المنشور

نحن وعبد الناصر


 مساهمة أمين عام المنبر التقدمي في ملف

صحيفة “الوقت” بمناسبة ذكرى رحيل جمال عبد الناصر

 

(1)

لا أعرف إلى أي مدى يبدو طبيعياً بالنسبة لشخصٍ يساري الهوى مثلي أن أقول بأن جمال عبد الناصر بالذات هو من قادني إلى الفكر اليساري والاشتراكي. ولذلك حكاية تعود  إلى أيام صباي في نهاية الستينات، حين وقعت في يدي، وللمصادفة السعيدة، أعداد من مجلات مصرية قديمة  معروفة مثل “المصور” و”آخر ساعة” و”روز اليوسف”، تعود إلى نهاية الخمسينات، حيث رحت أتلقف سطورها وصورها. 
كان جمال عبدالناصر هو الموضوع المُهيمن في تلك المجلات بصورهِ التي تُبرز ما في شخصيته المهيبة بقامته الطويلة من كاريزما وجاذبية وقوة حضور. بعض تلك المجلات تعود للفترة التي تعرض فيها جمال عبدالناصر لمحاولة الاغتيال الشهيرة في المنشية، وكانت صفحات كثيرة من تلك الأعداد كرست للحديث عن شخص عبدالناصر وطفولته وشبابه وحسه الوطني العالي وعدائه العميق للاستعمار البريطاني. 
القواعد العسكرية البريطانية كانت يومها موزعة على مناطق البحرين، والبلد تضج بالشعور الوطني المعادي للاستعمار، وكان من شأن تلك المقالات أن تُلهب حماسي، وتُعلي الإحساس الوطني في نفسي، وأذكر تلك الحال التي انتابني يومها حين وجدت نفسي مأخوذاً بشخصية هذا الرجل للدرجة التي رحت فيها أخط أسمه بالطبشور على لوحة الفصل الدراسي في الفترة بين حصتين.
الولع بجمال عبد الناصر قادني إلى الفكر التقدمي والديمقراطي، عن طريق أحد أقاربي، الذي كان منذ ذلك الحين عُضواً  في جبهة التحرير الوطني، حيث عبرت له عن إعجابي الشديد بشخصية عبد الناصر ودوره، وكان ذلك المدخل الذي من خلاله تعرفت على الأفكار التقدمية، عبر ما  أتاحه لي هذا القريب من إطلاع ٍعلى كتب وروايات ذات نزوع يساري.
هذه القراءات لم تؤثر أبداً على محبتي العميقة لجمال عبدالناصر وفخري به.  ومثل الكثيرين يومها بكيت بحرارة حيث سمعتُ من الراديو خبر موته، ومن المفارقات أني التحقت بكلية الحقوق في جامعة القاهرة في عام 1974 في ذروة الحملة على العهد الناصري في منتصف السبعينات، يوم راحت القوى الكارهة للناصرية، وقد استوى الأمر يومها لسلفه أنور السادات، تُصفي حسابها مع الرجل وعهده بعد غيابه.
 
 
(2)
 
إن بدا هذا المدخل شخصياً بعض الشيء، فذلك لكي أقول أن شخصية عبد الناصر أسهمت في تشكيل الوعي الوطني الجديد لجيلٍ، وربما لأكثر من جيل، في البحرين، وظل هذا الرمز الوطني والقومي الكبير، بالتحولات السياسية والفكرية التي مرّ بها، مُلهما للكثيرين، في حياته، أو حتى بعد مماته المبكر.
ولم يكن من شأن شخصية بهذه الأهمية والتأثير إلا أن تفعل ذلك، في البحرين كما فعلته في البلدان العربية الأخرى، وحتى من موقع الاختلاف، ظلّ عبد الناصر محل تقدير واحترام، وعلى الدوام نُظر إلى وجوده كدعامة رئيسية من دعامات الأمل والتفاؤل في مستقبل عربي أفضل.
ووجد هذا التعلق بعبد الناصر وبمصر الناصرية تجلياً له في العلاقة التي حكمت هيئة الاتحاد الوطني بزعامة عبد الرحمن الباكر ومصر، فقادة الهيئة كانوا مأخوذين بالناصرية، ووجدوا في مصر سنداً ودعماً لهم، وهو ما أثار حنق المستشار البريطاني الذي ظل يُكرر أن الهيئة مدعومة من مصر، وتأتمر بتوجيهاتها.
ومن التجليات كذلك أن مصر عبد الناصر وافقت على أن تفتح جبهة التحرير الوطني البحرانية مكتباً لها في القاهرة أداره لسنوات طويلة القائد الوطني الراحل أحمد الذوادي، وفي القاهرة بالذات طبع محاضراته ومقالاته الداعية للنضال ضد الاستعمار البريطاني، ومن هناك نسج العلاقات الأممية مع المنظمات الدولية مثل منظمة التضامن الأفرو آسيوي ومجلس السلم العالمي، ومع حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وكذلك مع المنظمات الاجتماعية في الاتحاد السوفيتي والبلدان الاشتراكية التي عن طريقها  ابتعث الطلبة البحرينيون للدراسة الجامعية في تلك البلدان، ولم يغادر أحمد الذوادي القاهرة إلا بعد رحيل عبد الناصر ومجيْ السادات.
 
