المنشور

إلى أين تسير عربة الوحدة الأوروبية؟


خرجت فكرة الاتحاد أو الوحدة الأوروبية من محاولات مضنية لوضع حدٍّ وحلول للمشكلات التاريخية المزمنة بين الألمان والفرنسيين والمنافسة التقليدية بينهما على النفوذ والسيطرة وهما خارجين من الحربين العالميين وخصوصاً فيما يتعلق بنتائج الحرب العالمية الثانية، التي همشت القوى القومية المتطرفة من جهة وأنهكت اقتصاديات دول أوروبا من جهة أخرى، مما سهّل تلمّس مخرجٍ جماعي عن المآسي التي حلت فيما مضى بالشعوب الأوروبية.
نفذت الفكرة تلك بدءاً بتعاون نقابي في الحقلين الاقتصاديين والصناعيين الأساسين، الفحم والحديد، حيث توصل البلدان المذكوران إلى نوع من الاتفاق والتعاون، ما لبث إلا أن تحول إلى مشروع واعدٍ، عبّر عنه في حينه وزير خارجية فرنسا ‘’روبرت شومان’’ في العام 1950 حينما صرح عن خطته التي حملت اسمه مستقبلاً، الأمر الذي أدى إلى توصل ستة دول أوروبية في ابريل/ نيسان العام 1951 إلى التوقيع على اتفاقية لتنظيم صناعتي الحديد والفحم، انطلاقاً من المصالح المشتركة لتلك الدول المتكونة من النّدّين السابقين ألمانيا وفرنسا إضافة إلى ايطاليا، هولندا، بلجيكا، ولوكسمبورغ، حيث صارت هذه الأخيرة مركزاً إدارياً لتلك المنظمة الوليدة.
بعد النجاحات المتراكمة توصلت الأطراف السداسية المعنية للتوقيع على اتفاقية ‘’روما’’ في العام ,1957 التي وضعت حجر الأساس الابتدائي لدول الاتحاد الأوروبي، من خلال بنود الاتفاقية التي شملت الكثير من التسهيلات والتعاون الشامل في مختلف الصّعُد، لعل أهمه الحرية الجمركية والانتقال الحر للناس والسلع بين تلك الدول. طُبقت الاتفاقية بنجاح ملحوظ حتى السبعينات من القرن الماضي، تحديداً في ابريل/ نيسان العام 1972 حينما اتفقت الدول المذكورة على تنظيم عملية صرف العملات الوطنية وتدشين فكرة العملة الموحدة ‘’اليورو’’ (أصبحت حقيقة قائمة بعد 30 عاماً). وتوطدت مسيرة العملية الوحدوية الأوروبية من سداسية إلى تساعية، بانضمام ثلاث دول إضافية للستة الأساس، الدانمرك ، جمهورية ايرلندا، والمملكة المتحدة، في مستهل يناير/ كانون الثاني العام ,1973 وان ظلت الأخيرة ومازالت خارج نطاق العملة الموحدة ‘’اليورو زون’’.
بسقوط الدكتاتوريات اليمينية والحكومات شبه العسكرية في جنوب القارة مثل اسبانيا، البرتغال، واليونان توفرت إمكانات جدية أمام أجندة الاتحاد الأوروبي بُغية التطور وتشجيع الدول المذكورة للانضمام إلى المنظمة الأوروبية. بحلول 1986 اختفت الضرائب الجمركية فيما بين دول الوحدة الأوروبية وتوسعت من تساعية إلى 12 دولة، بانضمام: النمسا، فنلندة، والسويد إليها، ثم ما لبثت وصارت 15 دولة في 1987 بانضمام اسبانيا، البرتغال، واليونان.
أما الحدث التاريخي الأبرز والأهم الذي أعطى دفعة قوية لطموح الأوروبيين هو تفكك المنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا وعودة النظام الرأسمالي إلى تلك الدول في مستهل تسعينات القرن الماضي، حين وقعت دول الوحدة الأوروبية اتفاقية ‘’ماستريخت’’ في فبراير/ شباط ,1992 تمخضت عنها مع بداية 1993 محاولات جدية لتكوين السوق الموحدة. وتلا ذلك في يونيو/ حزيران 1997 معاهدة ‘’أمستردام’’ المنبثقة والمكملة اتفاقية ‘’ماستريخت’’.
