المنشور

دور الفضائيات في تأجيج الأزمة اللبنانية

تلعب وسائل الإعلام الجماهيرية المحلية دوراً في منتهى الأهمية والخطورة في تأجيج أو تخفيف حدة النزاعات الداخلية ببلدان العالم الثالث على اختلاف أبعادها ومسبباتها السياسية والاثنية والقومية والقبلية والدينية والاجتماعية. وباتت تزداد هذه الأهمية والخطورة مع التطور الهائل لوسائل الاتصال وعلى الأخص الفضائيات والموبايل والانترنيت. ولعل الأزمة اللبنانية وما مرت وتمر به من تفاقمات خير نموذج حي على ذلك، ويمكن تأكيده أيضاً عبر المقارنة بين مرحلتين صراعيتين: مرحلة الحرب الأهلية (1975 ــ 1990)، ومرحلة الأزمة الراهنة التي أخذت في التفاقم منذ نحو أربع سنواتها ووصلت ذروتها في الصدام الخطير الأخير الذي جرى بين قوى المعارضة والموالاة، وعلى الأخص داخل العاصمة بيروت. 
 في خلال الأزمة الأولى (الحرب الأهلية 1975 ــ 1990م) كانت الصحيفة اليومية هي أهم وسيلة إعلام جماهيرية تمتلكها قوى الفريقين المتقاتلين الأول من اليمين وعلى رأسه الكتائب وحزب الأحرار، والثاني من اليسار المكون من ائتلاف القوى الوطنية اللبنانية وفصائل المقاومة الفلسطينية. لكن هذه الصحيفة اليومية لأي حزب أو فريق لا تدخل كل بيت لبناني أو لا تدخل كل منطقة، وخصوصاً في ظل الحصارات المتبادلة المضروبة على مناطق ومعاقل كلا الطرفين خلال معارك الكر والفر. علاوة على ذلك فإن الصحيفة اليومية، حتى بافتراض تمكنها من اختراق الحصارات، فإنها ليست تحت متناول أيدي كل أفراد الأسرة فغالباً ما يقتصر الحال على رب العائلة أو زوجته.
أما الأبناء فهم إما منشغلون في متاريس المجابهات اليومية، وإما يلجأون إلى وسائل ترفيهية خاصة بهم للهروب من الواقع الذي وجدوا أنفسهم فيه، وبخاصة إذا ما كانوا من صنف الشباب الذين سئموا حدة الصراع وطوله. وكان أقصى ما وصلت قوى الفريقين المتقاتلين من وسيلة إعلامية أكثر جماهيرية هي الإذاعة المحلية، لكن هذه الإذاعات المحلية لا تحظى في الغالب بالجماهيرية والانتشار التي تحظى بهما الفضائيات اليوم، وهي على أي حال إذاعات غير مستقرة في عملية البث وذات تجهيزات بدائية، ولا تمتلك احتياطات تقنية متطورة لمواجهة الحالات الطارئة عند تعطل البث أو تعرض مقارها إلى القصف.
وغالباً ما ينقسم اللبنانيون حولها فكل فريق لا يهتم ولا يثق إلا بسماع الإذاعة التي تطرب لها آذانه. أما في الوضع الحالي من الأزمة فلم يقتصر الأمر على الصحافة والمجلات اليومية والأسبوعية التي تمتلكها قوى كلا الفريقين الموالاة والمعارضة ولا على ما يملكه بعضها من إذاعات محلية بل دخلت في هذا الوضع أداة إعلامية جديدة في منتهى الخطورة والأهمية باتجاه إما تأجيج نيران الصراع، وإما بالعكس، أي باتجاه تخفيف حدته أو على الأقل الوقوف على الحياد لا باتجاه التأجيج ولا باتجاه التخفيف وهذه الوسيلة الإعلامية تتمثل في امتلاك القوى الرئيسية لكلا الطرفين الفضائيات الإعلامية الخاصة بها والتي لا مثيل لها في أي بلد عربي آخر اللهم إلا العراق في الوضع الحالي تحت الاحتلال الأمريكي.
