المنشور

باكستان‮ .. ‬السلطة‮ .. ‬الموت والمنفى

كتبنا قبل شهور قليلة مقالة بعنوان‮ »‬الرقصة الأخيرة‮« ‬وحددنا فيها ميلنا إلى نهاية الجنرال برويز مشرف وقلنا أنها بدأت تقترب من حافة الموت السياسي‮ ‬بإعلانه حالة الطوارئ في‮ ‬البلاد تحت حجج حماية النظام والمجتمع من الانهيار والفوضى والإرهاب،‮ ‬غير انه بهذا المسلك السياسي‮  ‬بروحه العسكرية‮ ‬يدخل في‮ ‬تناقض مع الديمقراطية كنهج ضروري‮ ‬للشرعية والتأييد الداخلي‮ ‬القائم على القانون ودعامة الدستور‮ .‬
ليس دفاعا عن نظام تميز بالاستبداد أو رئيس اختلف الساسة على تسميته هل هو مستبد أو دكتاتور؟ أن نسأل سؤالا مشروعا هل بإمكان أي‮ ‬شخص قيادة نظام سياسي‮ ‬في‮ ‬باكستان؟ خاصة في‮ ‬ظل ظروف بدت أصعب بكثير مع متغيرات مفاجئة لم‮ ‬يحسب حسابها مشرف نفسه،‮ ‬فبعد انقلابه العسكري‮ ‬عام ‮٩٩٩١ ‬احتاج لوقت لترويض الوضع الداخلي‮ ‬وترتيب نظام حكمه العسكري‮ ‬مع ترحيل نواز شريف من السجن إلى المنفى‮. ‬ولكن أحداث سبتمبر عام ‮١٠٠٢ ‬أدخلت الجنرال في‮ ‬متاهات صعبة وجديدة تختلف عن القضية الكشميرية ونزاع الحدود مع الهند،‮ ‬إذ باتت المشكلة داخلية وحدودية مع دولة كانت بالأمس مفتاح سحري‮ ‬وهام لمساعدة حركة طالبان في‮ ‬وجه أنظمة وحركات أفغانية لم تعجب حكومة إسلام آباد‮ .‬
‮ ‬تحولت الحدود الأفغانية‮ – ‬الباكستانية إلى صداع جديد ومكافحة الإرهاب بقيادة تنظيم القاعدة المتحالف مع تنظيم حركة طالبان الباكستانية وقبائلها الجبلية مأزقا جديدا‮. ‬وبرغم تدفق العون الأمريكي‮ ‬من العتاد والأسلحة طوال التسع سنوات لم تستطع إنقاذ حكومة مشرف من الخروج من دائرة الأزمة‮. ‬ولكي‮ ‬يطفئ مشرف الحريق الداخلي‮ ‬كان عليه كعسكري‮ ‬أن‮ ‬يوظف السياسة إلى جوار القوة لتصبح المفتاح السياسي‮ ‬لامتصاص كل ما هو داخلي‮ ‬يصب في‮ ‬صالح التيارات الدينية وغير الدينية‮. ‬وبدلا من بناء جبهة ديمقراطية عريضة متوازنة تحترم الشرعية وتلم كل أطياف المجتمع المدني‮ ‬نراه قد انغمس في‮ ‬وحل القوة العسكرية بحجة مكافحة الإرهاب والتشدد الديني‮. ‬ترى هل كان من الصعب على الجنرال بعد انقلاب ‮٩٩٩١ ‬أن‮ ‬يقنع ثلاثة أحزاب كبيرة العمل تحت مظلته ؟ ولكن هناك سؤال‮ ‬يبدو أكثر أهمية هل بإمكان الجنرال الانقلابي‮ ‬أن‮ ‬يثق بأحزاب أخرى خارج بطانته العسكرية ؟ وإذا مع وضعنا السؤالين في‮ ‬مواجهة بعضهما البعض ندخل في‮ ‬مفارقة التناقض بين منهجين لن‮ ‬يوافق عليهما كلا الطرفين فلا المعارضة مستعدة للتعاون مع شخصية عسكرية انقلابية صادرت المؤسسات الدستورية وخلقت حالة من التوتر الداخلي‮ ‬وقد تعمقت مع رهن باكستان كقاطرة للسياسة الأمريكية في‮ ‬المنطقة بعد أحداث سبتمبر‮ .‬