وشهدت العام 1997 المباحثات والمفاوضات مع دول أوروبا الشرقية والوسطى العشر. وفي بداية الألفية الثالثة تغيرت وتطورت معاهدة ‘’أمستردام’’ إلى اتفاقية’’ نيس’’، التي عنت بمسألة توسيع عضوية دول الوحدة الأوروبية، وحددت أهمية الاستفتاءات العامة في الدول الأوروبية لتلك الاتفاقية، التي تعثرت من جراء تصويت بعض الأعضاء ضدها، الأمر الذي حدا إلى تغييرها وإيجازها، في ما عرف أخيراً باتفاقية ‘’لشبونة’’، المُعَرّضة هي الأخرى لعدم الإقرار والإجماع الجماعي. والجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن تلك الاتفاقيات ما برحت تتغير تباعا طيلة السنوات الأخيرة ومرد ذلك أنها لم تحظ بالإجماع من قبل برلمانات البلدان الأعضاء أو لم تقر من قبل الرأي العام المحلي في كل بلد حينما تعرض للتصويت، كما حدث قبل أسبوعين حينما صوت الشعب الايرلندي ضد اتفاقية ‘’لشبونة’’ ومن قبلها في فرنسا وهولندا ودول أخرى!
صدرت العملة الموحدة ‘’اليورو’’ في العام 1999 بشكل ابتدائي، بديلة للعملات الوطنية. توطدت مجالها مع حلول الألفية الثالثة باشتراك اليونان في ‘’اليورو زون’’ في العام .2001 في الأول من يناير/ كانون الثاني 2002 تم تدشين ‘’اليورو’’ عملة رسمية في 12 دولة أوروبية في البداية وتوسعت بعد ذلك في بقية البلدان الأوروبية، ثم انتشرت عالمياً عملة ساخنة رئيسة تقارع الدولار والعملات الرئيسة الأخرى، الأمر الذي يعبّر بالطبع عن تعزيز الاقتصاد الأوروبي على مستوى العالم.
وفي الأول من مايو/ أيار 2004 انضمت 8 دول (من أصل 10) إلى بقية الأعضاء الأساس الـ 15 وهي، بولندا، المجر، جمهورية التشيك، سلوفاكيا، سلوفينيا، لاتفيا، لتوانيا، واستونيا، موقعين جميعهم على اتفاقية ملزمة لإصدار مسودة الدستور الأوروبي، منهين بذلك انقسام القارة الأوربية الذي كان قد دُشن قبل 60 عاماً في مؤتمر يالطا. وها هي مجموعة الدول قد وصلت 27 دولة، بعد انضمام قبرص ومالطا (23 + 2 = 25) ثم رومانيا وبلغاريا (25 + 2= 27) عدا اثنتين من المرشحتين وهما، كرواتيا وتركيا، فإن هناك تشجيعا جدّيا لجذب أوكرانيا وحتى جيورجيا (مرحبتان جدا)، ولو ان هذه الخطوات سوف تغيظ روسيا وتوتر العلاقات الأوروبية، الآسيوية والدولية.
على أية حال. يبدو أن ‘’الوحدة الأوروبية’’ سائرة لمصيرها التاريخي المحتوم، المنطلق من المصالح المتبادلة لدول القارة الأوروبية وحاجتها الموضوعية للتعاون والتكامل الشاملين وضرورة تشكيل قطب اقتصادي جبار، يمَكّن الأوروبيين من الاستمرارية في المنافسة على صدارة الهيمنة العالمية للقوى الكبرى، ولو أن الاستفتاء السلبي الايرلندي الأخير قد عمل على تباطؤ حركة الطموح الأوروبي نحو الوحدة الأوروبية والتوسع شرقاً وجنوباً، على حساب الاستقرار العالمي المنشود!
 
صحيفة الوقت
29 يونيو 2008