(3)
 
في ظروفٍ أخرى، كان يمكن للهزيمة المُدوية في يونيو/ حزيران 1967 أن تكون باعثاً على إعادة النظر في شخص جمال عبد الناصر وفي دوره، كونه الرجل الأول في النظام الذي تعرض للهزيمة، وهي الهزيمة التي كشفت أخطاء وعثرات وثغرات هذا النظام.
لكن الحس العفوي عند الناس، بما في ذلك في البحرين ذاتها، جعل الناس ترى في وجوده، رغم مرارة الهزيمة، تمسكاً بالأمل في  التغلب على ما أصاب الكرامة من جرحٍ وهوان، ولم يكن مُستغرباً والحال كذلك، أن تكون البحرين بين البلدان العربية التي شهدت مسيرات تُطالبه بالعودة عن استقالته بعد الهزيمة، وأن تكون كذلك  بين البلدان التي شهدت مسيرات حزينة وجنائز رمزية بعد وفاته.
لذلك علاقة بسيكولوجيا الجماهير التي تنزع عادةً إلى التعلق بشخصٍ ترى فيه الملاذ عند الشدائد، والمنقذ من النكسات والخيبات، وهي من كاريزما هذا الشخص وقوة حضوره وشخصيته تتمسك بالرجاء في أن يكون هو قائدها نحو النصر، وهو شعور يزداد رسوخاً عند الغالبية الساحقة من الجماهير المحكومة بعفوية العواطف، أكثر مما هي محكومة بالوعي العلمي الذي يُمكنها من استخدام أدوات التحليل لما يدور من تحولات، وهو الوعي الذي يمكن أن يضع دور الفرد في التاريخ، في مكانه الصحيح، دون انتقاص، ولكن أيضاً دون مبالغة.
 
(4)
 
لا يمكن عند الحديث عن جمال عبد الناصر، بحرينياً، إلا الوقوف أمام الجانب الإشكالي في شخصيته على صعيد العلاقة بين القوى السياسية حديثة النشأة في البلد، يومذاك من ماركسيين وقوميين.
فالصدام الحاد الذي حدث بين عبد الناصر والشييوعيين واليساريين في مصر، حين أمر باعتقال  وسجن قادتهم وكوادرهم في السنوات الأولى من حكمه، انعكس على فصائل حركة التحرر الوطني العربية في أكثر من بلد، خاصة وان ذلك ترافق مع التوتر الذي طبع العلاقة بين مصر الناصرية والعراق القاسمية، نسبة إلى قائد ثورة الرابع عشر من تموز/ يوليو 1958  في العراق عبد الكريم قاسم، والمدعوم، في حينه وبقوة، من الحزب الشيوعي العراقي الذي كان في أوج نفوذه.
كانت البحرين بين البلدان العربية التي انعكس عليها هذا التوتر في صورة احتكاكات بين الماركسيين، من أعضاء وأنصار جبهة التحرير الوطني البحرانية من جهة، وبين أعضاء ومناصري حركة القوميين العرب وتفرعاتها من جهة أخرى، وعن هذا كتب رفيقنا الراحل أحمد الذوادي مقالاً، يجده الباحث في الكتاب الذي جُمعت فيه الكثير من محاضرات وكتابات ومقالات الذوادي، وصدرعن دار الفارابي في بيروت عام 1980 تحت عنوان:” قضايا التحرر والديمقراطية في البحرين والخليج العربي”، باسمه الحزبي: سيف بن علي.
في هذا المقال أشار احمد الذوادي إلى أن هذا الصراع ألحق ضرراً بالنضال الوطني ضد الاستعمار وأعوانه، وأن الحركة الوطنية في البحرين سرعان ما تغلبت على ذلك من خلال العمل الميداني المشترك لمناضليها، والذي وجد أبرز تجلياته في انتفاضة مارس 1965، حين اقترب هؤلاء المناضلون من بعضهم بعضاً، فوجدوا أن ما يجمعهم ويوُحدهم أكثر بكثير مما يفرقهم.
حدة الخلاف بين عبد الناصر والماركسيين خفت، لا بل وانكسرت، في نتيجة الانعطافة التي حدثت في سياسة وفكر الرجل نفسه، على ضوء قراءته الصحيحة لتوازن القوى الدولية يومذاك، فإزاء الحصار الذي فُرض على مصر، خاصةً بعد العدوان الثلاثي، من قبل الدول الغربية، أبرم صفقة السلاح الشهيرة مع تشيكوسلوفاكيا، وعقد تحالفاً مع الاتحاد السوفيتي، من نتائجه بناء السد العالي، وخرجت العناصر اليسارية من السجون والمعتقلات ليكون لها دور محوري في الحياة الثقافية والسياسية في مصر، خاصة وأنهم، رغم سنوات اعتقالهم الطويلة، لم يحملوا ضغائن تجاه عبد الناصر.
كان لمثل هذه الانعطافة أن تترك آثارا بعيدة تخطت مصر، وشملت مكونات حركة التحرر الوطني والقومي في البلدان العربية، بما فيها البحرين.
 
صحيفة الوقت
28 سبتمبر 2008