‮ ‬لقد برهنت السنوات التسع العجاف على عجز الجنرال عن إدارة البلاد بحكمة وتوازن داخلي،‮  ‬وكلما تلاحقت الأزمة تلو الأزمة نراه‮ ‬يتحرك متأخرا أو‮ ‬يلهث من اجل حلول مؤقتة وتكتيكية المناعة أزاحها الجنرال ضد حكومته حينما ادخل البلاد في‮ ‬حالة الطوارئ خالقا جبهة عريضة من تحالف معارض وضع أمام نفسه هدفا واحدا لا‮ ‬غير هو رحيل مشرف النهائي‮ ‬من السلطة‮  ‬وليس فقط خيار احد المنصبين كما كان قبل شهور أثناء التفاوض مع حزب الشعب‮. ‬بإمكاننا اختزال العوامل الأساسية التي‮ ‬عجلت بسقوط مشرف المروع والتراجيدي‮ ‬ومن أهمها‮: .‬عزلة حكومة مشرف في‮ ‬الداخل والخارج وان بدا رمزا عالميا لمكافحة الإرهاب وحليفا أساسيا للولايات المتحدة‮. ‬
‮.‬تمتع أطياف المعارضة الثلاث بقاعدة شعبية في‮ ‬مناطق القبائل والجبال إلى جانب المدن والمراكز الحيوية في‮ ‬المجتمع المدني‮. ‬
‮.‬تسليم الجنود أسلحتهم ورفضهم للخدمة والتضامن مع القبائل والحركات الإسلامية‮. .‬كان لعصيان الجيش ذاك مؤشر واضح لتصدع بنية المؤسسة العسكرية والأمنية،‮ ‬وبذلك‮ ‬يفقد مشرف آخر جدار‮ ‬يحتمي‮ ‬به‮.‬
‮.‬شعور الجيش بالعزلة وكان عليه أن‮ ‬يختار بين المعارضة السياسية ونظام مشرف أو أن‮ ‬يخبر مشرف بوضعه ومأزقه إذ من الصعب أن‮ ‬يصبح الجيش الباكستاني‮ ‬محايدا،‮ ‬فان ذلك القرار وحده كافيا لمقتل مشرف الأمني‮. ‬
‮.‬قيادة المحامين والقضاة لحركة احتجاج فاعل ومؤثر في‮ ‬المراكز الرئيسة كإسلام آباد وراولبندي‮ ‬ولاهور وكراتشي‮. ‬
المسألة الأهم ماذا بعد رحيل مشرف لمنفى الرفاهية إذ ليس بإمكان المعارضة محاكمته‮  ‬بعد أن قدمت الأطراف المتحالفة ضمانات برحيله لقوى تعتبرها حليفة أساسية لباكستان ولكل نظام جاء ورحل‮ . ‬ما بعد مشرف ليس حل المعضلات الثانوية كعودة القضاة وترتيب الوضع الاقتصادي‮ ‬والأمني‮ ‬ومعالجة مكامن الفقر والفساد والتنمية كافية،‮ ‬وإنما أهم حلقتين هما كيف‮ ‬يعالج التحالف ظاهرة التشدد الإسلامي‮ ‬ومكافحة الإرهاب الحليف مع تلك القنوات المتشددة كحركة طالبان الباكستانية وغيرها وتنظيم القاعدة المتعاون معها‮ . ‬والحلقة الجوهرية الأخرى،‮ ‬كيفية اقتسام المنتصرين مقعد الرئاسة ومنصب رئيس الوزراء،‮ ‬فمن السهل حسم مقاعد النواب المنتخبة،‮ ‬غير أن الأصعب هو حسم مقعد سياسي‮ »‬الرئاسة‮«  ‬ظل في‮ ‬باكستان مهتزا على الدوام ومتحركا بين الموت والمنفى‮ . ‬لقد‮ ‬غنى الشعب الباكستاني‮ ‬للرئيس الجنرال‮ »‬ارحل‮« ‬فهل تنتهي‮ ‬تلك‮ »‬الأغنية الباكستانية‮« ‬في‮ ‬تاريخ بلد متقلب أم تستمر بلا نهاية‮ .   ‬

صحيفة الايام
31 اغسطس 2008