المنشور

خـارج الطائفــة


ذات أمسية سألني الصديق جعفر الباقر، بحدة الغيور، لماذا تبدو وكأنك تجاهر بخروجك من طائفتك؟ قلت له، بعفوية غير طبيعية، أنا خارج طائفتي!



لا يمكن أن تكون مثقفاً داخل طائفتك، ولا يمكن أن نراهن على مثقف داخل طائفته، وظيفة المثقف أن يُوسّع إطار الجماعات، ليكون بمقياس الوطن لا مقياس الطوائف. وتلك المهمة تتطلب منه أن يمارس نقداً حقيقياً لأطر الطائفة، ويحولها من مسلمات عقيدية لا يطالها الشك إلى معطيات تاريخية لا ترقى إلى اليقين. وتتطلب هذه المهمة أن يكون المثقف من الناحية المعرفية خارج طائفته.


وحجة التمييز مع إقراري بوقائعه الفاقعة، لا أجد فيها تبريراً لبقائي داخل الطائفة، فالمثقف الذي يبقى داخل طائفته، يظلم طائفته ووطنه؛ لأنه يوهمها بأن هذا هو شكل نظامها الطبيعي بل والإلهي، ويميز وطنه بدوائر مغلقة على بعضها.


ما معنى أن أكون خارج طائفتي؟


يعني أن تكون طائفتي موضوعاً أشتغل عليه، لا إطاراً أستند إليه. ما الفرق بين الحالتين؟ ما الفرق بين أن تكون الطائفة موضوعاً تشتغل عليه، وأن تكون إطاراً تستند إليه؟ في الحالة الثانية تكون أنت في الطائفة، تستند إليها في تعريف ذاتك وتحديد هويتك وتعيين مركز قوتك في علاقتك بالآخرين.


الإطار يسندك حين تبحث عن منجاة خلاص أخروية تضمن بها الجنان، أو حين تبحث عن قوة تستند إليها وسط صراعاتك الاجتماعية. الإطار هنا طوق ينجيك ويقويك. وحين تكون خارج هذا الطوق تفقد قوتك ونجاتك. فأنا خارج طائفتي هنا، بمعنى أني خارج هذا الطوق، بمعنى أن لا نجاة لي ولا قوة. 



والإطار من جانب آخر يحدد لك إمكان الرؤية، فأنت ترى العالم والغيب والآخرة والناس من خلال إطار. والطائفة بما تتوافر عليه من قيم وأوامر ونواهٍ تؤطر لك ما هو صحيح وما هو خطأ، ما هو حلال وما هو حرام، ما هو أفضل وما هو أدنى. بهذا الكل المركب تمثل الطائفة إطارَ رؤية، وأنا خارج طائفتي بمعنى خارج إطار هذه الرؤية.


إذاً أنا، بالنسبة لمن هم في طائفتهم، بلا رؤية ولا قوة ولا نجاة. وحين تدفع بهذا الخروج إلى مآلاته الأكثر قتامة، فأنا أعمى وضال وضعيف وهالك، هكذا يمكن أن تقابل بين الرؤية في طوق الطائفة والعمى في الخروج من هذا الطوق، والقوة في إطارها والضعف في الخروج من إطارها، والنجاة في طوقها والهلاك في الخروج من هذا الطوق. إنه السقوط إذاً. الخروج من إطار الطائفة هو سقوط في جحيم العمى والضلال والضعف والهلاك.


أنا خارج طائفتي، يعني أن أُعرِّف «أناي» تعريفاً لا يستند إلى هذا الإطار، التعريف بهذا الإطار يجعل «أناك» داخل الطائفة، يجعلك محتوى بها، ولأنها تسبق وجودك، فهي تمنحك تعريفها الجاهز قبل ولادتك. هي تضع بطاقتها المعتَّقة على «أناك»، فتكون ابنها البار. وحين تكون «أناك» من غير هذا التعريف، الذي يسبقك، تكون خارج طائفتك. أي خارج ما يسبقك. التقدم يتحدد بهذا السبق. أن تُمّكن طائفتك من أن تسبق أناك، أو أن تُمّكن أناك من أن تسبق طائفتك. حين تتقدم أناك على طائفتك فأنت تسبقها. وحين تتقدم طائفتك على أناك فهي تسبقك. من هنا فأنا خارج طائفتي، بمعنى أني متقدم عليها في تعريف ذاتي. وأكون طائفياً بقدر ما أسمح لها أن تستبق تعريفي.


أنا خارج طائفتي، يعني أني خارج إطارها المعتمد. وإطار الطائفة المعتمد هو مجموع النصوص التي ثبّتتها في التاريخ بوصفها كافية وصحيحة لتعريف ذاتي والعالم والأشياء، ليس إطاري المعتمد في فهم العالم «الكافي»، ولا «صحيح البخاري»، هما ليسا معتمدين لدى «أناي» الخارجة.


أنا خارج طائفتي، أي خارج هذين المعتمدين. لا أعطيهما الحق في أن يسبقا «أناي» في تعريف ذاتي وتعريف عالمي وتحديد نجاتي وتبصير رؤيتي وتقرير خلاصي. أنا خارج طائفتي حين أجعل من هذين المعتمدين موضوعاً أشتغل عليه، لا إطاراً يشتغل فيّ. حين أُخضعهما إلى التاريخ وصراعاته ودنيويته ونسبيته وسلطته في تشكيل الحقيقة.


من غير تحويل الطائفة ومعتمدها الذي يحدد هويتها وأساسها الذي تقوم عليه، إلى موضوع اشتغل عليه، لا يمكن أن أكون خارج طائفتي. ومن لا يكون كذلك سيبقى طائفياً.


أن أكون خارج طائفتي بهذا المعنى، أجعل الدولة خارج الطوائف. والدولة التي لا يكون مفهومها في بناء المواطن قائماً على هذا الخروج، لا يمكنها أن تكون إلا دولة طائفة، ودولة الطائفة لا تجد مهمتها الطائفية إلا في تثبيت هذا الإطار وتمكينه من أن يحكم قبضته على الوطن، كما هو الأمر عندنا. كي يتخلص الوطن من طائفيته على الدولة أن تبحث لها عن مهمة غير طائفية، عن مهمة مدنية، تُمكّن الإنسان من العيش في المدينة. كيف يكون ذلك من جانب الدولة وجانب الطوائف في سياق حالتنا البحرينية؟ سأجيب عن ذلك من خلال الإنصات إلى خبير الحالة البحرينية الباحث فؤاد إسحاق خوري.


الوقت 5 أكتوبر 2008