المنشور

فتى الانتفاضة الأولى بين صورتين

لربما لم تحظ صورة سياسية معبرة عن جرائم الاحتلال خلال احداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي تفجرت خلال خريف عام 2000م بمثل ما حظيت به صورة والد محمد الدرة مع ابنه وهما يحتميان بأحد الجدران من قذائف قوات الاحتلال الصهيوني المنهمرة تجاههما والتي انتهت كما نعلم باستشهاد الابن الصغير في ذلك الموقف الفاجع المثير الذي هز العالم بأسره حينذاك. واذا كانت هذه الصورة هي أهم الصور المؤثرة في تعبيرها عن جرائم الاحتلال الفاشية اللاانسانية خلال الانتفاضة الثانية فإن ثمة صوراً عديدة تعبر ايضاً عن صمود وبطولات الشعب الفلسطيني الاعزل في وجه قوات الاحتلال المدججة بالاسلحة الثقيلة والطائرات القاذفة، ولعل من اشهر هذه الصور صورة السيدة الفلسطينية التي تحتضن جذع شجرة زيتون متشبثة بها بكلتا يديها لحماية حقل الزيتون من الاقتلاع والتجريف على اثر قدوم دورية اسرائيلية للتخطيط لمثل هذه العملية الاجرامية.
اما خلال الانتفاضة الأولى فلعلنا نتذكر جميعاً تلك الصورة الشهيرة المعبرة عن همجية سلطات الاحتلال بقيام مجموعة من قواتها بالانفراد بأحد ابطال الانتفاضة الشباب فوق رابية من مكان اجرد خارج المدينة بتكسير اذرعه بحجارة صخرية. اما الصورة المعبرة الاشهر عن صمود وبطولات انتفاضة الشعب الفلسطيني وما لعبه ابناؤه الاطفال من دور محوري في مكافحة قوات الاحتلال بسلاحهم البسيط “الحجارة” فهي صورة طفل فلسطيني لا يتعدى الثالثة عشرة وهو يهم بقذف احدى دوريات القوات التي تحتل اراضي وطنه بالحجارة.
ومع ان ثمة صوراً عديدة عبرت عن بطولات وشجاعة الشعب الفلسطيني فلربما لم تحظ شهرة كما حظيت بها هذه الصورة وذلك لما تنطوي عليه ملامح للفتى وهو يقذف الحجر من ايماءات معبرة في تقاسيم محياه عن شجاعته في وجه الموت والممزوجة بالحنق والغضب الشديد والمرارة من وجود الاحتلال الجاثم على الأرض والعباد. وأتذكر جيداً أن احدى المجلات العربية الشهرية التي تصدر في قبرص وذات المستوى المتوسط، نشرت على غلاف احد اعدادها صورة لهذا الفتى الفلسطيني كصورة ارشيفية تستعين بها للتعبير عن شقاوة الاطفال باعتباره الموضوع الرئيسي للمجلة! وكنت ان علقت بالاستنكار على هذا التوظيف الاخراجي الساذج الفاقد لأي احاسيس وطنية وقومية وانسانية.
الآن وقد دار الزمن دورة طويلة كاملة سريعة على امتداد عقدين منذ تلك الانتفاضة الاولى فإذا بالصحافة ووكالات الانباء تنبئنا بأن طفل الانتفاضة الذي اراد الاعلام الصهيوني والغربي تصويره كنموذج من نماذج “الارهاب” الفلسطيني وسقط بعض الصحافة العربية بتصويره نموذجا من نماذج مشكلة العنف “الشقاوة” لدى الاطفال العرب.. طفل الانتفاضة الشهير هذا قد شب عن الطوق وأصبح اليوم شاباً يافعاً في الثلاثينيات من عمره ليقدم للعالم صورة اخرى من صور نضالات هذا الشعب الحضارية التي لطالما عمد الاعلام الاسرائيلي والغربي المعادي الى تشويهها.. هذه الصورة هي لذات الطفل الشاب وهو يحمل “الكمنجة” كعازف محترف مبدع، حظي بهذه الصفة بشهرة عالمية تضاهي شهرة صورته كمقاوم لوحشية قوات الاحتلال بسلاح الحجارة البسيط. العمل الفني الذي قام بالعزف خلاله المناضل الوطني الفلسطيني رمزي ابورضوان، وهو ذاته فتى الانتفاضة الذي ظل اسمه مجهولاً في تلك الصورة، يحكي بالعزف الموسيقي قصص التشريد واللجوء الفلسطيني الى الشتات خلال نكبة 1948م بالاشتراك مع عدد من الفنانين الفلسطينيين والعرب والعالميين، وقد اقيم هذا العرض الموسيقي مؤخراً في رام الله عشية مرور 60 عاماً على هذه الذكرى المشئومة، علماً بأن هذا العمل الفني هو من تأليف الكاتبة الاسرائيلية الوطنية التقدمية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية عميرة هس.
وفتى الانتفاضة الأولى المبدع الموسيقي الشاب رمزي ابورضوان هو الآخر تمثل سيرته العائلية واحدة من تلك الحكايات باعتبار اسرته هي واحدة من العائلات التي جرى تشريدها من اراضي 1948م. وقد اضطلع ابورضوان في مهمته النضالية الجديدة بتثقيف وتوعية اطفال مخيمات اللاجئين بأهمية وتأثير الموسيقى في نضالات الشعوب وتواصلها وتفاعلها مع العالم مستعيناً في ذلك بالاستشهاد بتجربته الموسيقية المثمرة حيث كان وراء فكرة تأسيس مركز “الكمنجاتي” الموسيقي. وكان للكاتبة عميرة هس دور في تعرف المخرج الايطالي جويدو باربيري على هذا المبدع الفلسطيني من خلال مقال صحفي لها نشر عام 2005م، وقدم دعمه لقدوم الفرقة الى ايطاليا حيث قدمت عرضاً مسرحياً ممتعاً هناك نال اعجابا منقطع النظير، واستقطب مشاركة عدد من الفنانين والفرق الموسيقية في ذات العمل مثل الفلسطيني صالح بكري والاردنية نادرة عمران والايطالي موني اوفاديا ببببب والنرويجية فينكي اريثون والمخرج اوسكار بيزو وغيرهم.
ان قصة فتى الانتفاضة الاولى هي نموذج من نماذج عديدة لقصة نضال شعب بمختلف الوسائل من اجل تحرير وطنه من الاحتلال وبضمنها الوسائل الفنية التي تجسد عشقه للحياة الجميلة كشعب مسالم متحضر مثل اي شعب في العالم.
 
صحيفة اخبار الخليج
28 مايو 2008