المنشور

أصابع الإخطبوط الخفية


اشرنا في مقالات سابقة إلى أن من يتراخون عن خطورة تيار الإخوان المسلمين في البلاد، وعلاقتهم “برفاقهم” في الخارج،  كونهم يرتبطون بشبكة عنكبوتية لا يمكن تجاهل خطورتها، هم واهمون تماما، فهذا التيار، يمتلك خبرات متعددة ومواهب متنوعة قادرة على تغيير الأقنعة وارتداء ملابس المسرح المطلوبة والدور المناط لهم، ويحاولون دائما وأبدا أن يزاحموا كل جهة وكل قوى بما فيهم التيارات الإسلامية المختلفة معهم، ولكنهم مستعدون لخلق جبهات واسعة قادرة على تملك ناصية الشارع السياسي، بحيث بإمكانهم تمرير مشاريعهم الإستراتيجية، التي لا يراها الفرد العادي، فهي لا تبدو إلا وجوها لأشخاص دعاة يدعون العباد إلى التمسك بالدين والتقوى، في وقت اخفوا حقيقة جوهرية هي تحويل ذلك الدين من مستوى العبادة ونشر الأخلاق والتمسك بالمثل، إلى أهداف سلطوية، فهدفهم ليس التغلغل في جسد المجتمع والناس وحسب، بل البلوغ إلى مآرب أخرى كسدة الحكم وتحويل المجتمع والإسلام إلى دولة دينية.
وقد مارسوا نهجهم بكل راحة عندما كانت المنابر الدينية ساحة مفتوحة، وكانت بيوت العبادة مرتعا لنشر كل برامجهم المنظورة وغير المنظورة، فالمهم هو اصطياد الناس إلى حظيرتهم وجرهم إلى أهدافهم الخفية. وكانت البحرين خلال العقود الأربعة مفتوحة الأذرع لمثل تلك القوى السياسية المتلفعة بأقنعة الدين، فلم يستطع البسطاء ولا المنتفعون والنفعيون رؤية الواقع بمجهر الحقيقة، ففعلوا ما يمكنهم فعله وركوب الموجة، فتمددت يد الإخطبوط من خلال هيمنتها على المراكز المالية والمؤسسات الاستثمارية، الممتدة من منابع النفط والفورة النفطية في السبعينات التي تمركزت في سويسرا فحطت هناك رحالها لكي تتحصن بالبيوتات المالية الكبرى ثم عادت إلينا بمسميات مالية معروفة فكان دورهم هو تمرير ودعم المؤسسات الخيرية المرتبطة بها فكراً وتوجهاً، بل ونشر الإخطبوط رعبه بحيث سلط عينيه الحمراء على الناس وبحيث لم يعد يجرؤ احد على مناقشة أية ظاهرة غريبة بما فيها صناديقهم التي اخترقت عيادات الأطباء والبرادات دون رخصة أو الاستئذان من صاحبها، فقد انتشرت الفرق الدينية “فرق التبشير !!” وهي تبشر بيوم موعود، لحلمها القادم، فكانت مستعدة لخنق من تريد خنقه عندما تصل إلى قمة السلطة، ولكنها لم تنجح في اختراق كل الاسيجة.
وعندما انتقلنا إلى مرحلة جديدة من مرحلة المشروع الإصلاحي، وبدأنا نتناقش ونجد مساحة من الحوار الحر للجميع وتم كسر حلقة وأمكنة الاحتكار الدعوي، وصارت الديمقراطية لغة للجميع، وجدت تلك المجموعات نفسها مرغمة على مواجهة الواقع الجديد، فكان عليها التخطيط لاختراق جبهتين مهمتين، الأولى المجلس النيابي والمجلس البلدي دون أن تتخلى عن منابرها التقليدية، ولكن المسار التاريخي لم يكن في صالحها دائما فقد تغير العالم وبات الإرهاب هو الوجه الأكثر بشاعة، فهو فكر إقصائي وعدواني مستعد أن يعلق المشانق كيفما أراد فيما لو أتيحت له فرصة ترويع البشر.
في مناخنا الجديد، تحولت المؤسسات الصحافية والإعلامية والمنتديات والورش والجمعيات وغيرها مكانا لنشر الوعي والوعي المضاد، فذاق ذرعهم ولم يستطيعوا تقبل الحوارات القادرة على تعريتهم وتعرية أصابعهم الخفية كأصابع الإخطبوط القاتلة، ونتيجة ضعفهم في كسب الحوارات المفتوحة والانتشار بين الجيل الجديد، فإنهم لجأوا إلى أصوات مشبوهة ودعاة رفضهم شعبنا، فتم تكميم تلك الأفواه وطردها من البلاد شر طرده، فاكتشفوا أنهم يلعبون بأوراق لم تمر، فاعتقدوا أن التآمر بأوراق المحاكم ووضع رئيس تحرير الأيام (الشايجي) والصحفي في الجريدة نفسها (سعيد الحمد) خلف قضبان السجن، يحقق لهم نصرا كبيرا ويعيد لهم الاعتبارات المفقودة، فقد خسروا الحوارات فلم يستطيعوا الرد على الأقلام الحرة التي نددت بتاريخهم وعرّت حقيقتهم. وبدلا من الدخول في مناقشات فاعلة وحرة عن واقعهم المحلي والدولي، والحديث عن تاريخهم المخزي في عالمنا العربي والإسلامي، اخذوا في البحرين مواقف لم يستغربها شعبنا، متناسين إن شعبنا لديه أيضا رؤية وحساسية سياسية لكل ما هو اعوج ومنحرف حتى وان ارتدى قناع التدين. لهذا لا تبدو معركة الشايجي والحمد ثنائية كتيار صحفي وبين طرفين، احدهم يمثل التنوير والدفاع عن الحريات ومشروعنا الديمقراطي وحق التنوع والخلاف والثاني يمثل نهج التاريخ المظلم والتعسف والإرهاب، والذي لا يرى في الأقلام الحرة إلا اصواتا لا بد من ردعها لكي يتراجع الصوت الحر في بلادنا، متناسين أن الخندق الحر صار مشعلا للضوء في وطن لن يقبل بمنهج أحادي، وتحويل الناس إلى أصوات من العبيد مسكونة بالخوف.
ما يستوجب على كل المثقفين وأصحاب الأصوات الحرة أن لا ينظروا إلى قضية الشايجي والحمد على أنها قضية مهنية ولجريدة محددة وتتحول المواقف إلى فسحة للفرجة وحسب، وإنما المعركة القلمية اليوم هي بين الحرية والظلام، بين الحق في التعبير والاختلاف والتعددية وبين القمع المطلق والاستبداد الفكري والإرهاب بمسميات جديدة وأقنعة متلونة، فأصابع الإخطبوط كانت وما تزال خفية علينا لفهم جوهرها الحقيقي.
 
الأيام   6 يونيو 2008