المنشور

الذود عن المصالح في العلاقات الروسية الأوروبية

منذ أشهر كانت مدينة خانتي – مانسيسك الواقعة في أطراف روسيا الشمالية تستعد للحدث الذي شهدته يومي الخميس والجمعة الماضيين. في المدينة التي ازدانت بمئة وخمسين ألف وردة عقدت القمة الـ 21 بين روسيا والاتحاد الأوروبي. ورغم أن الحدث كبير، إلا أنه لم يكن بين الضيوف الأوروبيين شخصيات من الوزن الثقيل. أبرز الحاضرين ممثل الاتحاد الأوروبي الأعلى لشؤون الخارجية والأمن، رئيسة المفوضية الأوروبية (حكومة الاتحاد الأوروبي) جوزيه مانويل باروزو، ويانيش يانسا رئيس وزراء جمهورية سلوفينيا التي ترأس الاتحاد الأوروبي حالياً. عشاء غير رسمي تبعته مشاهدة لمباراة كرة القدم بين روسيا وإسبانيا، وفي وقت مبكر من صباح الجمعة تهيأت الفرصة لإجماع واحد على الأقل بتأجيل الافتتاح ثلاث ساعات.
ومع ذلك للحدث أهميته من نواح عدة. في ديسمبر/ كانون الأول الماضي انتهى سريان مفعول الاتفاقية السابقة. وكان من الممكن تمديدها ببساطة. لكن كلا من موسكو وبروكسل مقتنعتان بأنها لا تلبي راهن علاقاتهما ومستقبلها. غير أن عقبتين اعترضتا، فأفشلتا المفاوضات التي جرت في سمارا الروسية العام الماضي بشأن الوثيقة الجديدة. حالت بولندا وليتوانيا دون ذلك بسبب مطالب اقتصادية وسياسية من قبلهما تجاه روسيا. والآن تمكن الاتحاد الأوروبي بصعوبة من إزالة اعتراضات البلدين.
حضر الطرفان وهما مدركان لاختلاف الرؤى والمصالح بينهما. الرئيس الروسي قال قبيل ساعات من اللقاء إنه يجب أن يسفر عن «وثيقة مهمة، لكنها يجب ألا تثقل بأشياء مطلقة ومحددة. يجب أن تكون بمثابة تصميم إطاري يضع القواعد الأساسية لتطور العلاقات على مدى السنوات المقبلة». وتحدث ميدفيديف عن «خارطتي طريق»؛ الأولى لفضاء التعاون الاقتصادي الشامل، والثانية، بشأن الأمن الداخلي في أوروبا. لكنه أكد أن «الأهم بالنسبة إلينا اليوم هو إلغاء نظام تأشيرات الدخول»، أما المفوضة الأوروبية للشؤون الخارجية بينيتا فيرريرو والدنر فقد أكدت أن الاتحاد الأوروبي متجه نحو «اتفاقية طموحة، متعددة الجوانب، ملزمة قانوناً وتشمل كل المجالات الرئيسة للتعاون فيما بيننا».
الخلاف واضح بشأن شكل الوثيقة المنشودة، لكن الخلاف أعمق بشأن ما ستتضمنه من محتوى. مدينة خانتي – مانسيسك المضيفة هي نفسها تشي بالقضية الأساس بالنسبة إلى الأوروبيين. شركة الطاقة المساهمة هنا تحتل المرتبة الأولى في روسيا من حيث إنتاج النفط والطاقة الكهربائية، والثانية في إنتاج الغاز الطبيعي. وكما أشارت صحيفة «غازييتا»، فهنا بالذات تتشكل أنهر الطاقة التي تصب في أوروبا. وفي خطابه، أكد مدفيديف أن اللقاء يكتسب مغزى خاصاً كونه ينعقد على خلفية تصاعد مشكلات الطاقة «رغم أننا عندما دعوناكم لهذا اللقاء قبل ثمانية أشهر لم يكن يدور بخلدنا مدى الحدة التي ستبلغها هذه المشكلة».