إن خطورة هذه الفضائيات ذات التوجهات الحزبية والطائفية انها تدخل كل بيت لبناني ويشاهدها كل أفراد البيت جميعاً على اختلاف أعمارهم باستثناء الأطفال الصغار الذين لم يعوا بعد على الحياة، وهي قادرة على اختراق أعتى الحصارات بكل المناطق، وهي إلى ذلك تمتلك كل التجهيزات الكاملة من برامج وكوادر إعلامية وأفلام وثائقية وغير وثائقية ونشرات أخبار مؤدلجة لتوظيفها في الحروب النفسية التي عادة ما تلعب دوراً مهماً في إشعال الحروب العسكرية وفي تأجيجها لا تقل خطورة عما يدور على ساحات المعارك من تطورات لا بل تكون مغذية لنيران هذه المعارك.
وغداة بروز هذه الفضائيات المحلية في أوائل وأواسط التسعينيات وهي الفترة التي شهدت هدوءاً نسبياً في الصراعات السياسية المحلية وذلك في ظل وفاق هش، وبالنظر كذلك لانشغال لبنان بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب واضطلاع حزب الله بالدور الأساسي لمقاومة هذا الاحتلال، وما حظي به هذا الحزب من حد أدنى من الاجماع الوطني.. في هذه الفترة تم التوافق على حظر بث الفضائيات أي برامج سياسية باستثناء قناة حزب الله “المنار” باعتبارها قناة كما قيل مسخرة إعلاميا لخدمة المقاومة الوطنية.
ولكن سرعان ما خرقت كل هذه القنوات الفضائية هذا القرار الذي ينظم الإعلام المرئي والمسموع اللبناني وانخرطت جميعها في أتون الصراعات المحلية والحملات الإعلامية المتبادلة تبعاً لتطور وتصاعد هذه الصراعات. ووقفت الدولة هنا بالطبع، حيث هي طرف في الصراع، عاجزة عن وقف هذا الخرق لقراراتها السابقة المتعلقة بتنظيم وضبط وسائل الإعلام المرئي والمسموع. ولعل أخطر ما في هذه الحروب النفسية المتبادلة عبر الفضائيات حينما تأخذ منحى وابعاداً طائفية مقيتة لتسهم في تمزيق النسيج الوطني أو الوحدة الوطنية داخل أي بلد.. يُبتلى بها شر تمزيق. وهنا يفترض في الدولة، إذا ما كانت محايدة حقاً وفوق النزاعات والصراعات الأهلية أن تلعب دوراً مهماً في ضبط حقوق البث الفضائي وتنظيمه، أو منع المحطات الفضائية كلياً من بث البرامج السياسية بكل أشكالها في حال تعذر ضبط حقوق البث وعملية تنظيم ورقابة برامجه بصورة نزيهة ومحايدة.
وهذا ما لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع للأسف في لبنان، إذ إن الدولة في كل الصراعات التي مرت بها لبنان منذ استقلاله كانت في الغالب إما طرفاً بشكل أو بآخر في هذه الصراعات وإما مقسمة حول الصراع لأسباب معروفة، لعل أبرزها الأعراف والمحاصصة الطائفية التي تتشكل بموجبها المناصب الأساسية في الدولة وهي ذات الأعراف تقريباً التي تتحكم في تشكيل الحكومات وتوزيع الوزارات فيها. الآن حيث تلوح في الأفق بوادر ايجابية أولية لتسوية الأزمة بعد النتائج المشرفة التي توصلت لجنة المساعي الحميدة الوزارية العربية وانطلاق مفاوضات الحوار بين الطرفين في الدوحة لوضع أسس التسوية والوفاق الوطني الجديد، فإنه بات من الضرورة الملحة بمكان معالجة دور الفضائيات اللبنانية الخاصة بقوى الفرقاء في تأجيج الصراع فيما بينهم والتوصل لصيغة توافقية لتحييد أو تجميد بث البرامج والدعاية السياسية في هذه القنوات من دون استثناء.
 
صحيفة اخبار الخليج
19 مايو 2008