض الذي ينتمي إليه الحزب ذاته، هذا على الرغم من رفع أغلب هذه الأحزاب شعارات التعددية والحوار وحق النقد والنقد الذاتي وإفساح المجال للرأي الآخر مهما كان مخالفاً لرأي الحزب أو صحيفته، وفي هذا الصدد لعلي أعرف وقائع محددة للدلالة على ذلك في الممارسة السياسية لكلتا الصحيفتين اليساريتين “الأهالي” من جهة و”التقدمي” بوجه خاص من جهة أخرى وذلك بحكم انتظام إرسال الأخيرة لي من قبل جمعية “المنبر التقدمي” مشكورة. وكان بودي بالطبع ان اجتهد لأبدي رأيي التقويمي في صحافة ونشرات الجمعيات السياسية البحرينية الأخرى لولا أن “التقدمي” و”الإصلاح” هما الوحيدتان اللتان تصلان إليّ من بين كل صحافة ونشرات الجمعيات السياسية الأخرى. مهما يكن فإن صحافة الأحزاب اليسارية العربية في ظل ظروف العمل العلني المشروع اذا ما أرادت استعادة شيء من قوتها المفقودة فإنه يتحتم عليها بذل جهود مستميتة أكبر لتوزيع صحافتها ونشراتها في صفوف أوسع القواعد الجماهيرية الشعبية لا في صفوف أعضائها وأصدقائها النخبويين فقط، وهذا لن يتأتى إلا بإيلاء اهتمام أكبر بتطوير هذه الصحافة ذاتها وإيجاد عناصر من ضباط الاتصال الشبابية الفاعلة والمتفرغة القادرة على خلق شبكات واسعة من التوزيع في مختلف الأحياء والبيئات والمناطق والمؤسسات التي يعبر فكر الحزب وبرنامجه عن مصالح أبنائها وفئاتها.

صحيفة أخبار الخليج 
28 فبراير 2008