المنشور

ما قبل الدولة

لو قارنا الحال اليوم بما كان عليه الأمر قبل عقدين من الزمن لكدنا نقول‮: ‬إن مفهوم المجتمع المدني‮ ‬مفهوم جديد على الثقافة السياسية العربية، ‬وإن النظرة إلى هذا المفهوم قبل ذاك كانت هامشية وربما انطوت على شيء من الازدراء وحتى الاستخفاف أيضاً‮. ‬لكن الحال انقلبت الآن وأصبح الكل‮ ‬يشتهي‮ ‬وصلاً‮ ‬مع هذا المفهوم، ‬وصار الحديث‮ ‬يدور عنه بمناسبة أو من دون مناسبة‮. غير أن هذا التداول الواسع للمصطلح أو المفهوم لا‮ ‬يعني‮ ‬أنه‮ ‬يؤخذ في‮ ‬سياقه التاريخي، ‬وأظن أنه‮ ‬يستخدم في‮ ‬حالات كثيرة في‮ ‬وصف مظاهر من النشاط أو التجمعات التي‮ ‬يصعب إدراجها في‮ ‬إطار مفهوم المجتمع المدني،‮ ‬فبات كل ما هو‮ ‬غير الدولة أو المؤسسات الحكومية‮ ‬يصنف من دون كبير عناء على أنه مجتمع مدني‮من دون النظر في‮ ‬طبيعة الوظائف التي‮ ‬تؤديها تلك التجمعات أو الرسالة التي‮ ‬تنطوي‮ ‬عليها بعض الأنشطة التي‮ ‬تدرج في‮ ‬سياق نشاط مؤسسات المجتمع المدني‮.‬ ابتدأ مفهوم المجتمع المدني‮ ‬في‮ ‬الشيوع أكثر في‮ ‬المغرب العربي‮ ‬بسبب ما أثاره مشروع الانتقال إلى التعددية الحزبية من نقاش‮.‬مع بداية التسعينات أصبح المجتمع المدني‮ ‬موضوع تفكير معمماً‮ ‬على الصعيد العربي‮. ‬فصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية مجلد ضخم ‬بعنوان‮ “‬المجتمع المدني‮ ‬في‮ ‬الوطن العربي‮ ‬ودوره في‮ ‬تحقيق الديمقراطية‮” ‬عبارة عن توثيق لندوة أقامها المركز حول هذا الموضوع‮. ‬وعن مركز البحوث العربية في‮ ‬القاهرة صدر في‮ ‬الفترة نفسها كتاب بوقائع ندوة وقضايا المجتمع المدني‮ ‬في‮ ‬ضوء أطروحات‮ ‬غرامشي‮.‬ يعيب الكثير من الأطروحات التي‮ ‬تتناول مفهوم المجتمع المدني‮ ‬سعيها لإقامة التضاد بينه وبين الدولة‮. ‬وبالتالي‮ ‬فإنه في‮ ‬الأغلب الأعم‮ ‬يقدمها بصفتها خصما لا شريكاً‮. هذا الطرح محمل بالخطورة،‮ ‬ليس لأن دولتنا العربية بريئة من حالة الخصومة التي‮ ‬كثيراً‮ ‬ما تختارها لنفسها في‮ ‬مواجهة المجتمع المدني،‮ ‬ناظرة إليه على الدوام نظرة الريبة والشك،‮ ‬وإنما لأن هذه المقابلة بين‮ “‬ما هو دولة‮ (‬وبين‮) ‬ما هو‮ ‬غير دولة”‬،‮ ‬يمكن أن‮ ‬يقود إلى مزالق في‮ ‬وضعنا اليوم الذي‮ ‬باتت فيه الدولة ككيان حديث مستهدفة من الطوائف والعشائر والقبائل،‮ ‬التي‮ ‬نظرنا إليها دائماً‮ ‬على أنها سابقة للدولة ومعيقة لبنائها‮.‬
 
صحيفة الايام
28 فبراير 2008