المنشور

من أين لك هذا؟‮!‬

سيظل الفساد من الآفات التي‮ ‬تنخر مجتمعاتنا،‮ ‬والتي‮ ‬تقف بين الأسباب الرئيسية لهذا الانقسام المريع الذي‮ ‬نشهده بين‮ ‬غالبية فقيرة،‮ ‬معدمة،‮ ‬مهمشة ومحبطة،‮ ‬وبين الثراء الفاحش الذي‮ ‬يجد تعبيراته الفجة في‮ ‬مظاهر الترف والبذخ التي‮ ‬صارت مضرب الأمثال‮. ‬ وطبيعي‮ ‬أن الإنسان المسحوق الذي‮ ‬يلهث وراء لقمة العيش الكريمة لأطفاله وسط هذا الفساد‮ ‬يفقد بصيص الأمل في‮ ‬وضع أحسن،‮ ‬ويصاب بالقرف من كل الكلام عن العدالة الاجتماعية والقيم الذي‮ ‬يسمعه أو‮ ‬يقرأه ليلاً‮ ‬نهاراً‮ ‬من الأجهزة الإعلامية المختلفة‮.‬ يدور الآن حديث عن‮ »‬عولمة‮« ‬الفساد،‮ ‬فمفاهيم من نوع اقتصاد السوق من دون ضوابط وحرية التجارة حتى أقصى حدودها وقيم الفرد المثابر الذي‮ ‬يجري‮ ‬وراء الثروة بأي‮ ‬وسيلة وسبيل تُنعش مثل هذه الظاهرة وتُعممها‮. ‬ وفي‮ ‬المؤتمرات العالمية التي‮ ‬تناقش هذه الظاهرة‮ ‬يجري‮ ‬التأكيد على‮ »‬عالمية‮« ‬هذه الظاهرة وتفاقمها،‮ ‬بحيث لم‮ ‬يعد من الممكن التستر عليها أو مداراتها،‮ ‬بسبب سهولة الوصول إلى البيانات والمعلومات في‮ ‬هذا العالم المفتوح‮.‬ وفي‮ ‬عددٍ‮ ‬من البلدان العربية تنشط الآن جمعيات الشفافية ومكافحة الفساد التي‮ ‬صارت تدعو إلى الاعتراف بالفساد كظاهرة وعدم التستر عليه أو نفي‮ ‬وجوده عبر الادعاءات والتمويهات،‮ ‬والإقرار بأن هذا الفساد معوق أساسي‮ ‬من معوقات التنمية والتحولات الديمقراطية وحقوق الإنسان،‮ ‬والدعوة لإشاعة ثقافة وطنية تقوم على بث الوعي‮ ‬والجرأة والشجاعة في‮ ‬كشف حالات الفساد والمتورطين فيها،‮ ‬وكذلك الدعوة إلى عمل حكومي‮ – ‬أهلي‮ ‬مشترك من خلال أطر إقليمية تكون بمثابة رديف للأطر العالمية في‮ ‬مجال محاربة الظاهرة‮.‬ على أن الفساد ليس مجرد خلل إداري‮ ‬يعالج بإجراءات إدارية،‮ ‬رغم أهمية كل تدابير الرقابة على أوجه الإنفاق العام،‮ ‬وإنما هو ظاهرة اجتماعية تعود إلى ضيق القاعدة الاجتماعية للسلطة في‮ ‬البلد المعني،‮ ‬مما‮ ‬يتطلب أن تدار الدول من قبل سلطات مختلفة ومستقلة عبر توسيع القاعدة الاجتماعية لهذه الحكومات،‮ ‬وتدريب نخبها على الأداء النزيه والحرص على حرمة المال العام،‮ ‬ووضع الحدود الفاصلة بين المال العام،‮ ‬العائد لما كان‮ ‬يطلق عليه في‮ ‬العهود الإسلامية الأولى بيت مال المسلمين،‮ ‬وبين المال الخاص‮.‬ لزوم الفساد هو تعميمه ليصبح نهجاً‮ ‬متبعاً‮ ‬يغرق فيه الكل،‮ ‬فلا‮ ‬يعود بوسع أحد أن‮ ‬يحاسب أحدا،‮ ‬طالما كان الجميع متورطا فيه،‮ ‬ومن هنا جاء تعبير الفساد الصغير الذي‮ ‬غالبا ما‮ ‬يجاور الفساد الكبير ويستظل بظله،‮ ‬فالاستخدام السيئ للسلطة‮ ‬يشيع حالة عامة على أساسها‮ ‬ينخرط صغار الموظفين في‮ ‬تلقي‮ ‬الرشى،‮ ‬فتصبح الظاهرة عامة شاملة‮.‬ ثمة رقم جدير بالعناية هو أن إسرائيل تحتل المرتبة الـ ‮٠٢ ‬بين دول العالم التي‮ ‬تتمتع بالشفافية في‮ ‬مجال مكافحة الفساد،‮ ‬بشكل‮ ‬يعطيها ‮٧ ‬درجات من ‮٠١‬،‮ ‬فيما‮ ‬غالبية الدول العربية لا تنال في‮ ‬أحسن الحالات ‮٤ ‬درجات من ‮٠١ ‬ودون ذلك‮!‬ منذ أ‮٤١ ‬قرنا صاغ‮ ‬الخليفة الراشد ذلك السؤال العظيم‮: »‬من أين لك هذا«؟،‮ ‬والذي‮ ‬بات فيما بعد بمثابة قاعدة قانونية لحفظ المال العام وحمايته من النهب ومنع سوء استخدام السلطة‮.‬ من‮ ‬يجاسر اليوم بطرح هذا السؤال العظيم؟
 
صحيفة الايام
6 اكتوبر 2008