إذاً، الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى روسيا كمُصدّر لمواد الطاقة، وكسوق لتصريف المنتجات الأوروبية. وترجمة ذلك في المفاوضات تعني السعي إلى كبح أسعار مواد الوقود وإطلاق العنان لأسعار المنتجات الأوروبية. كان الاتحاد الأوروبي يسعى إلى إجبار روسيا على التوقيع على ميثاق للطاقة وبروتوكول «ترانزيت» ملحق بالميثاق ويسمح للاتحاد الأوروبي بالوصول الحر إلى خطوط أنابيب النقل الرئيسة من شمال روسيا إلى أوروبا. ويصر على أن يصبح الميثاق والبرتوكول جزءين لا يتجزءان من الاتفاقية الجديدة. وفي حين تقاوم روسيا ذلك تعمل بالمقابل على إزالة الحواجز من وجه الاستثمارات الروسية في أوروبا. الحديث هنا يدور عن محاصرة الاتحاد الأوروبي محاولات شركة «غازبروم» الروسية لشراء شبكات توزيع الغاز في أوروبا.
في هذه المواجهة يستخدم الاتحاد الأوروبي الأسلحة ذاتها التي يستخدمها في التفاوض مع بلدان مجلس التعاون الخليجي: موضوعَي قمع الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان. وفي روسيا على الأقل لم يثبت الاتحاد الأوروبي مبدئيته. ففي حين كانوا يقصدون بقمع الديمقراطية إزاحة «البرتقاليين» بقيادة كوسيانوف، فإنهم لا يبدون أي احتجاج حيال ما يعانيه ناشطو وقادة القوى اليسارية الأكثر عدداً وأصالة في روسيا. كما يواجهون روسيا بتشكيلة واسعة وصارمة من المطالب ابتداء من وقف دعم أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وحتى المطالبة بتوضيحات بشأن «قضية ليفينينكو».
أشارت صحيفة «نيزافيسيمايا غازييتا» إلى أنه مع هذه العصا تلوح أوروبا لمدفيديف بجزرة التأشيرات التي طالب بإلغائها كهدف رئيس. لكنها تجعل من هذه الجزرة ملغومة بطرحها ما يشبه النظام المرن للتأشيرات بين تشديد وتخفيف. وفي هذا يمسك الاتحاد الأوروبي بالحكم في روسيا من يده المريضة. الأمر يتعلق بكبار رجال الأعمال والسياسيين المتنفذين في روسيا والذين استفادوا في عهد يلتسين والحقبة الأولى من عهد بوتين فاقتنوا بفوائض أموالهم أملاكاً مهمة في أوروبا ونقلوا عائلاتهم للعيش هناك، ولايزالون يضخون دخولهم الكبيرة من روسيا إلى الغرب. وبهذا يأتي استخدام نظام التأشيرات ليشكل أداة فعالة للضغط على كبار رجال السلطة في روسيا وممثليهم. إنهم يراهنون على إمكان أن يصبح الرئيس الجديد أكثر ميالاً للغرب، وأنه سيحتاج إلى بعض الوقت قبل أن يخرج من وصاية سلفه بوتين. ومن هنا يفهم تريُث بروكسل بشأن المفاوضات. ونظرة فاحصة لمجريات لقاء خانتي – مانسيسك الذي استغرق عشاء قصيراً «بلا ربطات عنق» وثلاث ساعات من المفاوضات فقط، تبين أن الهدف الأساسي منه كان التعرف عن قرب على الرئيس الروسي الجديد واستكشافه.
لقد أعلنت القمة أن الجولة الأولى من المفاوضات بشأن الاتفاقية القاعدية الجديدة بشأن الشراكة والتعاون ستبدأ في 4 يوليو/ تموز المقبل. وفي إجابته على سؤال صحافي دعا مدفيفديف إلى عدم شخصنة الأمور في هذا الصدد. وإذا كانت ميدفيديف بالروسية (منسوبة إلى ميدفيد) تعني الدب، فهل سيثير الدب الروسي بثقله وبطء حركته غيظ الأوروبيين وحنقهم أم أن نفَسَهم سيكون أطول؟

صحيفة الوقت
30 يونيو 2008